«أم كلثوم السلاح السرّي لناصر»... حكاية حفلين باريسيين تاريخيين

كتاب شرائط مصورة يعيد القارئ إلى لحظة ما بعد النكسة

غلاف كتاب أم كلثوم للشرائط المصورة
غلاف كتاب أم كلثوم للشرائط المصورة
TT

«أم كلثوم السلاح السرّي لناصر»... حكاية حفلين باريسيين تاريخيين

غلاف كتاب أم كلثوم للشرائط المصورة
غلاف كتاب أم كلثوم للشرائط المصورة

العام المقبل، يكون قد مرّ على وفاة «كوكب الشرق» أم كلثوم، خمسون سنة. هي «قيثارة الشرق» أو «فنانة الشعب»، ويمكن أن يقال أيضاً إنها سيدة الألقاب؛ لكثرة ما أطلق عليها، في محاولة لإنصاف صوتها، وتوصيف تأثيرها على الجمهور. ليس غريباً أن تكون أم كلثوم لا تزال حية في ضمير الجمهور العربي وأعمالها متداولة، لكن ما كان من المنتظر أن يتم تذكرها باللغة الفرنسية، وباحتفاء، بالتزامن مع صدور كتاب شرائط مصورة الذي يحمل عنوان «أم كلثوم، السلاح السرّي لناصر»، وضعه كل من مارتين لاغارديت (كتابة)، وفريد بوجلال (رسماً)، من إصدار «أوكسيمور» في باريس.

والطريف في هذا الكتاب الذي يعتمد الرسوم بشكل رئيسي وبعض الصور، أنه لا يهدف إلى تعريف الفرنسيين، وخاصة الجيل الجديد، بسيدة الغناء العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما يركز على قصة واحدة فقط، قليلاً ما نتداولها، وهي الحفلان اللذان أحيتهما أم كلثوم في الأولمبيا في باريس بعد نكسة عام 1967.

حفلان أسطوريان، لا يزال صداهما يتردد إلى اليوم، وصورهما تبيعها الوكالات، وتتذكرهما الصحافة، وها هو كتاب شرائط مصورة يعود ليحيي تلك المناسبة الاستثنائية.

كان ذلك نهاية عام 1966، والروائي أندريه مالرو وزيراً للثقافة الفرنسية، والبلاد هناك تبحث عن مزيد من الانفتاح صوب الثقافات والموسيقات الأخرى. برونو كوكاتريكس، مدير الأولمبيا في ذلك الوقت، أحد أعمدة هذه الرؤية الحيوية، كان قد توجه إلى القاهرة رغبة منه في مشاركة مصرية في الاحتفالات السنوية لهذا الصرح الثقافي الكبير.

كان برونو كوكاتريكس رجلاً مؤثراً في عالم الترفيه، معروفاً للجميع في باريس، وفي أميركا وإنجلترا. كبار الفنانين يتمنون رضاه، وأن يأتوا ليقدموا أعمالهم في الأولمبيا. وبما أنه في خضم الحفلات الكثيرة التي ينظمها، كان يبحث عن فنانين مصريين، أو فرقة يأتي بها إلى باريس لتشارك في الاحتفالات السنوية، فقد عمد إلى عقد لقاءات مع شخصيات تستطيع أن تسدي له النصح. ومن بين هذه اللقاءات، كانت له جلسات مع وزير الثقافة المصري حينها ثروت عكاشة. ويروي كوكاتريكس أن عكاشة سأله ذات لقاء: «لماذا لا تدعون أم كلثوم؟»، فاستفهم الرجل منه عمن تكون هذه السيدة؟ فقد ظن للوهلة الأولى أنها راقصة شرقية؛ إذ لم يكن قد سمع باسمها أبداً من قبل. فشرح له الوزير عكاشة أنها فنانة كبيرة جداً، وأنها تغني مرة واحدة كل أول خميس في الشهر، وينتظر العرب حفلاتها في كل مكان.

في فيلتها الأنيقة في الزمالك، استقبلت أم كلثوم كوكاتريكس، ووضعت شروطها. طلبت يومها 20 مليون سنتيم (فرنك قديم) للحفلين، عدا الإقامة في فندق فخم، إضافة إلى نفقات ثلاثين من موسيقييها. استغرب كوكاتريكس الطلب، وهو لم يسبق له أن دفع مبلغاً بهذا الحجم إلى أي من الفنانين الذين استقبلهم. مبلغ يساوي ضعف ما تطلبه أيقونة فرنسا إديث بياف مثلاً. عندما سمع الرقم قال لأم كلثوم: «أنت تريدين تدميري». لكنه في النهاية وافق على طلباتها. وعرف بعدها أن أم كلثوم أصرّت على مقابل مالي عالٍ دون تردد؛ لأنها أرادت التبرع به لمصر، وقد جاء حفلها بعد أشهر من هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967.

بـ30 ألف فرنك فرنسي قديم تم تسعير البطاقة الواحدة لحضور حفل أم كلثوم. اضطر كوكاتريكس لاعتماد تسعيرة مرتفعة كي يتمكن من سدّ التكاليف التي دفعها؛ وكي لا يقع تحت عجز. لكن التذاكر لم تبع، وقد تبقت أيام قليلة جداً على الحفل. شعر كوكاتريكس بخيبة كبيرة. أحسّ أنه ارتكب حماقة لا تغتفر، وأنه أوقع نفسه في عجز، بسبب ضرب من الجنون.

قصص وطرائف عديدة واكبت هاتين الليلتين اللتين مرّ عليهما ما يزيد على نصف قرن ولا تزالان تشغلان بقيمتهما، وما فاض عنهما من ذكريات، الكتّاب والبحاثة المهتمين بالعلاقة بين فرنسا والعالم العربي.

وهي ليست المرة الأولى التي يعود فيها الكلام على هذا الحدث العربي الفني في باريس الذي لم يتكرر، وإنما سبق لكوكاتريكس أن تحدث عنه في مقابلات، كما نقلته بعض الكتب. وقبل سنوات خصصت صحيفة «لوموند» الفرنسية في عدد 29 يوليو (تموز) 2016 مساحة لهذا الحدث وعنونته بـ«أم كلثوم ملكة مصرية في باريس». وتحدث المقال عن الأجواء التي سادت الحفل وامتداده للفجر: «الواحدة صباحاً، وربما الثانية، لكن الجمهور لا يهتم. في الخارج، قد تغفو باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) باكراً، ويغلق المترو أبوابه. أما في الداخل، في الغرفة ذات الكراسي الحمراء، يبدو المتفرجون مفتونين، مسحورين، مستعدين للبقاء طوال الليل، طوال الحياة، يستمعون إلى أم كلثوم». ويشرح المقال أنها «عند الساعة الثانية والنصف صباحاً، كانت أم كلثوم لا تزال هناك تغني، تغني، تغني، سيدة القاهرة، مؤجلة الموعد النهائي لإغلاق الستارة بأغنية لا نهاية لها».

وصلت أم كلثوم إلى مطار «لو بورجيه» قبل ثلاثة أيام من موعد الحفل. وكان التلفزيون الفرنسي قد أرسل مصوراً لتغطية الحدث. بمجرد أن رأى العرب المقيمين في باريس، بأم العين أن أم كلثوم وصلت بالفعل، وقالت باللغة العربية للتلفزيون: «نعم أنا هنا في باريس لأغني ليلتي 13 و15 نوفمبر». هنا تغير كل شيء. جاء محبوها من كل مكان لحضورها، ليس فقط من باريس من إنجلترا، ألمانيا، المغرب العربي، جميعهم حجزوا وأتوا.

لم يكونوا قد صدقوا أنها ستأتي وتغني في باريس، وبالتالي لم يحجزوا أماكنهم. واكتشف كوكاتريكس أن سبب عدم الإقبال هو أن الجمهور العربي لم يصدّق أن أم كلثوم ستأتي وتغني فعلاً في باريس.

نفدت البطاقات بلمح البصر، ولم يتمكن كل الآتين من بعيد من إيجاد أماكن. وجنّ جنون أحد الأثرياء يوم الحفل، ووقف أمام بائعة التذاكر يرشيها بدفع 100 ألف فرنك قديم مقابل تذكرة، ولم يُجد معه أنها شرحت عجزها عن فعل أي شيء، فأخرج 500 ألفاً ووضعها أمامها على الطاولة، وعادت وشرحت قلة حيلتها، فما كان منه إلا أن أخرج مسدسه، وهددها. فاضطر المسؤولون عن الأولمبيا إلى أن يضعوا له كرسياً في واحد من ممرات الصالة ليحلوا المشكلة.

«مع أن أم كلثوم غنّت بوصفها فنانة، غير أن توقيت الحفل بعد هزيمة 67 بأشهر، وتبرعها بالمبلغ الذي نالته جعل الحدث الفني مرتبطاً بالسياسة»

ومما يرويه كوكاتريكس أنه حين سأل أم كلثوم: «أي ساعة تنتهي الحفلة؟». قالت: «لا أعرف، سأغني أغنيتين أو ثلاث». عندها فكر أن ثمة ما هو غير طبيعي في الأمر؛ إذ إن أغنيتين تنتهيان في 6 دقائق، أو ثلاث فلن تتجاوز مدتها 9 دقائق. ففزع، وقال لها: «ألا ترين أن هذا قليل؟». عندها أجابته: «سأغني ما يتوجب أن أغنيه، لا تقلق لذلك». وعندما حضر الحفلة الأولى، اكتشف أن كل أغنية تستمر ساعة ونصف ساعة، ثم تتبعها استراحة 20 دقيقة، ثم تعود السيدة لتغني ساعة ونصف ساعة أخرى. هكذا بقيت على المسرح 6 ساعات، قدمت خلالها ثلاث أغنيات.

لقد كان نجاحاً عظيماً، وصفته «لوموند» على النحو التالي: «إذا كان هناك عرض في الخارج قد ميز مسيرة المغنية المصرية، فهو هذا العرض. وبمرور الوقت، تم إثراء أخبار هذين الحفلين بالأساطير اللذيذة. ألم يُزعم أن الجنرال ديغول حضر أحد حفلي أم كلثوم متخفياً؟».

كوكاتريكس الرجل الذي جازف بدفع مبلغ اعتبره تجاوزاً ومغامرة، وجد، في النهاية، أنه كسب الرهان. هو الذي عمل مع عشرات النجوم الموهوبين من الصفّ الأول لم يخف دهشته بعد حفلي أم كلثوم. وعلّق بالقول: «وقتها تعلّمت درسين، فهمت أن اللغة في الفن لا أهمية لها، والمعيار الحقيقي للحكم على العمل الفني هما الموهبة والصدق».

ومع أن أم كلثوم غنّت باعتبارها فنانة، ولم تكن مبعوثة سياسية، غير أن توقيت الحفل بعد هزيمة 67 بأشهر، وحضور العديد من المسؤولين للأمسيتين، كما مسار أم كلثوم نفسه، والتزامها الوطني، كما تبرعها بالمبلغ الذي نالته لدعم بلدها، جعل من هذا الحدث الفني مرتبطاً بشكل لا مباشر بالسياسة، وبمصر، وبكل ما كان يعيشه العالم العربي من غليان في تلك الفترة المفصلية.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان
TT

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

يحتلّ موقع سمهرم مكانة مميزة في خريطة «طريق اللبان» العُمانية التي دخلت عام 2000 في قائمة اليونيسكو الخاصة بمواقع التراث العالمي، وهي طريق البخور التي شكّلت في الماضي معبراً تجارياً دولياً ازدهر على مدى قرون من الزمن. بدأ استكشاف هذا الموقع في مطلع الخمسينات، وأدت أعمال التنقيب المتواصلة فيه إلى العثور على مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية، منها بضعة أنصاب حجرية مسطّحة تحمل نقشاً غائراً يمثّل وجهاً آدمياً مختزلاً، تقتصر ملامحه على عينين واسعتين وأنف مستطيل.

يضمّ موقع سمهرم مستوطنة أثرية تجاور خوراً من أخوار ساحل محافظة ظفار يقع في الجهة الشرقية من ولاية طاقة، يُعرف محليّاً باسم «خور روري». يعود الفضل في اكتشاف هذا الموقع إلى بعثة أميركية، أسّسها عام 1949 في واشنطن عالم الآثار وينديل فيليبس الذي لُقّب بـ«لورنس العرب الأميركي». شرعت هذه البعثة في إجراء أول حفريّة في «خور روري» خلال عام 1950، وواصلت عملها على مدى 3 سنوات، وكشفت عن مدينة لعبت دور ميناء دولي، عُرفت باسم سمهرم، كما تؤكد النقوش الكتابية المدونة بخط المُسنَد العربي الجنوبي. من بين أطلال هذه المدينة المندثرة، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة زُيّن كلٌّ منها بنقش تصويري غائر طفيف يمثّل وجهاً آدمياً ذكورياً، كما يؤكّد الكشف العلمي الخاص بهذه البعثة.

عُثر على حجرين من هذه الحجارة على مقربة من أرضية مبنى من معالم سمهرم، وعُثر على ثالث على مقربة من المعبد الخاص بهذه المستوطنة، ممّا يوحي بأنه شكّل في الأصل جزءاً من أثاث هذا المعبد على الأرجح، كما رأى العالِم فرانك فيدياس أولبرايت في تقرير نُشر في عام 1953. استمرّت أعمال المسح والتنقيب في سمهرم، وتولّتها منذ عام 1997 بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا، ومع هذه الأعمال، تمّ الكشف عن مجموعة أخرى من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة مشابهة لتلك التي عثرت عليها البعثة الأميركية.

يتكرّر النقش التصويري على هذه الأنصاب التي احتار أهل الاختصاص في تحديد وظيفتها، ويتمثّل بوجه آدمي مجرّد هندسياً إلى أقصى حد. اختُزلت ملامح هذا الوجه بعينين لوزيّتين واسعتين، وأنف مستطيل رفيع. خلت هاتان العينان الفارغتان من حدقتيهما، كما غابت عنهما الرموش والحواجب، فظهرتا على شكل مساحتين بيضاويتين حُدّدتا بخط ناتئ رفيع وبسيط في وضعية المواجهة. كذلك، ظهر الأنف على شكل مثلّث عمودي طويل يحدّده خط مماثل. يعود هذا الوجه ويظهر على واجهة مجمّرة مخصّصة لحرق البخور، عثرت عليها البعثة الإيطالية خلال عام 2014، إلى جانب مجمّرتين تتبعان الطراز المألوف المجرّد من النقوش. ويتميّز هذا الوجه بظهور حاجبين مقوّسين يمتدان ويلتصقان عند أعلى مساحة الأنف المستطيلة.

خرجت من موقع سمهرم مجموعة كبيرة من المجامر والمباخر، غير أن هذا الوجه المجرّد لا يظهر على أي منها، كما أنه لا يظهر على أي من عشرات المجامر التي عُثر عليها في نواحٍ عدة من جزيرة العرب الشاسعة. في الواقع، يتبع هذا الوجه طرازاً ارتبط على نحوٍ واسع بشواهد القبور، وعُرف باسم «المسلّة ذات العينين». خرج العدد الأكبر من هذه المسلّات من محافظة الجوف التي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء، وخرج عدد آخر منها من وادي بهيان في محافظة حضرموت. تجاوز هذا الطراز حدود جنوب الجزيرة العربية، وبلغ شمالها حيث ظهر في واحة تيماء في منطقة تبوك، وقرية الفاو في الجنوب الغربي من الرياض، كما تؤكّد شواهده التي كشفت أعمال التنقيب عنها خلال العقود الماضية.

حمل هذا الطراز طابعاً جنائزياً لا لبس فيه، وتمثّلت خصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذي ظهر على شواهد قبور فردية، كما تشير الكتابات المنقوشة التي تسمّي أصحاب تلك القبور. يصعب تأريخ هذه المسلّات بدقة، نظراً إلى غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة، والأكيد أن هذا الطراز الجنائزي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد، وشاع على مدى 5 قرون. يحضر هذا الوجه في سمهرم، ويشهد هذا الحضور لدخوله إقليم عُمان في مرحلة تلت فترة انتشاره في جنوب الجزيرة وفي شمالها، فالدراسات المعاصرة تؤكد أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وارتبط بمملكة حضرموت في زمن نشوء التجارة البحرية وازدهارها في المحيط الهندي، وظلّ ناشطاً حتى القرن الخامس للميلاد، حيث تضاءل دوره وتلاشى تدريجياً نتيجة اندحار مملكة حضرموت.

حضر هذا الوجه التجريدي في سمهرم حيث ظهر على عدد من المسلّات، وانطبع بشكل استثنائي على مجمرة تبدو نتيجة لذلك فريدة من نوعها إلى يومنا هذا. خرج هذا الوجه في هذا الموقع العُماني عن السياق الجنائزي الذي شكّل أساساً في جنوب جزيرة العرب، وحمل هُويّة وظائفية جديدة، وتحديد هذه الهوية بشكل جليّ لا يزال يمثّل لغزاً وتحدّياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.