هل يتغيّر العالم في العام الجديد؟

إذا استمرّت الدوَل المعاصرة في الاقتتال الإفنائيّ فإنّنا قد نشهد غرق الحضارة الإنسانيّة

هيغل
هيغل
TT

هل يتغيّر العالم في العام الجديد؟

هيغل
هيغل

غالباً ما نسأل أنفسنا على مشارف العام الجديد عن مآلات الزمن المقبِل علينا. يَطرح الأفراد على وجدانهم أسئلة التغيير الكيانيّ المنشود والتهذيب الأخلاقيّ المستحَبّ، في حين تستفسر الأمَم عن مسار التاريخ العالميّ المقترن بتطوّر العلاقات بين الحضارات، بين المجتمعات، بين الدوَل. أمّا النظر الفلسفيّ فيتأمّل في ارتقاء الوعي الإنسانيّ وانتقاله من طورٍ إلى آخر، سواء في النضج المتراكم أو في الانحلال المتفاقم. أخطرُ الاستفسارات تتناول مصير الإنسانيّة على تعاقب الأزمنة والعصور. فهل ساهمت المكتسبات العلميّة الجليلة والفتوحات التقنيّة المذهلة، لا سيّما في نطاق الذكاء الاصطناعيّ الذي وسم إنجازات العام المنصرم، في تعزيز قيمة الإنسان الكيانيّة وتوطيد كرامته الذاتيّة وترسيخ مقامه الفريد في الكون؟

ابن خلدون

في صميم الاستفسار الفلسفيّ الخطير هذا ينغرس الشكُّ في قدرة الإنسان على تغيير طبيعته المجبولة على تساكن الملائكيّة الراقية والبهيميّة المنحطّة. لا أعتقد أنّ تطوّر المعارف العلميّة يمكنه أن يبدّل في بنية التنازع الوجدانيّ الذي فُطِر عليه الكائنُ الإنسانيُّ. جلُّ ما في الأمر أنّنا أصبحنا نمتلك المفاهيم الدقيقة لكي نصف أحوال الاضطراب في التاريخ الإنسانيّ، ونُتقن استخدام الآلات المتطوّرة لكي نحلّل بنية المادّة في الإنسان، وفي الطبيعة، وفي الكون الأرحب. غير أنّ اتّساع المعجم اللفظيّ في الآداب والفنون والفلسفة، واختراع الآلات التكنولوجيّة الخارقة في العلوم التجريبيّة التطبيقيّة، لا يُفضيان إلى ولادةِ إنسانٍ جديدٍ، حتّى لو التحمت بخلايا جسده التحاماً كيانيّاً وثيقاً الأعضاءُ الاصطناعيّةُ المقوِّية، والشرائحُ الإلكترونيّة المتفوّقة، والأجهزةُ المعلوماتيّةُ المتنامية.

إذا ثبت أنّ البشريّة أضحت اليوم قادرةً على تحليل أسباب الانحلال الأخلاقيّ الفرديّ والجماعيّ، على نحو ما رسم مسارَه التصاعديّ عالمُ التاريخ والاجتماع والاقتصاد الفيلسوفُ التونسيُّ ابن خلدون (1332-1406)، فإنّ معرفة الأسباب النظريّة لا تؤهّل الوعي الإنسانيّ لتجاوز محنة الانعطاب الكيانيّ. نعرف اليوم أنّ الأمَم تنشأ وتنمو وتزدهر، ولا تلبث أن تضعف وتخبو وتتقهقر وتنحطّ وتنحلّ وتتلاشى وتَفنى. بيد أنّ ناموس التطوّر الطبيعيّ هذا لا ينطبق على حضارةٍ من الحضارات، أو أمّةٍ من الأمَم، أو مجتمعٍ من المجتمعات، بل قد يصيب البشريّة قاطبةً. إذا استمرّت الدوَل المعاصرة في الاقتتال الإفنائيّ، فإنّنا قد نشهد غرق الحضارة الإنسانيّة برمّتها، على نحو ما أومأ إليه الأديب اللبنانيّ-الفرنسيّ أمين معلوف (1949-....) الذي ما برح يحثّ الجميع على التحاور العقلانيّ البنّاء المستند إلى الاعتراف الصريح بالقيمة الاستثنائيّة الفريدة اللصيقة بتراثِ كلِّ حضارةٍ على حدة.

فرانسيس بيكون

حسنًا يفعل العلماءُ حين يُرسلون إلى الفضاء الأعلى أسطواناتٍ إلكترونيّةً صلبةً شديدةَ المنعة الذاتيّة يستودعونها مجموعَ الإنتاج الثقافيّ العالميّ المتراكم منذ تفتّح الوعي الإنسانيّ. الظنُّ أنّ تفاقم العنف الحضاريّ واضطراب النظام البيئيّ وفساد العلاقات الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة قد يُفضي عاجلاً أم آجلاً إلى انقراض الجنس البشريّ في الهيئة الكلاسّيكيّة المألوفة التي نعرفها حتّى اليوم. ربّما تستطيع بعض مختبرات العلوم الفيزيائيّة وشركات الشحن الفضائيّ أن تضمن لكوكبةٍ من الكائنات البشريّة المتطوّعة شروطَ الحياة المستديمة على سطح القمر أو المرّيخ. حينئذٍ لا تملك البشريّة الباقية في الأرض إلّا أن تعاين انحلالها الحتميّ الآتي.

أعرف أنّ مثل التصوّر الأُخرويّ النشوريّ القياميّ هذا ما فتئ مقتصراً على خيالات الأدباء وصنّاع الأفلام السينمائيّة. بيد أنّ علامات الأزمنة المعاصرة في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين لا تُنبئ بانفراجاتٍ حضاريّةٍ واعدة. من المحتمل أن يظلّ التاريخ سائراً في دوران تكراريٍّ مطّردٍ من غير أن يُفضي إلى خاتمةٍ واضحةِ المعالم. في هذه الحال لا نملك إلّا أن نشاهد الناس في كلّ عامٍ جديدٍ يواظبون على الإفصاح عن نيّات التصالح والتغافر والتسالم، ولكن من غير أن يقرنوا مقاصدهم وأقوالهم بأفعال الإصلاح البنيويّ. لذلك ينبغي البحث عن العوامل الدفينة التي تحرّك التاريخ في اتّجاه الفساد والظلم والاضطراب والاحتراب. أفتكون غريزة الشرّ الناشبة في أعماق الطبيعة الإنسانيّة عاملاً حاسماً في إفساد المعيّة الحضاريّة؟ أم إنّ اختلال التوازن الجيوسياسيّ وتضارب المصالح الاقتصاديّة واستفحال الادّعاءات الآيديولوجيّة الاستعلائيّة الإقصائيّة عواملُ بنيويّةٌ أساسيّةٌ تؤثّر تأثيراً بالغاً في افتعال النزاعات والحروب؟

أعتقد أنّ التسويغَين الفرديّ والجماعيّ هذَين مرتبطان أوثقَ الارتباط، إذ إنّ الأفراد الصالحين المستنيرين المستمسكين بالفضائل الأخلاقيّة الرفيعة يمكنهم، من موقع مسؤوليّاتهم الإداريّة الخطيرة، أن يتدبّروا أعتى المعضلات السياسيّة والاقتصاديّة والآيديولوجيّة استعصاءً، وأن يلتئموا في محفل عالميّ تشاوريّ لكي يتباحثوا في أرقى الحلول عدلاً وإنصافاً. غير أنّ التهذيب الأخلاقيّ الروحيّ لم يَعد ينفع في منتديات التشاور العالميّة. وهنا بيت القصيد، إذ إنّ العقل الإنسانيّ المعاصر المبنيّ على الفاعليّة الإجرائيّة والأداتيّة المنفعيّة أمسى عاجزاً عن إرشاد الأفراد إلى مسالك الصلاح. غالباً ما أشعر أنّ أهل السياسة والاقتصاد النافذين في المحافل الكونيّة يعانون انفصاماً مرَضيّاً في شخصيّتهم الأخلاقيّة، لا سيّما حين يتخلّون عن مبادئهم الإنسانيّة في معترك مباحثاتهم السياسيّة والاقتصاديّة المصيريّة الخطيرة.

أهل السياسة والاقتصاد النافذون في المحافل الكونيّة يعانون غالباً انفصاماً مرَضيّاً في شخصيّتهم الأخلاقيّة، لا سيّما حين يتخلّون عن مبادئهم الإنسانيّة

وعليه، ينبغي النظر في مسار العقل الإنسانيّ المعاصر وإرشاده إلى مبادئ الصلاح الأخلاقيّ العليا. إذا أردنا أن تتغيّر أوضاع المسكونة، كان علينا أن نتدبّر حركة العقل الذي غالباً ما يخون مبادئه الأخلاقيّة في ميدان الفعل التاريخيّ. كان الفيلسوف الألمانيّ هيغل (1770-1831) يُصرّ على مكر العقل في التاريخ، واليقين الفلسفيّ الأرسخ عنده أنّ ضروب الفساد التي تعتري البشريّة إنّما هي حيَلٌ يبتدعها العقل الكونيّ حتّى ينضبط المسارُ الجدليُّ كلُّه في نظام التعقلن الروحيّ الأشمل المتجلّي في نهاية الأزمنة. من غرائب التفاؤل الأونطولوجيّ الهيغليّ هذا أن تنطوي حروب الناس المتناسلة على مقاصد التطهّر الأخلاقيّ الذي يُعِدّ البشريّة لأزوف زمن الروح المطلق.

يبقى السؤال الخطير الذي يؤرّق وعينا: هل ستستمرّ البشريّة على هذه الحال عاماً بعد عام؟ أم إنّ التاريخ سيُفرج قريباً عن مشهديّةٍ ختاميّةٍ مأسَويّةٍ تُفني الحياة على الأرض وتدفع بالفرقة الناجية إلى أعالي الفضاء الكونيّ؟ كلّ شيء ممكنٌ في قرائن الاحتدام الآيديولوجيّ الغضبيّ الالتهاميّ المستشري. ولكن هل نقبل أن يُقضى على الناس الطيّبين من ذوي الإرادات الصالحة وأن يؤخذوا بجريرة أهل الظلام والظلم والعنف والإجرام؟ لكي يتحرّر الناس من اجتراريّة الكلام التشاؤميّ هذا، ينبغي أن يتنادَوا ويتضامنوا ويتعاونوا من أجل استنقاذ مبادئ العقل النظريّ والعمليّ السويّة، وتهذيب الوعي الفرديّ والجماعيّ، وإرشاده إلى قيَم الكرامة والمساواة والحرّيّة والأخوّة والعدل. ذلك بأنّ الإنسانيّة المعاصرة لا تستحقّ الحياة في الأرض إذا ما أمعنت في ضلالها الآيديولوجيّ وانحلالها الأخلاقيّ.

ما معنى الحياة الإنسانيّة إذا انعدمت فيها مثلُ القيَم الأخلاقيّة الروحيّة الرفيعة هذه؟ أمّا الشرط الضروريّ الذي يمكّن المجتمعات المعاصرة من ترميم الرجاء الإنسيّ المتصدّع، فالتربية الرشيدة التي تصون عقلَ الأفراد في كلّ مجتمع على حدة، فتُحرّره من أوهام المخيِّلة المريحة، وقد أوجزها الفيلسوف الإنجليزيّ فرانسيس بيكون (1561-1626) في الأصنام الأربعة: صنم القبيلة أو المجتمعيّة الإكراهيّة القاهرة، وصنم الكهف أو المثاليّة الانعزاليّة، وصنم السوق أو الأفكار المتداولة الرائجة، وصنم المسرح أو الإيمان الأعمى المقيَّد بنماذج الماضي السلفيّة العقيمة. أعتقد أنّ العقل الفرديّ الذي ينعتق من هذه الأصنام يستطيع أن يساهم مساهمةً فاعلةً حاسمةً في إطار مجتمعه حتّى يحرّر الناس من محنة الفساد والظلم والاحتراب. حينئذٍ يصيب الرقيُّ العقليُّ الأخلاقيُّ هذا منتدياتِ القرار السياسيّ العالميّة. لا سبيل إلى خلاص الأرض إلّا بانعتاق العقل الفرديّ من سلاسل الجهل. بيد أنّ هذا الانعتاق مسؤوليّةٌ تربويّةٌ جليلةٌ في المقام الأوّل.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

قافلة من الشعراء تشعل ليالي الكويت الباردة في «دورة البابطين» الثقافية

الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)
الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)
TT

قافلة من الشعراء تشعل ليالي الكويت الباردة في «دورة البابطين» الثقافية

الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)
الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)

أشعلت كتيبة من الشعراء، تقاطروا من كل أرجاء العالم العربي، لياليّ الكويت الباردة بالدفء والمشاعر الصاخبة، في توليفة من العشق والغزل والحنين والافتجاع، حيث أوقد 27 شاعراً وشاعرة عربية جمر الكلمات لتنساب قصائدهم كألسنة نار تسكب حرارة العاطفة في قوالب موسيقية تجتذب القلوب التواقة إلى الدفء والجمال.

عبر ثلاث أمسيات شعرية، توزع الشعراء الـ27 ضمن فعاليات الدورة التاسعة عشرة لمؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية للإبداع الشعري، التي خصصت أعمال هذه الدور لسيرة مؤسسها الراحل الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، الذي رحل منتصف ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أقيمت الأمسيات الثلاث في مكتبة البابطين في العاصمة الكويت، الأمسية الأولى جمعت تسعة شعراء من مختلف أنحاء العالم العربي، وأدارها الدكتور مشعل الحربي (الكويت). وشارك فيها كلٌ من: أوس الأفتيحات (العراق)، وجاسم الصحيّح (السعودية)، وجمانة الطراونة (الأردن)، وحنين عمر (الجزائر)، وخالد بودريف (المغرب)، ومحمد طه العثمان (سوريا)، ومحمد عرب صالح (مصر)، وموضي رحال (الكويت)، ووليد الصراف (العراق).

الأمسية الثانية جمعت أيضاً تسعة من الشعراء، وأدارها الدكتور عبد الله السرحان (الكويت) وشارك فيها كلٌ من: أحمد شلبي (مصر)، وجاسر البزور (الأردن)، وخالد الحسن (العراق)، وروضة الحاج (السودان)، وسمية محنش (الجزائر)، وفالح بن طفلة (الكويت)، ومحمد الجلواح (السعودية)، نبيلة حماني (المغرب)، وهبة الفقي (مصر).

وضمّت الأمسية الثالثة، تسعة شعراء آخرين، وأدارها الدكتور أحمد الفرج (الكويت)، وشارك فيها كلٌ من: إباء الخطيب (سوريا)، وأحمد بلبولة (مصر)، وإياد هاشه (العراق)، وحسام شديفات (الأردن) ودلال البارود (الكويت)، وشقراء مدخلي (السعودية) وعبد الله الفيلكاوي (الكويت)، وفارس حرّام (العراق)، ومحمد البريكي (الأمارات).

الشاعر السعودي جاسم الصحيّح (الشرق الأوسط)

جاسم الصحيّح

شارك في الأمسية الأولى الشاعر السعودي جاسم الصحيّح، الذي سبق أن فاز بجائزة أفضل ديوان شعري في مسابقة البابطين للإبداع الشعري 2012 عن ديوانه «ما وراء حنجرة المغني»، كما حاز جائزة سوق عكاظ الدولية للشعر العربي الفصيح 2018، وأخيراً جائزة المركز الأول في برنامج «المعلقة» من وزارة الثقافة السعودية في عام 2024.

وألقى الصحيّح بعضاً من نصوصه، جاء في قصيدته «لعابر في التآويل»:

نبيٌّ ولكنْ عابرٌ للشرائعِ

حدودُ سماواتي حدودُ أصابعي

إذا سال ظِلِّي بَلَّلَتْنِي غمامةٌ

من الوحيِ، تندَى بالمعاني الجوامعِ

رَعَيتُ ولكنْ في مراعي هواجسي!

تَأَمَّلتُ لكنْ في (حِرَاءِ) الشَّوَارِعِ!

يُجَلِّلُني مجدُ القصائدِ حينما

أشمُّ أريجَ الله بين (المَطالعِ)

حروفي نجومٌ أَفْلَتَتْ من مدارِها

إليَّ، وعَقَّتْ ما لها من مواقعِ!

فما حِكمتي إلا الجَمالُ، وحُجَّتي

شعوري بأنَّ الكونَ إحدى ودائعي

تَلَمَّستُ ديني داخلي فاعْتَنَقْتُهُ

وشَيَّدتُ في كلِّ الخلايا صوامعي

يسيلُ بيَ التأويلُ في كلِّ جُملةٍ

كأنِّي (مجازٌ مُرسَلٌ) للمنابعِ

بسَبعَةِ أختامٍ أُشَمِّعُ فكرتي

وأرسلُها للخلقِ دون طوابعِ

سـيَشكُونِـيَ الوُعَّاظُ مِلءَ نقيقِهِمْ

فمُستنقعُ الشكوَى كثيرُ الضفادعِ

الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)

روضة الحاج

شاركت الشاعرة السودانية روضة الحاج في الأمسية الثانية، وسبق أن حازت لقب «شاعر سوق عكاظ» لعام 2005، وشاركت في برنامج «أمير الشعراء» بنسخته الأولى، وحازت المركز الرابع... الشاعرة روضة الحاج، حملت أحزان بلدها السودان الذي تكويه نار الحرب، ومعاناة الناس وعذاباتهم، فألقت من لهيب الحزن قصيدتها «الآن تُمطرُ في جنوبِ القاهرة!»، جاء فيها:

وأنا ومصرُ

غريبةٌ لاذت بحزنِ غريبةٍ

بينا تسيرُ القاطرة

كلُّ المحطاتِ التي مرَّت بنا

متشابهاتٌ كلُّهنَّ

فليس من بيتٍ

لكي نأوي له

والساعة العجلى تشير إلى تمام العاشرة!

لا أهلَ

لا مستقبلينَ هناك

لا معنًى أُطاردُه

فيتبعُني ويُتعِبني

فقط

وجعٌ عظيمٌ لانهمارِ الذاكرة!

الآن تُمطر في جنوبِ القاهرة

وأنا يُعاودُني شجاي المرُّ

تعبثُ بي حميَّاي القديمةُ

كلما

بكتِ السماءُ وأبرقت

فكأنَّما روحي السماءُ الماطرة

وجعٌ عتيقٌ

يستبدُّ بهذه الروحِ المطيرةِ

كلما

لمعتٌ بروقٌ كنتُ أعرفُهنَّ

هبَّ عليّ عطرُ الأرضِ

أيقظَ كلَّ ما هدهدتُه لينامَ

أوقدَ ليلي الساجي

وسافرَ بي هناك

وهل أنا

مذ جئتُ هذي الأرضَ

إلا ضيفةٌ ومسافرة!

مطرٌ

وصوتُ (حليم)

شايٌ أحمرٌ

كتبٌ مبعثرةٌ

وشوقٌ

لست أدري ما الذي أشتاقُه

ومن الذي أشتاقُه

لكنَّني أدري تلوُّي القلبِ

كالملدوغِ

حين تُحيط بي أشجانُه

أدري بسكِّينِ الحنينِ

يشقُّ هذي الخاصرة!

الآن تُمطرُ في جنوبِ القاهرة

أبكي

لأرضٍ لم تغادرني وإن غادرتُها

لأحبةٍ سأظلُّ أحملهُم معي

حتى الحياةِ الآخرة!

أو ربما أبكي مكابدتي

لأبدو مثلما أبدو

وفي روحي تمورُ عوالمٌ شتى

وكونٌ كاملٌ يغلي

وأسئلةٌ

وما من مهربٍ إلا إلى هذي القصيدةِ

وهي تُمعنُ في مراوغةٍ

أنا أدرى بها

يا للعنودِ الماكرة!

ولربما أبكي

صدوعاً كلما رممّتها

وظننتُها التأمت

أعادتها قصيدةُ شاعرٍ

أو شاعرة!

أبكي

وتنهمرُ السماءُ

وتُجهش الدنيا معي

والشوقُ يهطِلُ

والحنينُ الآنَ

يهمي من سماءِ القاهرة!

الشاعرة الجزائرية سمية محنش (الشرق الأوسط)

سمية محنّش

الشاعرة الجزائرية سمية محنّش، قرأت مجموعة من النصوص من بينها «أسئلة في العشـــقْ»، جاء فيه:

لماذا...

وفي كُلِّ حُبٍ تُعَادُ الحَكَايَا

نُعيدُ الحَكَايَا...

ونَصْبُو إلى المُسْتَحيل

الذي لا يَرُوحُ

الذي لا يجيءُ

الذي كشهابٍ

يُغِيرُ الحَنَايَا

ونَلْتَذُّ بالآهِ

نلتاعُ بالشَّوْقِ

نَبْنِي قُصُوراً مِنَ الوَهْمِ فوقَ السَّحابِ

عَلَيْها نُقِيمُ الخَطَايَا

ونقلبُ كُنْهَ الأُمُورِ على ضِفَّةٍ لِلْخَيَالِ المُخَدَّرْ

فَذا الوَهْم يغدو عبيراً وسُكَّرْ

وتَغْدُو الكَمَنْجَاتُ

في الرُّوحِ نايَا...

وإنَّا لَنَغْرَقُ في الحُبِّ غَرْقَا

كَمِثْلِ السّكارى...

كَدُوقٍ قَديمٍ...

سنختارُ موتاً بِصَحْنِ النَّبِيذِ

ونَفْرَحُ أنَّا بذا المَوْتِ عِشْنَا

وأنَّا نَدِينُ لهُ كَالرَّعايَا

وإنَّا الرَّعايا.

سَنَكْذِبُ حَتْماً

ومِنْ فَرْطِ صِدقٍ

نُقَدِّسُ كِذْبَتَنَا مُغرَمِينَ...

بِحُسْنِ النَّوَايَا

ونَصْدُقُ طَبْعاً...

إذا أجهشَ الحُبُّ فينَا

وفُرْنَا بِتَنُّورِهِ كالشَّظايا

الشاعرة الأردنية جمانة الطراونة (الشرق الأوسط)

جمانة الطراونة

الشاعرة الأردنية جمانا الطراونة، تنقلت برشاقة بين بحور القصيدة، وتنوعت مشاربها بين الغزل والحنين، تقول:

عشقتُكَ مرتينِ وما أكتفيتُ

كأنّي مِنْ نهايتِكَ أبتديتُ

لِتُصْبِحَ عالَمي غادرتُ ذاتي

إليكَ وبي على نفسي انطويتُ

«أحبّكَ» لم تَعُدْ تُشفي غليلي

كما كانتْ فعفوكَ إن بكيتُ

أحاولُ بالقصيدةِ أنْ أُوكنّي

فلا يخلوْ من التصريحِ بيتُ

على قلبي استويتَ وأنتَ أهلٌ

لتملِكَهُ فلو أنّي استويتُ

رأيتُكَ قبلَ هذا ملءَ عيني

متى قلْ لي وأين بكَ التقيتُ؟!

تآلفتِ القلوبُ وفزتُ كوني

بنارِ النظرةِ الأولى أكتويتُ

أُقيمُكَ كالصلاةِ فأنتَ فرضٌ

ونافلةٌ وأعني ما نويتُ

بوجهِكَ في المرايا يا ابنَ روحي

إذا طالعتُها دوني أحتفيتُ

يراكَ الناظرون إليّ حتّى

ظننتُ بأنّني فيكَ اختفيتُ

رميتُكَ إذْ رميتُ فدارَ سهمي

عليّ فما رميتُكَ إذْ رميتُ

لأبعدِ نَجْمةٍ سأمدُّ كفي

وأقطِفُها فبالحبِّ ارتقيتُ

ومن عينيكَ أشربُ ألفَ كأسٍ

من الشعرِ الزلالِ وما ارتويتُ

تُؤَرِقُني وموجُ الشوقِ عاتٍ

حبيبي هل بدأتُ أم انتهيتُ ؟!

أُخيفُكَ أم أخافُكَ لستُ أدري

وكيف عليّ مِنْكَ بكَ أحتميتُ؟!

فأنتَ أنا ولستَ هُنا لتأبى

تموتُ معي وتحيا إن حييتُ

الشاعر إياد هاشم يلقي قصيدته خلال الأمسية الثالثة (الشرق الأوسط)

إياد هاشم

الشاعر العراقي، المقيم في النمسا، إياد هاشم، ألقى قصيدتين، خصص الأولى لرثاء الشاعر الراحل عبد العزيز البابطين، جاء فيها:
يا رِمالَ الْكُوَيْتّ
لَوْ يَكِلُّ الْرِّثْاءُ جادَ الْوَفَاءُ
كَيْفَ لِيْ يَوْمَ غابَتِ الْجَوْزاءُ
كَيْفَ ناءَتْ عَنَا صُدُورُ الْقَوافِي
حِينَ حَلَّتْ بِرَحْلِهَا الشُّعَراءُ
كَيْفَ تَأْبَى الأَقْلامُ فِي دَوْحَةِ الْمَجْد،
وَتَأْسى فِي فَقْدِكَ الْعَلْياءُ
مَا تَحَيَّنْتُ فُرْصَةً لِلْمَراثِي
أَوْ دَعَتْنِي لِذِكْرِكَ الأَسْماءُ
بَلْ وَجَدْتُ الأَرْجَاءَ حَزْنِى لِفَقْدٍ
قَبْلَ حُزْنِي وَهَلْ سَيُجْدِي الْبُكَاءُ
يَا بَرِيقَ الْمِدادِ فِي حَضْرَةِ الْكُتْبِ،
تَمَهَّلْ فَلِلْبُدُورِ سَماءُ
حَدَّثَتْنَا الدِّيارُ عَنْ ساكِنِيها
كَصُخُورٍ يَصُفُّهَا الْبَنَّاءُ
كَيْفَ أَبْقَتْ مَعْناكَ فِي كُلِّ رُكْنٍ
فِضْتَ فِيهِ ، كَمَا يَفِيضُ الإِناءُ
ما تَخَبَّتْ بَراعِمُ الشِّعْرِ يَوْمًا
فِي مُحَيَّاكَ أَوْ تَبَدَّى الْحياءُ
أَنْتَ فِي بارِقِ النَّشِيدِ قَصِيدٌ
وَنَشِيدٌ إِذا عَلا الإِقْواءُ
يَا لَيالِيكَ كَمْ تَساهَرْتَ طُرًا
لِتَرَى الْمَجْدَ شادَهُ الأَبْنَاءُ

يَا رِمالَ الْكُوَيْتِ هَذا (أَبُو سعُودُ)
نَزِيلٌ ، وَيُكْرَمُ النُّزَلاءُ

.....

يَا رِمالَ الْكُوَيْتِ هَلْ يُسْرَقُ الْجَفْنُ
فَيَأْتِي مِنْ صَحْوَةٍ إِغْماءُ

بِي مِنَ الشَّعْرِ مَا يَحُثُّ الْقَوافِي

مُذْ أَصابَتْكَ طَعْنَةٌ نَجْلاءُ

مَا تَعَوَّدْتُ أَنْ أَلُومَ ضُلُوعِي
ذاتَ كَسْرٍ لَمَا يَشُحُّ الذَّواءُ

جِنْتُ أَسْعَىٰ فَقَدْرُ يَوْمِكَ قَدْرٌ
لا تُدانِيهِ غايَةٌ وَ عَطاءُ

يَوْمُ ذِكْرِاكَ لَمْ يَعُدْ يَوْمَ ذِكْرِى
رُبَّ مَوْتىٰ لِكِنَّهُمْ أَحْياءُ