العرب والحداثة وما بعد الحداثة

بروتو لاتور
بروتو لاتور
TT

العرب والحداثة وما بعد الحداثة

بروتو لاتور
بروتو لاتور

يُقصد بمفهوم الحداثة حقبة زمنية بدأت من بعد عصر النهضة بأوروبا وانتهت في القرن العشرين. ويشير المفهوم إلى المسيرة الفكرية للشعوب الغربية في تلك الفترة، ويدور حول مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفنية وتطورها. ولا شك أن الثورة العلمية التي ابتدأت مع كوبرنيكوس وقويت مع نشاط العلماء غاليليو وكبلر وبراهي، وانتهت بإسحاق نيوتن وعالمه الآلي الذي يشبه الساعة، كان لها أعمق الدور في نشوء فكرة الحداثة التي تمددت وسالت إلى حقول أخرى. إنها تبشر بعالم جديد يسوده العقل والعلم، عالم مختلف لا يتوقف عن التغير والتطور، يحدوه سعي لا ينقطع عن الكشف عن ماهية الوجود. وللحداثة علامتان فارقتان؛ الموقف المخاصم للقديم، ومركزية العقل. خصومة القديم بالمطلق كان موقفاً متطرفاً بعض الشيء، لأنك لا ترمي بكل قديم، وإنما ما ترمي بما لا يعود صالحاً.

لكنها لم تحد عن تلك المركزية الجديدة، ولهذا كان يقال للعصر السابع عشر عصر العقل، وتلاه القرن الثامن عشر الذي اتصف بأنه عصر التنوير. لقد كان عصر الاكتشافات العلمية والتمهيد لثورة التكنولوجيا والإعلان عن نمط حياة مختلفة. حياة تقوم على العقلانية بشكل أساسي، فالعقلانية هي كل جوهر الحداثة. ولهذا نخطّئ من يتصور من المثقفين العرب أن المقصود بالحداثة هو مجرد نقل المعلومات والمعارف والتكنولوجيا إلى عالمنا العربي، فهي أسلوب تفكير قبل أي شيء آخر. تحقيق التبادل المعرفي لا يعني أبداً أن الحداثة قد تحققت، فالحداثة طاقة تنويرية تنطلق من العقل والروح وتغير حياة الإنسان، وليست مجرد استيراد التكنولوجيا وترجمة الكتب. حداثة من هذا النوع ستكون قشرية وسطحية للغاية ولن يكون لها أثر في حياة المجتمع. أن تكون حداثياً يعني أن تفكر بطريقة عقلانية مستقلة، وأن تلتزم بقيد العقل، فلا ترجح من دون مرجح.

هذا العصر انتهى في ثلاثينات القرن العشرين، ومن العلماء من يحدد نهايته بنهاية الحرب العالمية الثانية 1945، حيث ارتفع شعار ما بعد الحداثة. وهو يعني رفض العقلانية، بل رفض مفهوم العقل والمنطق والذات المفكرة والحقيقة. كل أنواع الرفض هذه تدور وتنطلق من رفض العقلانية. ومن إنجازات ما بعد الحداثة الكبرى، القدح في العلم التجريبي والتشكيك في موضوعيته. نعم، إنهم ينكرون مبادئ الفيزياء الأولية ويسخرون من نظرية آينشتاين النسبية، برونو لاتور كان هذا الساخر. تشككوا في قدرة العلماء على تقديم وصف صادق للواقع وللعالم، وأن هذا لو صح، فلن يقبل التطبيق في كل مكان. وما يقوله العلماء هو مجرد قصة واحدة من عدة قصص، وبإمكانهم - أي ما بعد الحداثيين - أن يأتوا بقصص أخرى منافسة لتفسير الواقع والعالم. إنها فكرة شكوكية بالمطلق، لا تقل شراسة عن طريقة تفكير السفسطائيين الذين كانوا ينكرون إمكانية قيام أي معرفة على الإطلاق. وهكذا أعادت ما بعد الحداثة كل تيار فكري غير عقلاني وبعثت فيه الوجود، وأعادت ترميم كل خرافة بدعوى أنها صرعة جديدة ما بعد حداثية.

هذا التيار الفكري جعل الخرافيين في العالم الثالث يتنفسون الصعداء، بعد أن أوشك عصر العقل أن يمحوهم من الوجود. كل دعوى من قضية الأبراج و«حظك اليوم»، مروراً بخديعة اللغة لنا ووجوب الشك فيها، وانتهاء بخرافة الطب البديل والتشكيك في حقائق العلم، كلها قد تجد نصيراً في بعض فلاسفة ما بعد الحداثة الذين أباحوا كل شيء. صحيح أن ما بعد الحداثة لا تحارب الحداثة صراحة وتدعي أنها تدعو إلى الشمولية والتكامل والوحدة والتنسيق وتبادل الأدوار، لكنها لا تستطيع أن تنكر خصومتها الكامنة للعقلانية. إنها تدعو لانفتاح كامل، دون أدوات أو معايير للحسم في أي قضية.

قد يكون تيار ما بعد الحداثة مناسباً للمجتمعات الغربية التي تشبعت بالعيش في ظل العقل وسئمت من صرامته وخطوطه الواضحة، لكن ما بعد الحداثة لا يناسبنا الآن في المجتمعات العربية، لأن مجتمعاتنا لديها انجذاب طبيعي للتفكير الخرافي ونفور طبيعي من العقل، فكل الوصايا التي يحفظونها عن العقل تحذّر منه وتدعو إلى التشكك فيه وعدم الركون إليه. ما بعد الحداثة يعطيه مبرراً كافياً لكي يبقى غير عقلاني. وعند الحديث عن العرب لن أكون من المتطرفين الذين يدّعون أن لدى العربي مشكلة جينية، لكن هذا لن يمنعني من القول إن لدى العربي مشكلة ثقافية عميقة عويصة، متى تمت معالجتها فلن يقف عند عنان السماء. ليس هناك جنس نجس وجنس نقي، فالبشر سواسية، ومتى ما وُجدتْ البيئة السوية فسنجد الأسوياء. هذه من عيوب تيار الحداثة، عندما تخيل بعض منظّريه الكبار أن التفكير الحداثي خاص بعرق خاص، وارتفعت شعارات المركزية الأوروبية. هذه مشكلة أخرى لن نتحدث عنها الآن مع أننا لا بد أن نسجل نقطة لصالح تيار ما بعد الحداثة لأنه حارب المركزية الأوروبية.

وهكذا حصرنا حديثنا هذا في المشكلة العويصة التي يعاني منها عالمنا العربي، نحن نحتاج إلى حقبة حداثية طويلة، كتلك التي مر بها الأوروبيون وعاشوها حتى سئموا منها. نحن بحاجة إلى قرنين أو ثلاثة نعيش فيها مع صرامة العقل، وبعدها سيكون لكل حادث حديث.


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
TT

رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

يحتفظ مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة بمجموعة من اللقى البرونزية، منها مجسمات منمنمة تمثّل رأس ثور يتميّز بأنف طويل صيغ على شكل خرطوم. تعود هذه الرؤوس في الواقع إلى أوان شعائرية جنائزية، على ما تؤكّد المواقع الأثرية التي خرجت منها، وتتبع كما يبدو تقليداً فنياً محلياً ظهرت شواهده في موقع مليحة، كما في نواح أثرية أخرى تتّصل به في شكل وثيق.

يعرض مركز مليحة للآثار نموذجين من هذه الرؤوس، وصل أحدهما بشكل كامل، فيما فقد الآخر طرفي قرنيه. يتماثل هذان الرأسان بشكل كبير، ويتبنيان في تكوينهما أسلوباً تحويرياً مبتكراً، يجسّد طرازاً خاصاً لا نجد ما يماثله في أقاليم جنوب الجزيرة العربية المتعددة، حيث حضر الثور في سائر الميادين الفنية بشكل كبير على مر العصور، وتعدّدت أنواعه وقوالبه، وشكّلت نماذج ثابتة بلغت نواحي أخرى من جزيرة العرب الشاسعة. ظهر رأس الثور بشكل مستقل، وحضر في عدد كبير من الشواهد الأثرية، منها العاجي، والحجري، والبرونزي. تعدّدت وظائف هذه الرؤوس، كما تعدّدت أحجامها، فمنها الكبير، ومنها المتوسط، ومنها الصغير. وتُظهر الأبحاث أنها تعود إلى حقبة زمنية تمتد من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرون الميلادية الأولى.

في المقابل، يصعب تحديد تاريخ رؤوس ثيران مليحة، والأكيد أنها تعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأول، حسب كبار عملاء الآثار الذين واكبوا اكتشافها في تسعينات القرن الماضي. تتبنّى هذه الرؤوس قالباً جامعاً واحداً يتميّز بتكوينه المخروطي وبملامحه المحدّدة بشكل هندسي، وهي من الحجم المنمنم، ويبلغ طول كل منها نحو 5 سنتمترات. الأنف طويل، وهو أشبه بخرطوم تحدّ طرفه الناتئ فجوة دائرية فارغة. تزيّن هذا الأنف شبكة من الخطوط العمودية المستقيمة الغائرة نُقشت على القسم الأعلى منه. العينان دائريتان. تأخذ الحدقة شكل دائرة كبيرة تحوي دائرة أصغر حجماً تمثّل البؤبؤ، ويظهر في وسط هذا البؤبؤ ثقب دائري غائر. الأذنان مبسوطتان أفقياً، والقرنان مقوّسان وممدّدان عمودياً. أعلى الرأس مزيّن بشبكة من الزخارف التجريدية المحززة ترتسم حول الجبين وتمتدّ بين العينين وتبلغ حدود الأنف.

يشكّل هذا الرأس في الواقع فوهة لإناء، وتشكّل هذه الفوهة مصبّاً تخرج منه السوائل المحفوظة في هذا الإناء، والمثال الأشهر قطعة عُرضت ضمن معرض مخصّص لآثار الشارقة استضافته جامعة أتونوما في متحف مدريد الوطني للآثار خلال عام 2016. يعود هذا الإناء إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد وصل بشكل مهشّم، واستعاد شكله التكويني الأوّل بعد عملية ترميم طويلة ودقيقة. تتكوّن هذه القطعة الأثرية من وعاء صغير ثُبّت عند طرفه الأعلى مصبّ على شكل رأس ثور طوله 4.6 سنتمترات. عُرف هذا الطراز تحديداً في هذه الناحية من شمال شرق شبه الجزيرة العربية التي تقع في جنوب غرب قارة آسيا، وتطلّ على الشاطئ الجنوبي للخليج العربي.

عُثر على هذه الآنية إلى جانب أوان أخرى تتبع تقاليد فنية متعدّدة، في مقبرة من مقابر مليحة الأثرية التي تتبع اليوم إمارة الشارقة، كما عُثر على أوان مشابهة في مقابر أخرى تقع في المملكة الأثريّة المندثرة التي شكّلت مليحة في الماضي حاضرة من حواضرها. ظهر هذا النسق من الأواني الجنائزية في مدينة الدّور الأثرية التي تقع اليوم في إمارة أم القيوين، على مقربة من الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة، وهي على الأرجح مدينة عُمانا التي حضنت أهم ميناء في الخليج خلال القرن الأول الميلادي. كما ظهر في منطقة دبا التي تتبع إمارة الفجيرة، وفي مناطق أخرى تتبع في زمننا سلطنة عُمان، منها منطقة سلوت في ولاية بهلاء، في محافظة الداخلية، ومنطقة سمد في ولاية المضيبي، شمال المحافظة الشرقية.

اتّخذت فوهة هذه الأنية شكل رأس ثور في أغلب الأحيان، كما اتخذت في بعض الأحيان شكل صدر حصان. إلى جانب هذين الشكلين، ظهر السفنكس برأس آدمي وجسم بهيمي، في قطعة مصدرها منطقة سلوت. شكّلت هذه الأواني في الأصل جزءاً من آنية شعائرية طقسية، في زمن ازدهرت فيه التجارة مع عوالم الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط والهند. والمعروف أن أواني الشراب التي تنتهي بمصبات ذات أشكال حيوانية، برزت بشكل خاص في العالم الإيراني القديم، حيث شكّلت سمة مفضلة في الطقوس والولائم. افتتن اليونانيون باكراً بهذه الفنون وتأثّروا بها، كما شهد شيخ المؤرخين الإغريق، هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وعمدوا إلى صناعة أوان مشابهة مزجت بين تقاليدهم وتقاليد أعدائهم، كما تشهد مجموعة كبيرة من القطع الفنية الإرثية.

من ناحية أخرى، دخلت هذه التقاليد العالم الشرقي الواسع، وبلغت ساحل الخليج العربي، حيث ساهمت في ولادة تقاليد فنية جديدة حملت طابعاً محلياً خاصاً. تجلّى هذا الطابع في ميدان الفنون الجنائزية بنوع خاص، كما تظهر هذه المجموعة من الأواني التي خرجت كلها من مقابر جمعت بين تقاليد متعدّدة. استخدمت هذه الأواني في شعائر طقسية جنائزية خاصة بالتأكيد، غير أن معالم هذه الشعائر المأتمية تبقى غامضة في غياب أي نصوص كتابية خاصة بها.