تماثيل صلصالية من «قصر أوبيري» في «قلعة البحرين»

حيث ملك دلمون كان يعيش كالسمكة وسط بحر الشروق

تماثيل صغيرة من «قلعة البحرين» تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن العاشر إلى القرن السابع قبل الميلاد
تماثيل صغيرة من «قلعة البحرين» تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن العاشر إلى القرن السابع قبل الميلاد
TT

تماثيل صلصالية من «قصر أوبيري» في «قلعة البحرين»

تماثيل صغيرة من «قلعة البحرين» تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن العاشر إلى القرن السابع قبل الميلاد
تماثيل صغيرة من «قلعة البحرين» تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن العاشر إلى القرن السابع قبل الميلاد

أُدرج موقع «قلعة البحرين» في قائمة التراث العالمي لـ«منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم (اليونيسكو)» في عام 2007. في العام التالي، افتُتح «متحف قلعة البحرين» بهدف حماية الملامح التاريخية لهذا الموقع الأثري، وتوثيق الحقب الأثريّة التي شهدها. يحوي هذا المتحف عدداً كبيراً من القطع الأثريّة التي خرجت من بين أطلال هذه القلعة، ومنها مجموعة من التماثيل المصنوعة من الطين الأبيض المحروق، عُثر عليها في قاعة من قاعات مجمّع يُعرف اليوم باسم «قصر أوبيري».

شكّلت جزر البحرين في الماضي جزءاً من إقليم امتدّ على مناطق واسعة من ساحل شبه جزيرة العرب وعُرف باسم دلمون. بين عامي 2050 و1650 قبل الميلاد، نعمت دلمون باستقلالها، واشتهرت بتجارتها البحرية، إلى أن سيطرت عليها سلالة الكيشيين البابلية بشكل كامل، وظلّت تحت هذه السيطرة على مدى قرون من الزمن، ودخل اسمها في غياهب التاريخ. في عام 1225 قبل الميلاد، سار الملك الآشوري توكولتي نينورتا الأول بجيشه إلى الأراضي البابلية، وأسر الملك الكاشي كشتيلياش الرابع، وأضاف إلى ألقابه لقب «ملك دلمون»، غير أن دلمون ظلت بعيدة عن آشور، ولم تستعد بريقها في ذلك الزمن كما يبدو.

بعد خمسة قرون، لمع اسم دلمون من جديد، وتكرّر ذكره في النقوش المسمارية التي تعود إلى عهد سرجون الثاني؛ ملك الإمبراطورية الآشورية الحديثة بين عامي 722 و705 قبل الميلاد. على بعد 12 ميلاً إلى الشمال الشرقي من الموصل، على الضفة الغربية لنهر دجلة، مقابل أطلال نينوى، في القرية التي تُعرف اليوم باسم خورسباد، شيّد هذا الملك قصره الهائل في «دور شاروكين»؛ أي «قلعة سرجون»، وهو القصر الذي ضم أكثر من مائتي حجرة و30 فناءً، ومنه خرجت حلل فنية بديعة انتقلت إلى «متحف اللوفر» في باريس و«متحف المعهد الشرقي» في شيكاغو. حوى هذا القصر نقوشاً مسمارية كثيرة تمجّد مآثر سرجون الثاني، وفي هذه الكتابات تكرّر اسم أوبيري؛ «ملك دلمون الذي كان يعيش كالسمكة في وسط بحر الشروق؛ البحر الذي تشرق عليه الشمس، وعلى مسافة 30 ساعة مضاعفة». يستدلّ من هذا النص على أن «الوصول إلى دلمون كان يتطلب نحو 60 ساعة ملاحة من مصب الفرات؛ أي إنها كانت تبعد نحو 300 ميل، وهي نفس المسافة إلى جزر البحرين»، كما أشار محمد أبو المحاسن عصفور في كتابه «معالم الشرق الأدنى القديم».

من جهة أخرى، تؤكد هذه النصوص أن أوبيري؛ ملك دلمون، سمع بجلال عظمة سرجون الثاني، فأرسل بهدايا إليه... «وفي هذا الخبر إشارة واضحة إلى استقلال البحرين؛ أي جزيرة دلمون وخضوعها لحكم ملك لعله كان من أهلها. ولما كان القسم الجنوبي من العراق تحت حكم الآشوريين في هذا العهد، وللبحرين علاقات تجارية متينة مع هذا القسم، لذلك أرسل هدايا ثمينة إلى ملك آشور»، كما كتب جواد علي في موسوعته «المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام».

في «قلعة البحرين» المرتفعة فوق تل يقع على الساحل الشمالي للجزيرة، كشفت بعثة فرنسية عن أسس مُجمّع شُيّد فوق أنقاض قصر يعود إلى الحقبة الكاشية، وتبّين أن هذا المجمّع يعود إلى الحقبة الأخيرة من دلمون، وهي الحقبة التي انتهت في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث خضعت هذه البلاد لسلالة الأخمينيين التي أنشأت الإمبراطورية الفارسية الأولى. بدأت هذه البعثة الفرنسية مهمّتها في سنة 1977، وشرعت في تحديد معالم هذا المجمّع في سلسلة من الحفريات جرت بين عامي 1989 و1993، وأطلقت عليه اسم «قصر أوبيري»، وتبقى هذه النسبة افتراضية إلى يومنا هذا في غياب أي شاهد أثري يؤكّدها بشكل قاطع. في ركن من أركان هذا القصر، عثر المنقبون على مجموعة كبيرة من التماثيل الصلصالية الصغيرة، بلغ عددها نحو مائة قطعة. وقيل إن هذه التماثيل ترتبط على الأرجح بمعبد في القسم الغربي من الموقع، مما يعني أنها مجسّمات نذرية، غير أن هوية هذا المعبد لم تتضح بعد.

يصعب تحديد تاريخ هذه التماثيل بدقّة... ويُجمع أهل الاختصاص على القول إنها من نتاج المرحلة الممتدة من القرن العاشر إلى القرن السابع قبل الميلاد

يصعب تحديد تاريخ هذه التماثيل بدقّة، ويُجمع أهل الاختصاص على القول إنها من نتاج المرحلة الممتدة من القرن العاشر إلى القرن السابع قبل الميلاد، وكلّها من الطين الأبيض المحروق، وهي من الحجم الصغير الذي لا يتجاوز طوله بضعة سنتيمترات؛ منها ما وصل بشكل شبه كامل، ومنها ما فقد بعضاً من معالمه. تمثّل هذه التماثيل رجالاً ملتحين، وتتبع في تأليفها قالباً واحداً جامعاً، يتجلّى في تكوين الرأس كما في تحديد ملامح وجهه. يحلّ هذا الرأس في مجمل الأحيان فوق مساحة عمودية تُمثّل النصف الأعلى من جسم جُرّد من مفاصله. هكذا يبدو صدر البدن عارياً من أي ملامح، مع نتوء بسيط عند طرفي الكتفين، يشير إلى أعلى الذراعين الغائبتين.

تتكرّر ملامح هذا الرجل الملتحي بشكل لافت. تظهر العين على شكل دائرة تستقرّ في وسطها دائرة أصغر حجماً تُمثّل البؤبؤ. وتبرز كتلة الأنف العريض الأفطح وسط العينين. ويتحوّل الفم إلى خط أفقي غائر يستقرّ وسط شاربين ولحية نصف بيضاوية، تعلوها شبكة من الخطوط العمودية الغائرة تُحدّد خصلات شعرها. تُظهر النماذج التي وصلت بشكل شبه كامل أن صاحب هذا الوجه يعتمر قبعة مدبّبة كبيرة، تحدّ طرفها الأسفل مساحة أسطوانية بارزة. ومع هذه القبعة، تأخذ كتلة هذا الرأس شكل ما يُعرف في الهندسة باسم المُعيَّن، وهو شكل رباعي مكوّن من مثلثين لهما قاعدة مشتركة. تشكل قمّة القبعة المدبّبة رأس المثلث الأعلى، بينما يشكّل طرف اللحية الأوسط رأس المثلث الأسفل.

يبرز وسط هذه المجموعة الكبيرة من المجسمات الصلصالية تمثال فريد من نوعه يجمع بين هذا الرأس الآدمي الملتحي المميّز، وجسد حيواني ضاعت منه قوائمه الأربع. يشكّل هذا الكائن الهجين العجيب لغزاً يصعب حلّه في غياب الشواهد الأثرية التي تسمح بتقديم قراءة تأويلية لهويّته، والأرجح أن جسد الدابة يرمز إلى قوّة هذا الرجل الملتحي الذي تتكرّر صورته على عشرات من التماثيل النذرية.


مقالات ذات صلة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

ثقافة وفنون دانيال دينيكولا

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط
ثقافة وفنون سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)

الإعلان عن الدورة الخريفية من موسم أصيلة الثقافي الدولي

ملصق الدورة الجديدة
ملصق الدورة الجديدة
TT

الإعلان عن الدورة الخريفية من موسم أصيلة الثقافي الدولي

ملصق الدورة الجديدة
ملصق الدورة الجديدة

تحت رعاية ملك المغرب محمد السادس، تنظم مؤسسة «منتدى أصيلة» الدورة الخريفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي الخامس والأربعين، وذلك من الأحد (13) إلى الخميس 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2024، بشراكة مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل (قطاع الثقافة)، وجماعة (بلدية) أصيلة.

ويشارك في دورة هذه السنة نحو 300 من رجال السياسة والفكر والأدب والإعلام والفن التشكيلي من مختلف أنحاء العالم.

وضمن فعاليات الموسم الثقافي، تنظم جامعة المعتمد بن عباد المفتوحة، في دورتها الثامنة والثلاثين، عدداً من الندوات تتعلق بمختلف أوجه التطورات التي يعرفها عالم الجنوب.

ويتضمن برنامج الندوات مناقشة قضايا حيوية آنيّة، من قبيل موضوع «أزمة الحدود في أفريقيا... المسارات الشائكة» (13 - 14 أكتوبر)، وموضوع «النخب العربية في المهجر... التحدي القائم والدور الممكن» (17 - 18 أكتوبر)، وموضوع «الحركات الدينية والحقل السياسي... أي مصير؟» (21 - 22 أكتوبر)، وموضوع «قيم العدالة والنظم الديمقراطية» (25 - 26 أكتوبر).

وكذلك ستنظم مؤسسة منتدى أصيلة، بشراكة مع مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد ندوتين: الأولى حول موضوع « الذكاء الاصطناعي... أي حكامة في أفريقيا في عصر الرقمنة» (23 أكتوبر)، والثانية حول موضوع «شمولية الثقافة وانخفاض اللامساواة في توظيف الموارد الثقافية» (28 أكتوبر).

وستحتفي «خيمة الإبداع» في هذه الدورة من موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ45، بالكاتب والروائي والشاعر المغربي، وزير الثقافة سابقاً محمد الأشعري (30 أكتوبر)، حيث سيُدلي أكثر من 20 من الأدباء والجامعيين والأكاديميين المغاربة والعرب بشهاداتهم في حق المحتفى به. وستصدر المؤسسة كتاباً يتضمن شهادات المشاركين.

وسيتم خلال هذا الموسم أيضاً تنظيم حفل توقيع كتاب «شغف وإرادة... رهان في الإعلام والثقافة والسياسة» للكاتب الصحافي والناشر المغربي محمد برادة.

وتبعاً لما جرت العادة عليه، تُنظَّم خلال هذا الموسم أيضاً مشاغل الفنون التشكيلية بمشاركة فنانين من المغرب، والبحرين، والسنغال، وسوريا، وبلجيكا، وإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.

وتستقبل أروقة المعارض في مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية معرضاً جماعياً بمناسبة مرور 45 سنة على احتضان مؤسسة منتدى أصيلة لأوراش فن الحفر والطباعة الفنية، ومعرضاً تكريمياً تحت شعار «مسارات متقاطعة» للفنانَين مليكة أكزناي (المغرب) وأكيمي نوغوشي (اليابان).

بدوره، سيحتضن قصر الثقافة معرضاً جماعياً للإبداعات الحديثة في فن الحفر، ومعرضاً للفنان التشكيلي المغربي عبد القادر المليحي، إلى جانب معرض «الأطفال مواهب الموسم». وتستمر هذه المعارض من 13 يوليو (تموز) إلى 31 ديسمبر (كانون الأول) 2024.

وخلال الموسم سيجري أيضاً تنظيم مشغل التعبير الأدبي وكتابة الطفل (20 - 27 أكتوبر)، الذي يُعنى بالكتابة في مختلف المجالات، مثل الشعر والقصة والسيناريو وغير ذلك.

كانت مؤسسة منتدى أصيلة قد نظَّمت الدورة الصيفية للموسم الثقافي الدولي الخامس والأربعين، ما بين 5 و27 يوليو الماضي.