نصوص مجهولة نشرها بريشت بعمر 15 سنة

عُثر عليها في العاصمة البريطانية

نصوص مجهولة نشرها بريشت بعمر 15 سنة
TT

نصوص مجهولة نشرها بريشت بعمر 15 سنة

نصوص مجهولة نشرها بريشت بعمر 15 سنة

بعد قصة «ممثل بارع» التي كتبها برتولد بريشت في منفاه الأميركي، ونشرتها «دير شبيغل»، في نهاية تسعينات القرن العشرين (نُشرت في «الشرق الأوسط» آنذاك بترجمة من الزميل ماجد الخطيب)، لم يظهر ما هو «مفقود» ويمكن أن يُكمل أرشيف هذا الكاتب الكبير. لكنَّ العثور على النشرة المدرسية «الحصاد»، التي حررها بريشت في مدرسة أوغسبورغ، وهو بعمر 15 سنة، سدَّت ثغرة كبيرة في سيرة حياة بريشت الشخصية والأدبية.

ظهرت الترجمة الكاملة لهذه النصوص الآن في كتاب من القطع المتوسط صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة ووزِّع في المعرض الدولي للكتاب في القاهرة لأول مرة. ترجم النصوص وقدم لها الكاتب العراقي المقيم في ألمانيا ماجد الخطيب.

يظهر من قراءة النصوص أن موهبة برتولد بريشت بدت في سن مبكرة، أي قبل نشره أشعاره الأولى في جريدة «أوغسبورغ نويسته ناخرشتن» في أغسطس (آب) من عام 1914، فالقصص والأشعار والقطع النثرية ومسرحية «الإنجيل» ، التي نشرها في «الحصاد»، تعود إلى مطلع سنة 1913، وعلى أساس هذه النصوص احتلت مسرحية «الإنجيل» محل مسرحية «بعل» التي كانت تعد باكورة أعمال بريشت المسرحية.

النصوص التي نشرها في «الحصاد» تضمنت القصة والمسرحية والنثر والشعر، وتكشف لنا عن شخصية محرر متمرس لنشرة ثقافية مدرسية لم يسبق لها مثيل في ألمانيا. فاهتمامات طلبة المدارس المتوسطة في ألمانيا، في ذلك الزمان، انحصرت في الاهتمامات الرياضية والأحداث الاجتماعية ومغامرات التلاميذ والمعلمين وغيرها.

كُتبت أعداد «الحصاد» بخط اليد بأحبار ملونة، ووضع لها تلميذ آخر تخطيطات ملونة جميلة، لكنَّ أحد هذه الأعداد لا يزال مفقوداً مع الأسف. والمفارقة في قصة العثور على «نشرة الحصاد» هي أنها عُثر عليها في العاصمة البريطانية لندن لدى امرأة عجوز كان والدها، الذي هاجر إلى لندن، زميلاً لبريشت في المدرسة واقتنى هذه الأعداد. عثرت الابنة على النشرة بين «كراكيب» أبيها في غرفة السقف في المنزل اللندني القديم.

تكشف النصوص لأول مرة عن تأثر برتولد بريشت بالكاتب المسرحي الغنائي جيرهارد هاوبتمان (الحائز نوبل للأدب سنة 1912)، حيث كتب في «الحصاد» مقالاً مطولاً يراه فيه أهم كاتب مسرحي ألماني في ذلك الزمن. ربما تلمس بريشت في مسرح هاوبتمان الغنائي مخارج مسرحياته المشحونة بالأغاني مثل «السيد بونتيلا وتابعه ماتي» و«أوبرا القروش الثلاثة» وغيرها.

تحدث بريشت في يومياته عن «نشرة الحصاد»، وعن بعض القصائد التي نشرها فيها وضاعت منه، إلا أنه كتب في مقاله عن هاوبتمان أنه لم ينضج بعد لكتابة المسرح. ثم يفاجئنا بعد أشهر بنشر مسرحية «الإنجيل»، التي احتلت العدد السادس بأكمله. وتكشف لنا هذه المسرحية، ذات الفصل الواحد، عن عبقرية مبكرة ربما لم يدركها هو نفسه في تلك السن. وخلق فيها، رغم نعومة أظفاره، صراعاً وطنياً وطائفياً، وعقدة اجتماعية أخلاقية تليق بكاتب كبير. خُصص العدد السادس من «الحصاد» بأكمله للمسرحية المذكورة وأرفق معها، في ورقة منفصلة، قصيدة واحدة بعنوان «ليلة رأس السنة» تُقرع فيها النواقيس في توقيت مثير مع قرع نواقيس الحرب في مسرحية «الإنجيل».

نشر بريشت، المولود سنة 1898، نصوصه الأولى في «الحصاد» بين أغسطس 1913 ويناير (كانون الثاني) 2014. ويعرف الخبراء بأدب الكاتب اليوم أنه نشر أعماله الـ«مجهولة» في «الحصاد» سنة 1913، لكن تاريخ كتابتها قد يعود إلى سنين سبقت تلك السنة، مما يعني أن نشاطه الإبداعي ربما بدأ وهو بعمر 13 أو 14 سنة، وربما أصغر.


مقالات ذات صلة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

ثقافة وفنون ثلاث أوان من ولاية دبا البيعة في سلطنة عمان يقابلها كوب من جبل البُحيص إمارة في الشارقة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

خرجت من ولاية دبا البيعة في سلطنة عُمان مجموعة كبيرة من الأواني الأثرية المصنوعة من الحجر الصابوني الناعم، تشهد لتقليد فني راسخ

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «اسكتشات» لحسين رشيد

«اسكتشات» لحسين رشيد

عن دار «أهوار للنشر والتوزيع» ببغداد - شارع المتنبي، صدر للقاص حسين رشيد مجموعة قصصية مصنفة «اسكتشات» بعنوان «بار دي لو مي»

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً

ميخائيل نعيمة في عيده الـ135 لم ترحمه الحرب

تحدثت سهى لـ«الشرق الأوسط» بحزن عن الاحتفال الذي تأجّل ولم يُلغَ أبداً، «فنحن في أمسّ الحاجة للتعمّق في كتبه وأفكاره».

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون سليم بركات

الهويّة... والحريّة الأدبيّة

ما الذي يحدّد هويّة الأدب: هل اللغة أم القضايا والمواضيع التي يعالجها؟ وهل يحقّ للأديب أن يختار لغةً غير لغته الأمّ من دون أن يُعدَّ خائناً لهويّته الثقافية؟

هيثم حسين
ثقافة وفنون نصب الشاعر مخدوم قولي

مخدوم قولي... حارس الأمة التركمانية

زرتُ عشق آباد قبل أيام، بدعوة من جمهورية تركمانستان، لحضور الفعالية المركزية والحفل الكبير بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على ولادة شاعر تركمانستان مخدوم قولي فراغي

عارف الساعدي

في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط
TT

في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط

هل تتحقق الظواهر الأدبية والشعرية لمحض اتفاق بين جلساء وجليسات دعتهم صحبة ما للتداول هزلاً وجداً في الشأن الثقافي؟ ربما يستعين المرء بما تحقق لجماعة الديوان سنة 1917. وفعلياً سنة إصدار مجلة بهذا الاسم سنة 1922. لكننا ننسى أن الجماعة لم تأتلف على أمر غير الانعتاق من هيمنة أحمد شوقي على المشهد الشعري والتمرد جزئياً على ظاهرة الركود الشكلي للقصيدة إزاء ما يقرأون من الشعر الرومانسي الغربي، لا سيما جماعة الرومانتيكية الإنجليزية: روبرت ووردزورث، وصاموئيل تايلر كوليرج، وهنري بيرسي شيلي، وجون كيتس ولورد بايرون، وكذلك دي كونزي وغيرهم.

نازك الملائكة

وقرأوا أشعار (هاينه) في سياق الولع بالظاهرة الرومانسية الجرمانية: ويقابل هذا الولع، تطلع مجموعات أخرى إلى تنويريي القرن الثامن عشر في فرنسا بشكل خاص، كما يتبين في كتابات المبدعة والمثقفة في عدة لغات، والأديبة (مي زيادة) صاحبة الصالون، والتي انهمك في حبها أحد أعضاء مدرسة الديوان المبجلين: أي عباس محمود العقاد. ننسى أيضاً أن ثلاثي الديوان (عبد الرحمن شكري، وإبراهيم عبد القادر المازني، والعقاد) سرعان ما تفرق شملهم بعدما فُجع عبد الرحمن شكري بما أعده في حينه «سرقات إبراهيم عبد القادر المازني» من الرومانسيين الإنجليز ومن «هاينه». كان عبد الرحمن شكري خريج فرع اللغة الإنجليزية، وتعلم جزئياً في إنجلترا، ومكنته درايته المعرفية من التقاط أصداء الكلمات والصور، ونبض الأحاسيس. لم يكن معنياً بما سيجيء به اللاحقون في تأويل تشكّل النص الأدبي أو الشعري على أنه في النتيجة مجموعة من الاقتباسات الظاهرة والمخفية، كما يرى (رولان بارت) ووافقه عليه آخرون بعد أن عرضت جوليا كريستفا لسيمائية النصوص، وتمعنت في التركيبة الموزائيكية الأفقية والعمودية المتشكلة في النص. ولم ينشق ناقد ماركسي من أمثال (ماشيري) عن الاعتراف بأن النص لا يأتي وحيداً، لأنه تقاطع مع نصوص أخرى وقراءات هي في النتيجة ما يتشكل منه الجديد.

قالت العرب على لسان كاتب القرن التاسع ابن أبي الطاهر طيفور «كلام العرب ملتبس بعضه ببعض». سيعيد أبو الطيب المتنبي ذلك لأن «كلام العرب يمسك بعضه برقاب بعض»، وقال أيضاً بوقوع «الحافر على الحافر» في توارد الكلمات والصور والمعاني. وكما عُرف عند دارسي إليوت، ومنهم الأجانب الكثر، والعرب طيلة عقود منذ منتصف الخمسينات، أن «الأرض الخراب» هي تلفيقات منحها ذهنه في ظرف معين تكاملاً شكلياً ومعنوياً تجاوب مع أصداء حياته المضطربة ومخاض عالم ينهار في حروب ومقاتل. لا ننسى بهذا الخصوص أن «التلفيق» عند العرب هو اصطياد صور ومعانٍ من عدة أشعار ومبانٍ بما يتيح لهذا الصيد الائتلاف والثراء. وكما يقول ابن رشيق القيرواني: بَرع أبو الطيب المتنبي في ذلك وأجاد. وهذا سر ذيوع شعره.

وللقارئ الحق أن يقول إن جماعة «أبولو» اللاحقة للديوان التي جمعها أحمد زكي أبو شادي كانت بينة المعالم، واضحة المقاصد، آخذة من دون وجل من الرومانسية الفرنسية والإنجليزية والألمانية كما يفعل خليل مطران معنية بما تعده جسور الوصل والتواصل مع الثقافات الأوروبية. كما يعرض لذلك إلياس أبو شبكة في كتابه عن «الروابط» بين العرب والإفرنجة.

كانت الثلاثينات مهاد حراك أدبي وفكري وسياسي. وتكرر فيها ظهور الجماعات والأحزاب والكتل: فهي مخاضات ما بين حربين في عالم يتغير وتتبلور ملامحه آيديولوجياً في تعسكر بينٍ. وكان السياب والبياتي وجواد سليم وبلند الحيدري ونازك الملائكة والتكرلي وعبد الملك نوري وعيسى مهدي الصقر يولدون في ذلك العقد.

وعندما تمرد جيل من الشباب على هرم الكتابة الروائية نجيب محفوظ مثلاً وجاء إدوار خراط بـ«جاليري» في خاتمة الستينات: كان يستجيب وصحبه لضغط اللحظة، وهو ضغط لم يتحدد بمحفوظ وهيمنة كتابته الروائية. لأنّ محفوظ نفسه كتب «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» ليلتقط هذا النبض الذي عجز عن تلمسه جيداً، ولكنه أثاره كمشكلة قائمة.

استجاب إدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وجمال الغيطاني وفؤاد التكرلي وإبراهيم أصلان والعشرات من الكتاب والكاتبات لضغط اللحظة الستينية: لحظة الرفض والتطلع والفجيعة وحرب فيتنام وفشل البنى التقليدية ومنظوماتها في متابعة هذا النبض الذي جعلت منه حرب فيتنام الوحشية ومجازر المستعمر الفرنسي في الجزائر وغيرها، يتعالى في القصيدة والقصة والرواية والموسيقى والسلوك، في الشارع والمؤسسة الأكاديمية، وفي المنزل التقليدي: كان العالم يهتز وتتحقق أطروحة غرامشي عن «الكتلة التاريخية» الجديدة: الطلبة والعمال وغيرهم. لهذا ظهرت حركات شعرية وروائية مختلفة تصدرتها منذ الخمسينات وقبلها بقليل جماعة النبض «Beat» (ألن غنسبيرغ) ولورنس فرلنغتي، ولم تَعُدْ الحياة الأكاديمية كما كانت. وكان على وقار «الأكاديمية» التقليدي أن يرضخ للحرية التي تطرق بابه بعنف. لهذا جاءت «جاليري» موفقة لفترة بينما باءت مجموعة البيان الشعري 69 بالانفراط: إذ ليس ثمة جامع بين فاضل العزاوي وخالد علي مصطفى وسامي مهدي وفوزي كريم عدا الرغبة في المشاكسة: وجاء البيان واعداً، ولكن من دون رصيد. كان يسعى للتعكز على حركات وتيارات وظواهر شعرية عالمية يقرأ عنها الشباب من غير تلمس مخاضات التكوين الستيني: الرفض العميق المنبعث من محنة أكبر.

الظاهرة الأدبية ليست رغبة فرد؛ بل هي هاجس جيل يتناغم مع غيره وتحدوه آمال وتطلعات. وحتى إذا ما كان ينطلق من رفض أعم، إلَّا أن الرفض لوحده لا يحقق ظاهرة إن لم يتشكل في مهادات تتناجى مع غيرها على صعد المجتمعات، والحركات، والأمم، والثقافات. ويخطئ من يتصور أن اجتماع ثلاثة أو أربعة على أمر يعني إمكانية التصدر الثقافي: إذ تعجز الإرادة لوحدها عن تكوين الظاهرة التي ينبغي أن تنبعث من حقيقة أمر ما: فالمحدثون أيام بني العباس لم يألفوا هذه التسمية التي أطلقت لاحقاً على مسلم بن الوليد وبشار بن برد وأبي نواس وسلم الخاسر، ثم أبي تمام. كما أن الظاهرة لا تتشكل إلّا مشاكسة لنقيض، كالقدامة، التي التزمت عمود الشعر ولغة القدماء أيام توسع الحواضر التي لم تعد تألف لغة البداوة! وكما هو الأمر من قبل فإن القرن العشرين وما تلاه مجموعة مخاضات وظواهر تحتمها وقائع وحالات، ومن ثم ظواهر أدبية.

* جامعة كولومبيا - نيويورك