أزمة الاستشراق في خلفياتها الثقافية والسياسية

الأدبي غير العلمي وكلاهما غير الاجتماعي والسياسي

أنطوان سيلفستر دساسي
أنطوان سيلفستر دساسي
TT

أزمة الاستشراق في خلفياتها الثقافية والسياسية

أنطوان سيلفستر دساسي
أنطوان سيلفستر دساسي

غالبا ما ينظر الباحثون في قضية الاستشراق نظرتهم في أصعب المسائل وأشدها إرباكاً، ذلك بأن هذه القضية تتعلق مباشرة بإشكالية الهوية الذاتية الجماعية التي يعتصم بها أبناء المجتمعات العربية، وفي يقينهم أنها تقيهم انحرافات الانحلال الحضاري، والضياع الثقافي، والوهن السياسي. لذلك آثر معظم أهل الاختصاص أن يغلقوا على الاستشراق في محنة التنازع بين ضربين من التطرف: فإما أن يغالي الاستشراق في رسم الآخر الشرقي على صورة الذات الغربية، وهذا ما يحصل في أغلب الأحيان، وإما أن يكتفي برسم الذات الغربية على صورة الآخر الشرقي، من بعد أن يهيم المستشرق بسحر الشرق وعجائبه. لا بد، والحال هذه، من البحث عن الحل الوسطي الذي ينتقد الاستشراق من غير أن يكفره، ويمدحه من غير أن يمجده.

أعتقد أن أفضل السبل يقتضي الشروع في ثلاث خطوات منهجية أساسية: ينبغي للمرء أولاً أن يتفحص الخلفيات الثقافية والسياسية التي دفعت بعلماء الغرب إلى الاعتناء بالشرق العربي على تنوع منبسطاته الجغرافية وتباين تجلياته الحضارية، ويجب عليه ثانياً أن يميز تمييزاً حصيفاً بين منابت الاستشراق وأصنافه؛ إذ إن الاستشراق مذاهب وتيارات وتوجهات؛ ويتعين عليه ثالثاً أن يتحرى الآثار السلبية والإيجابية التي خلفها الاستشراق في وعي المجتمعات الشرقية، لا سيما العربية منها، ويستقصي الأبعاد التفاعلية التثاقفية التي استولدها التقابس الحضاري بين الغرب والشرق.

هاينريش فلايشر

أبدأ أولاً بالخلفيات الثقافية والسياسية. من الواضح أن أزمة الاستشراق تقترن بأسباب سياسية ومعرفية. إذا اكتفى المرء بالأسباب السياسية، اتضح له أن عوامل الفساد المعرفي في بعض الاجتهادات الاستشراقية ترتبط بالخلفيات الثقافية التي ينتسب إليها المستشرق، وبالتصورات الآيديولوجية التي يبايعها، وبالأنظومات والهيئات السياسية التي تدعم مشروعه الاستشراقي وتموله. أما إذا تناول المرء الأسباب المعرفية، فإن البحث يضحي أشد استنهاضاً للعقل المستنير؛ إذ يحثنا على استجلاء العوامل المعرفية المحض التي تجعلنا نرتاب من عملية الاستشراق في مقتضياتها المعرفية. ذلك بأن فهم الشرق العربي فهماً غربياً يختلف عن فهم الشرق العربي فهماً شرقياً عربياً. من جراء الاختلاف الخطير في الأنظومات الثقافية السائدة في الغرب وفي الشرق العربي، يستحيل على المستشرق أن يدرك خصوصية الفرادة الذاتية التي ينطوي عليها تراث الآخر.

أمضي ثانياً إلى التمييز الضروري بين منابت الاستشراق وأصنافه. يعلم الجميع أن البلدان الأوروبية التي توسعت توسع الاستعمار، ومنها على سبيل المثال بريطانيا وفرنسا وروسيا، ناصرت استشراقاً خاضعاً في بعض الأحيان لمصالح السياسات الخارجية الاستعمارية. أما البلدان الأوروبية التي لم تختبر إرادة الاستعمار في أقصى اندفاعاتها التوسعية، ومنها على سبيل المثال ألمانيا غير النازية والنمسا وهولندا، فإن استشراق علمائها استطاع أن ينعتق من خلفيات المصالح التوسعية، فاتسمت مبادراته الفردية بالوداعة المعرفية والانفتاح الرضي والرغبة الصريحة في التعلم والاستمتاع بإنجازات الحضارة العربية وفتوحاتها الثقافية وأمثولاتها الروحية. لا ريب في أن مثل هذا التصنيف لا يعني أن جميع الاجتهادات الاستشراقية المقترنة بمشيئة البلدان الاستعمارية كانت انحيازية تضليلية مؤذية، وأن الاجتهادات الأخرى كانت كلها موضوعية منزهة هادية. أعتقد أن في الاستشراق الثقافي المحض بعضاً من النزعة الاستعمارية الدفينة، وفي الاستشراق الاستعماري الصريح بعضاً من الحكمة المعرفية الحميدة.

زدْ على ذلك أن الاستشراق الأدبي غير الاستشراق العلمي، وكلاهما غير الاجتماعي والسياسي. ذكرت هذه الأصناف لأبين أن استشراق الأدباء الأوروبيين، لا سيما الرحالة من أمثال الرحالة البريطاني سير ويليام جونز (1746 - 1794) صاحب البحث الشهير في الشعر الشرقي ومترجم المعلقات العربية السبع، والفرنسي أنطوان - سيلڤستر دساسي (1758 - 1838) صاحب الأبحاث التاريخية في فقه اللغة العربية ومترجم نصوص فريد الدين العطار، والألماني المختص بالأدب العربي المسيحي غيورغ غراف (1875 - 1955)، ساهم مساهمة جليلة في استكشاف كنوز الأدب العربي القديم.

من الضروري في هذا السياق أن أخص الاستشراق الألماني بذكر طيب؛ إذ انفرد بميله الأكاديمي الصِّرف ورغبته الصادقة في الانعتاق من سطوة السلطان السياسي. صحيح أنه من العلوم الدخيلة في ألمانيا، ولكنه ما عتّم أن اندمج في النظام البحثي الجامعي الألماني، وقد آزرته العوامل السياسية المتعلقة بانكفاء المقاطعات الألمانية وإعراضها عن التوسع الاستعماري الجامح. فاكتفى المستشرقون الألمان بفضيلة البحث العلمي المحض، ولو أن الجيل الرومانسي من الاستشراق الألماني عاد فاستثمر لاحقاً الأبحاث المنجزة في توطيد التصورات القومية الجرمانية. بفضل جهود المستشرق الألماني هاينريش فلايشر (1801 - 1888) الذي اعتنى بتحقيق نصوص أبي الفداء والزمخشري والقاضي البيضاوي، تأسست في مدينة لايبتسيش عام 1845 الجمعية المشرقية الألمانية، وغايتها احتضان الاستشراق الألماني في إطار المؤسسة البحثية المستقلة.

أما ما اتصف به الاستشراق الألماني فالاجتهاد في تطوير فقه اللغة المقارن، والاستناد إلى خلاصاته من أجل تعزيز الأبحاث المتعلقة بطبائع الأعراق والأقوام والسلالات. ترسخ هذا التوجه بالاستناد إلى أعمال الفيلسوف الألماني لايبنيتس (1646 - 1716) الذي كان يولي اللسانيات مقام الصدارة؛ إذ كان مقتنعاً بأن الكلمات التي تختزنها معاجم الشعوب تكشف لنا عن هوية هذه الأقوام وأصلها وصلات القربى المنعقدة بينها وترحالاتها المتعاقبة. فضلاً عن ذلك، اتصف الاستشراق الألماني بالاعتناء الدقيق بدراسة اللغات القديمة، لاسيما السنسكريتية والسومرية، وذلك بخلاف الاستشراق الفرنسي أو الإنجليزي الذي كان شديد الميْل إلى تناول مسائل السياسة والتجارة والإدارة في الشرق.

أختم ثالثاً باستجلاء الآثار التي وَلّدها الاستشراق، على تباين وجهيه السياسي والثقافي، في الوعي العربي الحديث والمعاصر. إذا أردنا أن ننصف الظاهرة الاستشراقية العالمية هذه، سارعنا إلى التذكير بأن التأثير كان متبادلاً، أي ناشطاً في الاتجاهين. ذلك بأن المجتمعات العربية أدركت بفضل الاستشراق مقدار الغنى الحضاري الذي يختزنه تاريخها الأثيل، وقد اكتنفته ظلال الجهل منذ انطفاء شعلة التألق الحضاري العربي في القرن الثالث عشر حتى اتقادها مجدداً في عصر النهضة العربية الأولى في القرن التاسع عشر. لا بد من امتداح الجهود الجبارة التي بذلها أهل الاستشراق الأوروبيون من أجل الكشف عن وثائق الوعي الثقافي العربي التي كان غبار الدهر يلفها في مكتبات العواصم العربية والغربية. أعرف أن هذا الجهد خضع في بعض الأحيان لتأويلات الوعي الحضاري الغربي. فكانت التسمية غربية، والمنهجية غربية، وكذلك طريقة التفكير وردود الفعل والأحكام والخلاصات.

ولكن كيف لنا أن نطلب من المستشرق الغربي أن يكف عن انتمائه الغربي، وأن يُجرّد وعْيه من ذاتيته الثقافية؟ الحقيقة أن الاستشراق فعل ثقافي خطير يُغني الذات حين تنظر في مرآة الآخر، يستفزها باختلافاته واستنهاضاته. لا يمكننا على الإطلاق أن نحرر الاستشراق من سحر الشرق، ولو أن أثر هذا السحر تجلى على وجوه شتى. لا ينجو المستشرق باستشراقه من شمس هذا الشرق ووهجها الحراق. فإذا به يرتد إما إلى ذاته يعيد النظر فيها، وإما إلى الشرق فيعتنق الإسلام أو الهندوسية أو البوذية أو المسيحية الشرقية كما فعل المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1883 - 1962).

كيف لنا أن نطلب من المستشرق الغربي أن يكفّ عن انتمائه الغربي وأن يجرّد وعْيه من ذاتيته الثقافية؟

أعتقد أن أزمة الاستشراق انبعثت حين انحرف المستشرقون في الحكم على قضيتين خطيرتين: مقام الإسلام في الوعي الحضاري الكوني، وصدارة الخصوصية الحضارية الأوروبية. يعلم الجميع أن بعض المستشرقين شيّعوا صورة قاتمة عن الدين الإسلامي، وقد استندوا إلى تأويلات قرآنية مجتزأة مبتورة. فأطلقوا الأحكام الظالمة المتعلقة بهوية الإسلام وتقويم مساره التاريخي ووظيفته الحضارية، فاختلط الاستشراق بمشكلات الحوار الديني اللاهوتي العسير المرْكَب. كذلك عمد بعضهم الآخر إلى البرهان على تفوق الحضارة الغربية الأوروبية، وفي مستندهم بعض الوقائع التي تدل على تفوق في المعرفة والعلم والاقتصاد.

أسوق مثالاً على عملية تسويغ التفوق الغربي، أستخرجه من اجتهادات بعض المستشرقين الرومانسيين الألمان الساعين إلى استثمار الأبحاث اللغوية المقارنة من أجل مناصرة الخصوصية الأوروبية. حاول رائد الرومانسية الألمانية مجدد النقد الأدبي فريدريش شليغل (1772 - 1829) أن يستند إلى أبحاثه اللسانية في نحو اللغة السنسكريتية لكي يبرهن في كتابه (في لغة أهل الهند وحكمتهم) أن السنسكريتية والفارسية من جهة، واليونانية والألمانية من جهة ثانية، لغات تشترك في خصائص لسانية أساسية لا تشترك فيها اللغات السامية والصينية والأمريكية والأفريقية. من جرّاء هذه المقارنة، خلص إلى إثبات وحدة الأقوام الأوروبية المنبثقة كلها من قوم أصلي افترض أنه عاش في الهند القديمة الممتدة بين منطقتي كشمير والتيبت وتكلم باللغة السنسكريتية. ومن ثم، استند شليغل إلى قاعدة الوحدة اللغوية المفترضة لكي يعارض الأقوام الهندو-أوروبية بالأقوام الأخرى، لا سيما السامية منها، ويستنتج أن اللغات التي يستخدمها غير الأوروبيين أدنى مرتبة في جماليتها التعبيرية.

خلاصة القول أن الاستشراق اجتهاد ثقافي يفصح عن طبيعة الذات المستشرقة قبل أن يكشف عن خصائص الشرق المنشود. واجب العقل المستنير أن يستثمر أبحاث الاستشراق من أجل إدراك خصوصية كل شعب على حدة، وفرادة شخصيته التاريخية، وقيمة مساهمته الحضارية.


مقالات ذات صلة

عبد الرحمن شلقم يعيدنا لأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم يعيدنا لأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم يعيدنا لأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد عبد المنعم رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون هوشنك أوسي

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية.

رشا أحمد (القاهرة)

لماذا نقرأ للقدماء؟

 أرسطو
أرسطو
TT

لماذا نقرأ للقدماء؟

 أرسطو
أرسطو

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم، خصوصاً ونحن نراه يتبنى قيماً تخالف القيم الإنسانية التي تواضع الناس في زماننا على مجافاة ما يخالفها. ما لم تشر إليه كالارد هو أننا نعلم أن الثورة العلمية التي بدأت مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) وانتهت بإسحاق نيوتن (1642 – 1727) قد دمرت علوم أرسطو، سواء على صعيد النظريات التي قال بها، أم على صعيد المنهج الذي اتبعه، فقد أسس غاليليو غاليلي المنهج التجريبي الذي نسف إدخال التأمل في دراسة الطبيعة. وغاليليو هو من قام باكتشاف أقمار المشتري التي تدور حوله فأسقط نظام أرسطو والبطالمة عن مركزية الأرض، وهو من اكتشف بمقرابه الذي صنعه بنفسه النمش على وجه الشمس (العواصف المغناطيسية) فأبطل نظرية كمال الشمس والأفلاك. ثم جاء قانون الجاذبية النيوتوني فألغى نظرية أرسطو عن المحرك الذي لا يتحرك. ما الذي بقي؟ الأخلاق.

لا يقف اختلافنا معه عند العلم، بل ينتقل إلى مستوى الأخلاق، حين نجده لا يكتفي بالتغاضي عن جرائم العبودية، ويدافع عنها، بل يراها مفيدة لاقتصاد الدولة وللمُستعبَد نفسه، على حد سواء. من وجهة نظره، هناك بشر لا يُحسنون التكسب ولا أن يستفيدوا في حياتهم، وبالتالي فالأفضل لهم أن يكونوا مجرد أدوات بأيدي غيرهم. ولا تقف معاداة أرسطو لليبرالية عند هذا الحد، بل يقرر في مواضع كثيرة من كتبه أن المرأة غير قادرة على اتخاذ القرار السلطوي، وبالتالي لا يجوز تمكينها من السلطة سوى سلطتها في بيتها. وتمتد عنصرية أرسطو وطبقيته إلى حرمان من يعمل بيده من حق المواطنة، كما أنه يحرمه من حق التعليم، في نسخته من المدينة الفاضلة. وفي موضع من كتاب «الأخلاق» يقرر أن قبيح الصورة لا يستحق السعادة ولا المعرفة، ويمكن القول بأنه قام بالتأسيس للأخلاق الأرستقراطية، فقد قرر أن المواعظ الأخلاقية لن تُفيد المستمعين، إلا إذا كانت نفوسهم في أصلها نبيلة وكريمة وشريفة، يقصد بذلك أن خطابه موجه فقط لطبقة الأرستقراطيين والنبلاء وعِلية المجتمع، أما بسطاء الناس وسوقتهم، فليسوا بداخلين في هذه المعادلة، ولن يصلوا إلى الفضيلة –بحسب أرسطو– مهما سمعوا من المواعظ الأخلاقية. «كل من كان خسيس النسب أو شديد القبح فهو محروم من الوصول للسعادة الكاملة». أما إذا حاول هؤلاء أن يتجاوزوا حدودهم وأن يسْموا على ما هم فيه، كمحاولة الفقير أن يكون كريماً جواداً وهو لا يملك ما ينفقه، فهذا في حكم أرسطو: «غبي وأحمق». إذن، فالأخلاق والفضائل عند أرسطو طبقية ولا تليق إلا بمن يقدرون عليها ممن لديهم رغبة في استثمار مكانتهم الاجتماعية واستغلالها جيداً.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية. لكن عنصرية أرسطو أسوأ وأوسع دائرة، فهو ضد كل من ليس بإغريقي. في عنصرية تشبه موقف ديكارت من الحيوانات التي يصفها بأنها آلية وبلا روح ولا وعي. ولهذا كان تلاميذه يطاردون الكلاب في شوارع باريس ويضربونها بالعصي لكي يثبتوا أنها لا تشعر، كما قال الأستاذ.

لكن ما هو موقفنا نحن من هذا؟ هل نتجاهل مثل هذه الهفوات ونركز اهتمامنا على الأفكار العظيمة التي أدلوا بها في مواضع أخرى؟ أم أن هذه العنصرية هي جزء لا يتجزأ من فلسفاتهم؟ هذا هو السؤال الذي حاولت كالارد الإجابة عنه.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية.

في الواقع، هناك من يمكن فصل هفواتهم عن فلسفاتهم من مثل هيوم وكانط وفريجه، ويمكننا أن نعتبرها فلتات لسان أو مفردات مخزونات رشحت عن ثقافة وتربية أهل ذلك العصر. وهناك من لا يمكن فصل فلسفتهم عن أحكامهم الجائرة، ومن هؤلاء أرسطو، فكل فلسفته قائمة على عدم المساواة. مكانة الإنسان تكتسب مع النشأة، وبالتالي فلا فضيلة للنساء ولا للعمال ولا للأجانب من غير الإغريق، فكل من ليس بإغريقي بربري، كل هؤلاء ليس لهم حق في المطالبة بالاحترام. إنه لا يؤمن بمفهوم الكرامة الإنسانية الذي بُنيت عليه حقوق الإنسان، بل كل ما يتعلق بحقوق الإنسان لا يتفق مع فلسفة أرسطو.

ما فات الأستاذة كالارد أن تشير إليه هو أن هذه النظرة الأرسطية المتعالية هي أحد الأسباب المهمة لنشوء المركزية الأوروبية، وهي تلك النظرية التي تحدو بها العيس إلى الغرب باعتباره مركزاً للأحداث العالمية أو متفوقاً على جميع الثقافات الأخرى. صحيح أنه من المحبب إلى النفس أن نكون قادرين على أن نؤيد إمكانية الخلاف الجذري حول الأسئلة الأكثر جوهرية، لكن هذا لن يمنعنا من رصد الأخطاء الشنيعة في تاريخ الفكر وتفكيكها لكيلا تعود مرة ثانية. ورغم أن قسماً كبيراً مما دونه أرسطو قد ثبت أنه غير صحيح، وأن الأخلاق التي دعا إليها تنطوي على ما لا يطاق؛ فإنه ما زالت أقسام الفلسفة في جامعات العالم تُدرس أخلاق أرسطو كجزء من مناهج الفلسفة. لا يمكن أن يطالب متعلم بمحاربة أرسطو أو منع كتبه أو عدم طباعتها، فهو اسم في غاية الأهمية في تاريخ الفكر ومحطة جوهرية في رحلة الروح، وهذا الاسم قد وقع اليوم تجاوزه، لكنه علامة مهمة لكي نفهم كيف وصلنا إلى محطتنا الحالية.