رحلة الرواية في الخمسين سنة الأخيرة

تنوعٌ يكاد يكون لا نهائياً في تقنيات السرد

كازو إشيغورو
كازو إشيغورو
TT

رحلة الرواية في الخمسين سنة الأخيرة

كازو إشيغورو
كازو إشيغورو

كيف تبدو صورة الفن القصصي في الفترة من 1970 حتى يومنا هذا؟ كيف ستكون صورته في المستقبل؟ سؤالان يجيب عنهما الناقد الإنجليزي بيتر كمب (Peter Kemp) في كتاب صدر عن «مطبعة جامعة ييل» خلال العام الماضي (2023) في 371 صفحة وعنوانه «أرض الرجوع إلى الوراء: مرشد القارئ إلى التنوع الباهر للقصص الحديثة»: Retroland: A Reader's Guide to The Dizzying Diversity of Modern Fiction.

يرمي الكتاب، كما يقول مؤلفه، إلى أن يكون خريطة طريق وخزانة زجاجية للعرض في آن. فهو دراسة لأهم الأعمال الروائية التي صدرت باللغة الإنجليزية منذ عام 1970 تقريباً حتى يومنا هذا، لا في بريطانيا وحدها وإنما أيضاً في أمريكا الشمالية وشبه القارة الهندية وأفريقيا وأستراليا والشرق الأقصى.

يرى كمب أن الملمح المميز لفن القصة في الفترة التي يعالجها هو اهتمام واسع النطاق بالماضي. وقد اقترن هذا بتنوع يكاد يكون لا نهائياً في تقنيات السرد: ثمة روايات بالغة الطول وأخرى بالغة القصر. روايات مكتوبة في صورة شعر مرسل أو مقطوعات مكونة من ثلاثة سطور. روايات مسلسلة أو مذاعة. روايات مصحوبة بصور فوتوغرافية وخرائط. روايات مكتوبة في شكل رسائل بريد إلكتروني. روايات مطبوعة بألوان مختلفة، أو يمكن قراءتها طرداً وعكساً... إلخ.

مارغريت آتوود

ومؤلفو هذه الأعمال لا يقلون عن ذلك تنوعاً فهم يشملون ساسةً، وممثلين كوميديين، وطهاةً، ومراسلين أجانب، وعارضات أزياء، وراقصات، وأبطالاً في التنس، وعازفي بيانو، ورجال دين، إلى آخره.

والراوي قد يكون رجلاً أو امرأةً أو طفلاً أو جنيناً، بل قد يكون إناءً سومرياً من 6500 سنة مضت، أو شجرة تين، أو زجاجة نبيذ، أو كتاباً، أو مبنى عالياً، أو دباً يعزف موسيقى جاز على آلة ساكسوفون. وقد تكون للشخصيات أجنحة أو قرون أو أظلاف. وقد تكون منحرفة مرضياً أو إجرامياً. وقد تجيء من مختلف مسالك الحياة. ثمة كلاب تروي قصصاً. وبطل إحدى الروايات خنزير. وثمة مصاصو دماء. وموتى يتحركون بقوة دفع خارقة. هناك روايات تستخدم آلة الزمان التي تخيلها هـ. ج. ولز، أو تتخيل عوالم بديلة تكون فيها بريطانيا مستعمرة يحكمها الاتحاد السوفياتي أو الرايخ الثالث الهتلري.

لكن المفارقة هي أن هذا التنوع الكبير متسق داخلياً، وله نسق. وهذا النسق، كما أسلفنا، هو الارتداد إلى الوراء زمنياً.

ما الصور التي اتخذتها هذه العودة إلى الماضي؟ يذكر كمب أربع صور هي (أولاً) الاهتمام بالماضي السياسي تزامناً مع تقلص ظل الامبراطورية البريطانية و(ثانياً) الاهتمام بالماضي الشخصي في حياة الرجال والنساء، وخبرات الطفولة والصدمات الناجمة عن معايشة حربين عالميتين وحروب أخرى كثيرة. و(ثالثاً) الماضي التاريخي أو أحداث الماضي وشخصياته، و(رابعاً) الماضي الأدبي أو استيحاء الأعمال الأدبية التي أبدعها كتاب عصور سالفة. ويضرب كمب أمثلة لكل نوع من هذه الفئات الأربع.

جورج أورويل

فالماضي المتمثل في الإمبراطورية البريطانية وغيرها من الإمبراطوريات قد شكل خلفية روايات بول سكوت، وسلمان رشدي، وفيكرام سث، وف. س. نايبول، وتوني موريسون، وكازو إيشيغورو وغيرهم.

من ممثلي هذا الاتجاه الروائي الأميركي جور فيدال وهو مؤلف سلسلة من سبع روايات تحمل عنواناً عاماً هو «حكايات الإمبراطورية» (1967- 2000).

والسلسلة دراسة لارتفاع وسقوط إمبراطورية الولايات المتحدة في العصر الحديث مقارنة بالإمبراطورية الرومانية: كلتاهما بدأت في صورة جمهورية ثم هجرت مبادئها الرفيعة الأولى منصاعة لمغريات القوة والسلطة والثروة. واشنطن - مثل روما- بها مبنى كابيتول ومجلس شيوخ. وكمثل يوليوس قيصر اغتيل بعض الرؤساء الأمريكيين بدءاً بإبرهام لنكولن. وفي كلا البلدين كان ثمة نظام للرق أو العبودية.

والماضي الشخصي وانعكاسه على الحاضر يتمثل على أنحاء مختلفة في أعمال توني موريسون، ومرغريت درابل وهيلاري مانتل، وجوليان بارنز، وإيان ماكوين، وآخرين.

ففي رواية كازو إيشيغورو (ياباني المولد، بريطاني الجنسية، حاصل على جائزة نوبل للأدب في 2017) المسماة «العملاق الدفين» (2015) تغيم معالم الأشياء ويخيم ضباب ثلجي على بريطانيا في العصور الوسطى وذلك بعد رحيل الرومان عنها (كان يوليوس قيصر قد غزا بريطانيا في القرن الأول ق. م) بزمن طويل. ومن خلال الظلمة نستطيع أن نتبين آثار حضارة بائدة وبهاء زائل: طرق مهدمة، وفيلا خربة كانت أرضها قديماً مرصعةً بفسيفساء جميلة. وعبر هذا المشهد المتداعي نرى زوجين عجوزين يشقان طريقهما بحثاً عن ابن مفقود. وكلاهما مصاب بفقدان للذاكرة، فهما لا يكادان يتذكران شيئاً عن ابنهما ولا عن الجانب المظلم من حياتهما الزوجية الطويلة. هذه أرض تعمرها غيلان وتنانين ورهبان أشرار وملاح زورق ينقل الناس إلى جزيرة الموتى مثل خارون في الأساطير الإغريقية، وشخصيات أسطورية من التراث الأدبي والتاريخي الإنجليزي: بيولف المحارب الملحمي ضد وحش البحيرة جرندل في قصيدة أنجلو - سكسونية قديمة، والسير جاوين أحد فرسان المائدة المستديرة.

العالم قد خطا خطوات واسعة نحو عالم كابوسي يجاوز بمراحل ما تنبأ به أولدوس هكسلي أو جورج أورويل

وبعث الماضي يتجلى في الروايات التاريخية ومن أمثلتها رواية جوليان بارنز «تاريخ العالم في عشرة فصول ونصف فصل» (1989) وفيها نرى الحياة في فلك نوح، أثناء الطوفان الذي غمر الأرض، من منظور دودة آكلة للخشب تمكنت من التسلل إلى الفلك. ورقعة خيال الكاتب واسعة تجلب إلى الرواية غرق الباخرة تايتانيك، ورحلة كولومبوس لاكتشاف العالم الجديد، وقارباً أسترالياً يحاول النجاة من إشعاعات انفجار نووي، وسفينة فضاء.

وأخيراً فهناك استيحاء التراث الأدبي المنحدر إلينا عبر العصور، وهو ما قد يتخذ صورة التقاط شخصيات قصصية من أعمال أدبية سابقة مثل دراكيولا أو ديفيد كوبرفيلد أو شرلوك هومز أو جيمز بوند، والتنبؤ بما سيؤول إليه مصيرها. ومن أمثلة ذلك رواية الروائي الأمريكي جون أبدايك المسماة «غرترود وكلوديوس» (2000) وهي استيحاء تخيلي لمسرحية شكسبير «هاملت» (غرترود هي أم هاملت، وكلوديوس هو العم الذي قتل أبا هاملت)... ويقيم أبدايك تقابلاً بين عقلية العصر الحديث وعقلية العصور الوسطى مبرزاً التباين بين اتجاهاتهما الوجدانية والسلوكية.

كيف ستكون صورة القصة في السنوات المقبلة؟ يقول كمب إن العالم قد خطا خطوات واسعة نحو عالم كابوسي يجاوز بمراحل ما تنبأ به أولدس هكسلي في روايته «عالم جديد جميل» (1932) أو جورج أورويل في روايته «1984». أما إذا آثرنا أن ننظر إلى النصف المليء من الكوب فسنجد أن الصورة ليست سواداً كلها. إن هـ.ج.ولز الذي كان متشائماً في قصصه العلمية الأولى قد أصبح أكثر تفاؤلاً في أعماله الأخيرة، وبدأ يتطلع إلى مستقبل جديد للبشرية يتكئ على إيمان بالتقدم. وتشاؤم الروائية الكندية مرغريت أتوود في روايتها المسماة «حكاية الخادمة» (1985) قد أفسح الطريق في ثلاثيتها المسماة «أوريكس وكريك» (2003) لرؤية أكثر إشراقاً. والأمر كله مرهون بالدرب الذي يسلكه الإنسان (ويصوره الأدب) في المستقبل: أيحافظ على البيئة الطبيعية، ويمحو أسباب الصراعات السياسية، ويضع موارده في خدمة البشر، أم يمعن في شن حروب لا تجلب إلا الخراب والمعاناة ودمار مقتنيات الإنسان الروحية والمادية؟



«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية
TT

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً، كما عاشت شخوصه وأحداثه في ذاكرة الكاتب طويلاً تُلحُّ عليه أن يخرجها إلى النور. هو كتاب في حب البشر، خاصة أولئك المستثنين من حب بقية البشر. يبحث الرحيمي عن قاع المجتمع، فإذا ما وجده راح ينبش فيه عن قاع القاع. عن تلك الطبقة الدنيا التي ليس هناك ما هو أدنى منها. عن الطبقة التي أقصاها المجتمع عنه، حتى لم يعد يراها وإن رآها فلا يراها بشراً ولا يعدّها من جنسه، حتى نسيتْ هي أيضاً بشريتها. يلتقط الكاتب تلك الطبقة ويكتشف إنسانيتها ويكشف لنا عنها، يلتقط أفراداً منها، ويكشف لنا أنهم مثلنا تماماً وإنما طحنتهم قوى تاريخية ومجتمعية قاهرة حتى حجبت إنسانيتهم عمن حولهم، بل وعن ذواتهم. ينتشلهم الكاتب من قاع القاع ويغدق عليهم من فيض روحٍ مُحِبَّة للبشر ترفض أن تنسى من نسيهم المجتمع والتاريخ.

يكتب الرحيمي عن الريف المصري في شيء كثير من العاطفية والنوستالجيا. يكتب عن الريف الذي نشأ فيه قبل أن ينزح إلى المدينة ويكتب عن التحولات الهائلة التي ألمت به منذ الخمسينات من القرن العشرين إلى يومنا هذا. يكتب عما عاصره في نشأته ولكن أيضاً عما سمعه صغيراً من الأجيال الأسبق. يكتب عن بؤس الفلاح المصري في العصر الإقطاعي وخاصة عمّال «التملية»، المعروفين أيضاً بعمال التراحيل، والذين كتب عنهم يوسف إدريس في قصته الأشهر «الحرام» (1959)، وعن مجيء ثورة 1952 والإصلاح الزراعي الذي طال الكثيرين، لكنه أغفل «التملية» أو هم غفلوا عن الانتفاع منه لأنهم كانوا مسحوقين إلى حدٍ لا يمكنهم معه إدراك أن ثمة تغيرات كبرى تحدث في المجتمع وأنه يمكن لهم الانتفاع منها. يكتب أيضاً عن سائر التحولات التي جرت في الريف المصري بعد انتهاء الدور الإصلاحي لثورة 1952 والنكوص عن إنجازاتها المجتمعية في عصري السادات ومبارك، حتى لم يعد الريف ريفاً وتقلصت الزراعة واختفت المحاصيل ومواسمها التي من حولها نشأت تقاليد الريف المصري الحياتية وقيمه الأخلاقية التي دامت قروناً طويلة حتى اندثرت تدريجياً في العقود القليلة الماضية. يكتب على حد قوله «فيما جرى لبلدنا وقرانا».

يتجول الكتاب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة» في شرق الدلتا. تصبح القرية بؤرة لمصر كلها. تصبح رمزاً للثابت والمتحول، أو بالأحرى للثابت الذي تحوَّل إلى غير عودة بعد قرون وقرون من الثبات، ولا يساعدك النص أن تقرر ما إذا كان تَحَوَّلَ إلى الأفضل أو الأسوأ. فالأمران ممتزجان، وليس النص إلا محاولة لاسترجاع الأنماط الجميلة للحياة البشرية والبيئية التي ضاعت إلى الأبد ضمن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاهرة التي تُصنع في العاصمة لتطال موجاتها العاتية قرى مصر ونجوعها في كل مكان من حيث لم تكن تحتسب.

ما نراه في هذا الكتاب هو نماذج عديدة لآلام التحول ولكن أيضاً لأفراحه. نماذج للعامّ حين يقتحم حياة الأفراد فيرفع من يرفع ويخفض من يخفض ويعيد تشكيل ما يُسمى بالمجتمع. يخبرنا التاريخ المعاصر بحرب اليمن الفاشلة ضمن مشروع القومية العربية التوسعي لجمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي، لكن هذا النص يشعرنا بمأساة مجندي القرية مثل «المسكين» وآلاف أمثاله الذين ذهبوا ولم يرجعوا ليحاربوا حرباً لا يفهمون لها سبباً في بلد لم يسمعوا به قبلاً. يحدثنا التاريخ الذي عاصرناه أيضاً عن تهجير أهل مدن القناة حماية لهم من القصف الإسرائيلي عبر قناة السويس عقب هزيمة 1967. لكن الكتاب الذي بين أيدينا في الفصل المعنون «المهاجرون» هو الذي يرينا مذلة أولئك المهاجرين (أو المُهجَّرين كما عُرفوا وقتها في تسمية أصحّ) لدى وصول بعضهم للعيش في قرية «الدراكسة» بعيداً عن الخطر. لكنه أيضاً هو الذي يرينا قدرة المهاجرين على التأقلم مع الظرف الجديد، ويرينا الروح المصرية الأصيلة وقت الأزمة حيث يكرم أهل القرية ضيوفهم طويلي المكث خير إكرام. لكنه فوق هذا وذاك يحكي لنا من واعية الطفل الذي كأنه الكاتب في ذلك الوقت عن الأثر التمديني العميق الذي مارسه هؤلاء الضيوف الآتون من مدينة بورسعيد الساحلية ذات التاريخ الكوزموبوليتاني على القرية النائية المعزولة عن الحضارة، فلم يتركوها بعد سنوات إلا وقد تغيرت عاداتها العريقة في المأكل والملبس والمشرب والسلوك الاجتماعي. هكذا تختلط المآسي والمنافع في الحياة كما في كثير مما يصوره الكتاب.

يصعُب تصنيف «طباطيب العبر». هل هو تسجيل لتاريخ شفهي؟ هل هو مجموعة تحقيقات صحافية متأدِّبة؟ هل هو دراسة أنثروبولوجية عفوية تخففت من المناهج والتقعر الأكاديمي؟ هل هو رصد واقعي أم خيال قصصي؟ هل فصوله وحدات منفصلة أم أن ثمة شيئاً يصهرها معاً في كلٍّ؟ الأرجح أن الكتاب فيه من كل هذه الصفات وأن مرونته السردية جاءت نتاجاً للعاطفة الاسترجاعية الكامنة وراءه والتي كان من الصعب أن تُصبَّ في قالب جامد أو تسلسل زمني، وكان لا بد أن تكتب في هيئة زخات شعورية متباعدة. مرونة السرد هذه هي نفسها التي تجعل الكتاب في بعض المواضع يلتحق برومانسية محمد حسين هيكل في روايته الشهيرة عن الريف المصري «زينب» (1912؟ 1914؟)، بينما في مواضع أخرى نراه يلتحق بواقعية «نائب في الأرياف» (1937) لتوفيق الحكيم وبالتصويرات الواقعية لكتّاب الريف الآخرين، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف القعيد وغيرهما، وعلى الأخص يوسف إدريس الذي لا أشك أنه كان له أثر كبير أسلوبياً وفكرياً على الرحيمي.

على أنني لا أظن أني قرأت عن الريف المصري كتابة تغرق مثل هذا الإغراق في فنون المدرسة الطبيعية «الناتورالية» التي تجاوز تقنياتها تقنيات المدرسة الواقعية، فلا تترك تفصيلاً من تفاصيل البيئة إلا ذكرته ووصفته مهما بلغ من قذارة ومهما كان مقززاً ومهما كان خادشاً للحياء ومهما كان فاضحاً للنفس البشرية وللجسد البشري ومخرجاته. كل شيء هنا باسمه القح وقبحه الصادم ورائحته العطنة الفائحة وأصواته الناشزة (انظر على سبيل المثال لا الحصر الفصل المعنون «روائح القيظ القديمة»). هذه كتابة غير مُراقَبة، غير مهذبة ولا منمقة، لا تحاول أن تحمي القارئ ولا تراعي نعومته وترفه المديني أو الطبقي ولا يعنيها أن تمزق تغليفه السيلوفاني شر تمزيق. ذلك أنها كتابة تريد صدم الحس المُرفَّه وتحريك الضمير المٌخدَّر وتوليد الإحساس بالذنب لدى المجتمع الغافل عن أبنائه وعن الثمن الفادح الذي يدفعه جنود الريف المجهولون من أجل رفاهتهم. هي كتابة لريفي تمدَّن ولكن بقي على حبه وولائه للريف.

يتجول الكاتب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة»

غير أنني أيضاً لا أظنني قرأت منذ يوسف إدريس كتابة عن الريف المصري تتسم بهذا الفهم المُشرَّب بالعطف الإنساني. إلا أن ثمة فارقاً. كان إدريس يكتب عن ريف موجود فلم يكن في كتابته حنين، أما هنا فنحن أمام كتابة استرجاعية، كتابة عن ريف وناس وعادات وقيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش، وربما من هنا تنبع الرغبة في اقتناصها في كتاب قبل أن تزول من الذاكرة أيضاً بغياب الجيل الذي عاصرها، وهذا ما يفعله أسامة الرحيمي الذي يصحب حواسَّنا الخمس في رحلة نلمس فيها أشجار الريف وحقوله ونشم روائحه، الطيب منها والخبيث، ونسمع أصوات بشره وحيوانه ونرى جماله وقبحه ونذوق طعومه، كما في فصل «أكل التوت» مثلاً وفي سائر الكتاب.

يكتب الرحيمي في لغة عذبة سلسة، لا يعنيها التأنق المصطنع لأن فيها رشاقة طبيعية تتنقل بك في خفة بين الفصحى والعامية، ومن لغة القرية إلى لغة المدينة، ومن لغة الطفل في لحظة الحدث إلى لغة الكاتب الناضج المتأمل لطفولة الماضي، ويحلّق بك عند الطلب من سهول النثر إلى مرتفعات الشعر.
في هذا الكتاب السهل الممتنع في أسلوبه، الثري في شخصياته وحكاياته، المتأمل في الريف وتحولاته، والملآن بالعطف على الإنسان وسائر الكائنات، على الترع والحقول والأشجار، تنضح الصفحات بالحزن على الحيوات التي ذهبت بدداً، والأجيال التي لم تجرؤ على الأمل. إن كانت أتراحها وآلامها - وأحياناً أفراحها - ما زالت تتردد في الفضاء، فهذا الكتاب قد التقط أصداءها.