الملك أوديب يعاصر ثورة 25 يناير المصرية

محمد سلماوي يستعيد التراجيديا اليونانية في روايته الجديدة

الملك أوديب يعاصر ثورة 25 يناير المصرية
TT

الملك أوديب يعاصر ثورة 25 يناير المصرية

الملك أوديب يعاصر ثورة 25 يناير المصرية

في روايته «أوديب في الطائرة» الصادرة أخيراً عن دار الكرمة بالقاهرة، يستدعي الكاتب المصري محمد سلماوي تراجيديا سوفوكليس والبطل الأشهر في الأدب اليوناني والمسرح العالمي «أوديب»، ويضعها في قالب فني عصري، لتتقاطع مع ثورة المصريين في 25 يناير (كانون الثاني) 2011.

منذ اللحظات الأولى في الرواية يطل علينا أوديب في مشهد مخزٍ، ملك يرفض النزول من الطائرة لأنه يعرف أن الخطوة المقبلة ستكون إيداعه في السجن مع اللصوص وقطاع الطرق، في حين يحمل في طيات نفسه تاريخاً تليداً من المجد. فهو المنتصر على الأعداء، والذي حمى البلاد من الانقسام بين عنصري الأمة، كما أنه الذي تولى العرش محمولاً على الأعناق بعد القضاء على وحش طيبة المزعوم، فكيف يجد نفسه في هذا الوضع المهين؟

ومن ثم، تبدأ لعبة المفارقات التي يبدو الكاتب مولعاً بها، فتخيُّل الملك الإغريقي وهو يهبط من طائرة مفارقة في حد ذاتها، وتتوالى المفارقات في أكثر من ملمح، فمدينة طيبة التي يحكمها أوديب في اليونان، لها نظير مصري، فهي من أشهر المدن القديمة بصعيد مصر ثقافة وفناً وفكراً وتاريخاً وكانت عاصمة للبلاد لفترة طويلة من التاريخ الفرعوني، ما يجعل مملكة أوديب انعكاساً لمصر في محيطها العربي، وأوديب نفسه هو قائد الجيوش وصاحب الضربة الحاسمة في الحرب الأخيرة ضد إسبرطة الطامعة دائماً في خيرات طيبة، ما يشير إلى الصراع العربي - الإسرائيلي والضربة الحاسمة في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، التي تغنّى بها البعض بوصفها «ركيزة النصر».

إنها لعبة المرايا يجسدها الكاتب بين زمانين ومكانين متباينين، وكما استدعى جيمس جويس بطل «الأوديسا يوليسيس»، ليعيش في شوارع دبلن في بدايات القرن العشرين، يستدعي سلماوي الملك أوديب ليعاصر الثورة المصرية في 25 يناير 2011، في توظيف فني محكم للأسطورة اليونانية والمأساة الإغريقية الشهيرة.

وإن كان الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو يرى في كتابه «ست وصايا للألفية القادمة» أن «الدرس الذي يمكن أن نتعلمه من أسطورة ما يكمن في سردها الحرفي، وليس فيما نضيفه إليها من الخارج»، فقد تجاوزت «أوديب في الطائرة» السرد الحرفي للأسطورة في أحيان كثيرة، لتصنع المفارقة السحرية عبر النقلة الزمنية والإضافات الخارجية.

ويتم ذلك في الرواية عبر خط درامي عصري، تجسّده هيباتيا وحبيبها بترو. هيباتيا هي نموذج للجمال الفتّان في طيبة، وبترو هو الشاب المتخرج في معهد السينما، وكان من المفترض تعيينه بالمعهد، لكن الوظيفة ذهبت لابن عميد المعهد ضمن منظومة الفساد المتفشية.

ويشكل الفتى بترو جماعة ثورية، تتخذ من الميدان الكبير مركزاً للاعتراض على الفساد والظلم والسرقة التي يتعرض لها الشعب، وتتوافد عليهم الجماهير، ويقرر بترو تسجيل لحظات الثورة بكاميرته الخاصة، ليقدم فيلماً وثائقياً حياً من قلب الأحداث، مثل أفلام «مايكل مور» التي حظيت باهتمام وشهرة كبيرين، وحين يتعرض للسجن تستكمل هيباتيا التصوير، وترصد زفاف صديقين لهما في الميدان. ينجح بترو بمعاونة ليون صاحب الاستوديو في أن يصل بفيلمه إلى المهرجان الدولي للأفلام الوثائقية بأمستردام.

على الجانب الآخر، يحاول قائد الجيش ورئيس مجلس الشيوخ معرفة أسباب اللعنة التي حلّت على طيبة، ويحتكم الجميع لنبوءة زيوس كبير الآلهة، ويفصح عن اسم «أوديب» بوصفه سبب اللعنة والطاعون، ورغم اتهام أوديب قائد الجيوش ورئيس مجلس الشيوخ بالتآمر عليه، فإنه يقرر التنازل عن الحكم بإرادته.

تتكشف أبعاد المأساة الأسطورية في رواية «أوديب في الطائرة» بعد اعتراف الملك أوديب أنه لم يقتل الوحش الرابض على مشارف طيبة (أبو الهول)، الذي كان بوجه امرأة وصدر وأرجل أسد وجناحي نسر، بحسب التراجيديا «السوفوكليسية»، وإنما واجه مجموعة من قطاع الطرق خارج طيبة فقتل قائدهم وفر الباقون هاربين، ودخل طيبة متوجاً ملكاً عليها، وتزوج زوجة الملك الراحل لايوس، الذي أُشيع أن قطاع طرق قتلوه وهو يبحث عن الوحش، ويعرف أوديب بعد ذلك أنه قتل والده، وتزوج أمه (جوكاستا)، لذلك حلت اللعنة على طيبة.

تجاوزت «أوديب في الطائرة» السرد الحرفي للأسطورة لتصنع المفارقة السحرية عبر النقلة الزمنية والإضافات الخارجية

وفي الرواية يرفض أوديب أن يترك بلده تلبية لدعوات الملوك الذين طلبوا استضافته، الأمر الذي يعيدنا إلى ما قيل عن دعوات من دول عربية لاستضافة الرئيس الأسبق في ذروة «الاحتشاد الثوري» خلال 2011، إلا أنه رفض ترك البلاد. لكن أوديب يرفض أيضاً النزول من الطائرة ودخول السجن، محتجاً بأنه بطل قومي ليس مجرماً أو لصاً. وفي النهاية يقنعه تيريسياس، العراف الأعمى، بالنزول لتنفيذ نبوءة زيوس ورفع البلاء عن البلاد، وبعد أيام قليلة يموت أوديب في سجنه، ما يذكرنا بكتاب «الكاتب وأشباحه» للروائي الأرجنتيني الشهير إرنستو ساباتو، حيث يرى أن الحروب والثورات والكوارث الكبرى تسمح للفنانين – الكُتّاب بكشف وتسجيل آخر أسرار الطبيعة الإنسانية، عبر استخدام أبعاد ميتافيزيقية - أسطورية، الأمر الذي انعكس بشكل جلي في توظيف مأساة أوديب في أحداث «الثورة المصرية»، وذلك عبر مساحات متنوعة من الحكي عن الأساطير لترسيخ المأساة في عقل المتلقي ومنها أسطورة برومثيوس الذي سرق النار من الآلهة ومنحها للبشر، فعوقب بنهش كبده يومياً، وطنطاليس الذي سرق طعام الآلهة وأعطاه لشعبه، فعوقب بالجوع والعطش الأبديين.

إن الأسطورة تنفخ الحياة وفرضية التجانس وتسمح بجمع عدد كبير من العناصر ودمجها بصورة تكاملية، بحسب ميشيل زيرافا في كتابه «الأسطورة والرواية»، وقد وعى المؤلف ذلك في «أوديب في الطائرة» موظفاً الشخوص المتعددة في مسرحية سوفوكليس في قالب عصري مفعم بالحيوية.

صدر لسلماوي عدد من الأعمال المسرحية والروائية منها «الجنزير» و«رقصة سالومي الأخيرة»، وروايات «الخرز الملون» و«أجنحة الفراشة»، وتوقع في الأخيرة الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية 2010، ثورة كبيرة يقوم بها الشباب انطلاقاً من التطورات التكنولوجية ومواقع التواصل الاجتماعي.



العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً
TT

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

تلتقط هدى بركات، في روايتها الجديدة «هند أو أجمل امرأة في العالم» الصادرة عن «دار الآداب» لحظة موت الأم. تلك الهنيهة المفصلية القاصمة، التي تنقل المرء من حالة عيشه اللحظوية، إلى مراجعة الذات واستقراء الذاكرة وإعادة ترتيب الماضي، على ضوء الفقد العضوي الباتر. هكذا تترك الروائية لبطلتها المصابة بمرض «الأكروميغاليا»، أو تضخم الأطراف، حرية أن تمضي جيئة وذهاباً على خط الزمن، في محاولة للتصالح مع الذات والذوات الأخرى التي أحاطتها.

حين تموت الأم

ماتت الأم إذن، وها هي هنادي تعود للوطن، وتجد نفسها في تلك الأماكن القديمة التي عرفتها برفقة والدتها، لكنها هذه المرة وحيدة، ومعها زادها الثقيل من الصور والحكايات التي انقضت، وتجربتها القاسية في الغربة، وحاضرها الصعب، وقد تعرضت البلاد لعواصف من الأحداث الأليمة، لعل آخرها انفجار مرفأ بيروت، الذي تبدو آثاره جلية في الرواية، وفي حياة الأهالي.

بالرواية شخصيات عدة: الأم التي رحلت وتركت خلفها علاقتها المتوترة مع هنادي، وهند الشقيقة التي رحلت باكراً، والجيران (أم منصور)، والعمات وعامل الإنترنت أحمد، والحبيب رشيد، وآخرون، يظهرون سريعاً ويغيبون. غير أن القصة تبدو للقارئ وكأنها «مونولوغ» طويل بسبب أن الراوية - هنادي التي على لسانها يدور السرد، وتتفرد وحدها بأن تحكي لنا قصتها، من وجهة نظرها وكما تراها، من زاوية خاصة بسبب المرض النادر الذي تعاني منه وجعل حياتها متفردة أيضاً. فهو ينتج عن اضطراب هرموني لا يجعل الشكل مشوهاً والرأس متضخماً، والجسد متعملقاً، والشعر كالإبر، فحسب، بل يتطور بمرور الوقت ويتسبب بإعاقات، وعلل تودي بصاحبها، أو في أحسن الأحوال تتسبب بتدهور صحته.

حال هنادي نعيشه معها وهو يتردى مع تقدم العمر، ويسهم أيضاً في تأجيج الذاكرة، وتفتيق الجراح. المشكلة تبدأ باكراً، حين تلحظ الأم المفتونة بالجمال أن هنادي التي أرادتها بدلاً عن ابنتها الفقيدة هند بجمالها الأخاذ، لن تكون كما تمنتها، بل ستجلب لها شفقة الآخرين ونظراتهم المواربة، عندما تبدأ تفقد حسنها، وتظهر عليها آثار المرض. «بدأت عظام رأسي تكبر على غير اتساق. ذقني يبرز بقوة» تقول هنادي: «وفكاي صارا كفكي رجل تجاوز المراهقة، مباعداً بين أسناني. عظام الحاجبين انتفخت كما عند القردة، وتكورت جبهتي وتحززت كطابة مبعوجة، وفقد صوتي نعومة صوت البنات».

لم تستسغ الأم الأمر ولم تتقبله، لذلك تحجب هنادي عن أعين الناس، تضعها في العلّية، تخبئها هناك، تناولها الأكل، وما يلزم، وربما غابت عن البيت لوقت، ونسيتها. بينما تقضي هي وقتها بقراءة تلك المجلات والكتب التي تركها والدها قبل أن يغيب. وحين يسأل عنها أحد من المعارف، تقول الأم عنها، إنها سافرت عند عمتها.

تحاول هنادي أن تجد المبررات لجفاء والدتها: «حرام أمي حبيبتي. مسكينة. كان ذلك فوق طاقتها. كانت تتعذب أكثر مني من بلوتي». لقد أصيبت الأم بصدمة من مرض ابنتها؛ وباتت تختفي وتنام في غرفتها بالساعات، تخرج من البيت ولا تعود، تستفيق في الليل وتبحلق بعينين مشدوهتين، كمن يستيقظ من كابوس.

البحث عن الذات

لا إحساس من هنادي بالضيم، إذن، بقدر ما هي الرغبة في الانفصال عن الأم، لكن عمتها التي لجأت إليها ترسلها بهدف العلاج، عند عمة أخرى في باريس، لن تعثر عليها أبداً. في المقابل، تقع هنادي في مطبات وتتعرف على شخصيات لكل منها سمتها، هناك غلوريا الراقصة النيجيرية التي تحنو عليها، وفرنسوا الذي يتبين لها بعد ذلك أنه رشيد، الجزائري الأصل، المبتور الذراع، صاحب الماضي الغامض، تربطها به صلة حب لم تكتمل، وسرعان ما يرجع إلى حياة التشرد والمخدرات. هذا ما سيقودها إلى رجعة باتجاه الوطن.

قليلاً ما انشغلت الروايات العربية بالعلاقة بين الأهل وأولادهم الذين يعانون من عاهات، وصلات تشوبها الكثير من التعقيدات، قد تتراوح بين الحب الجارف النابع من الشفقة، والنفور المتأتي من رفض القبول بواقع قاسٍ له تبعات ممتدة في الزمن. لكن هنادي، لا تحقد ولا تكره، بقدر ما تبحث عن نوافذ حب لتريح نفسها. «وأنا في بحثي الدائم بل المحموم عن أصول الحب وأغراضه، وخاصة حب الأم، أي حب أمي لي، كنت أحفر في كامل كياني كل معلومة أقرأها أينما وجدت». استشعرت هذا الحب مثلاً، حين أصيبت بالجدري، رأت لهفة أمها عليها. فحب الأم حقيقة لا شك فيها، إلا في بعض حالات الخلل الهرموني الشاذة. هذا كله لترتاح وتقول إن الأمر قدري، ولا مسؤولية لأحد: «أنا ملكة الهواجس... ملكة الحظ السيئ».

هنادي شخصية أقرب إلى اللطف والدعة، والأم تبدو وكأنها تمتلك الشيء وضده، لها سمات متناقضة، مما يصعّب على الابنة العائدة، بناء شخصيتها من جديد، تحاول كي تحرر نفسها من عبء العلاقة المتوترة مع الأم أن تجد لها مبررات لسوء مزاجها: «ربما صارت أمي قاسية ومنعزلة ولئيمة، أنا أيضاً قد أصبح كذلك، حين يشتد علي الألم. تصبح رؤية الناس أو سماع أصواتهم عذاباً خالصاً».

مناجاة الكائنات

وفيما يشبه الهروب أو مؤانسة الذات تلجأ هنادي إلى مصاحبة الشجر والنبات، والقطة زكية، التي ترافقها في يومياتها، والكلب رامبو، وشجرة التين الموجودة في الشرفة، وشجرة الصفصاف. تقضي وقتاً مع رشيد، وآخر مع الميكانيكي نبيل ونكتشف جانباً من شخصية هنادي وهي تتعرف على عالم جديد، عبر الإنترنت بمعونة أحمد العامل الباكستاني قرب منزلها. لكن الكاتبة تبقي كل هذه الشخصيات في خدمة الكشف عن أبعاد شخصية هنادي، وتلك العلاقة الملتبسة مع أمها، وكأنما هي حكاية نسائية أكثر من أي شيء آخر. ونساء لهن تجربة خاصة، لسن كبقية النساء. فالعلاقة بين الأم وشقيقها، بقيت متشنجة، ومع والدها لم تكن سهلة. هنادي هي الأخرى، كان حظها مع الرجال يتحرك صعوداً ونزولاً، لتنتهي في عزلتها.

هي أيضاً رحلة بحث الابنة الغائبة التي تشعر بالندم على ما فات. هربت لتريح والدتها منها. «هربي كان صفقة لصالحنا نحن الاثنتان... لكنها قد تكون تغيرت وندمت وحين ندمت لم يعد بمقدورها أن تجدني، وأن تعتذر مني».

تتحرى حقيقة شخصية الأم من رائحة الشراشف والنبش في الأغراض، ورق مخبأ، «لماذا احتفظت أمي بمزقة الجريدة هذه وقد طوتها بعناية؟ هل تكون نسيتها أو أضاعتها بين غيرها من الأوراق وتاهت عنها تماماً؟».

إيقاع هادئ

النص يسير وفق إيقاع هادئ، وبطيء، يواكب حركة هنادي التي تفتقد للحيوية بسبب المرض، إلى أن نكتشف في النهاية سرّ والدها، وقصته المثيرة، التي خبأتها الأم عنها. وهو ما يربط النص قليلاً بما نشهد من أحداث حالية. حيث إن الأب ذهب إلى إسرائيل مع العملاء الذين هربوا بعد حرب التحرير عام 2000 لا لأنه عميل بل اعتقد أنها وسيلة للهروب من وجه العدالة بعد ارتكاب جريمة بطريق الخطأ ومطاردته بهدف الثأر. ظن أن العودة إلى الوطن ستكون متاحة لاحقاً، لكنه بقي هناك، وفي إسرائيل صارت له حياة أخرى، نكتشفها في نهاية الرواية.

صحيح أن تيمة الحرب ليست في مركز القصة، لكنها مبثوثة فيها، هي في الخلفية من خلال غياب الأب وانكفائه عن الصورة، ثم حين يشكل المفاجأة بنهايته غير المتوقعة، ونكتشف أسراره الصادمة. الحرب حاضرة في التفاصيل اليومية، في تعامل الناس مع بعضهم، في انقطاع الماء، في غياب الكهرباء، وأزمات العيش.

رواية تأملية، هادئة، مشغولة بالحفر الداخلي الباطني، أكثر من عنايتها بالصخب الخارج والإيقاع الحياتي للبطلة. وهي مواكبة حميمة لامرأة مريضة، تكافح وحيدة، دون تبرّم كي تصل إلى نهايتها بسلام.