أي خطر يشكله الذكاء الاصطناعي على عالم النشر؟

«جمعية الناشرين الإماراتيين» أمام تحديات التطور التكنولوجي

عبد الله الكعبي
عبد الله الكعبي
TT

أي خطر يشكله الذكاء الاصطناعي على عالم النشر؟

عبد الله الكعبي
عبد الله الكعبي

تتضاعف مسؤوليات العاملين في قطاع النشر أمام مخاطر مرحلة عنوانها السرعة والتغيّرات والذكاء الاصطناعي. وفي هذا الحوار، يتحدث رئيس مجلس إدارة «جمعية الناشرين الإماراتيين» عبد الله الكعبي عن رؤيته لكيفية التكيف مع التغيرات، ومواجهة التحديات التي يطرحها حاضر القطاع ومستقبله، وضرورة تزامُن النوع مع الكم، فلا تعمّ الركاكة على واقع هذه الصناعة:

• ما الخطوات المُتَّبعة من الجمعية لتعزيز قطاع النشر الإماراتي واستقطاب الناشرين؟

- تُولي الإمارات قطاع النشر اهتماماً خاصاً، فتمهّد الطريق أمام دُور تشكّل حجر الأساس في هذه الصناعة، وتتبنّى استراتيجية فعّالة لنشر ثقافة القراءة لدى المواطنين والمقيمين، وبناء أجيال واعية بأهمية الكتاب واقتنائه وقراءته.

ازدهرت هذه الصناعة في الإمارات خلال السنوات الماضية، وتطوّرت بشكل متسارع، فأقبل الشباب على الاستثمار فيها، وسط دعم المؤسّسات والهيئات الثقافية؛ مثل «جمعية الناشرين الإماراتيين»، و«مدينة الشارقة للنشر»، و«دائرة الثقافة والسياحة»، فضلاً عن مبادرات ريادية للشيخة بدور بنت سلطان القاسمي. ويتجلّى تطوّر القطاع في نمو عدد دور النشر في الدولة، فقبل سنوات كان عددها 166 داراً، فارتفع حالياً إلى 300، بإدارة رواد ورائدات أعمال. كما تطوّرت آليات الطباعة لتنافس أرقى دور النشر في العالم لجهتَي الجودة والإبداع. إلى ذلك، نجحت الدولة في استقطاب الناشرين من دول العالم عبر معارض الكتب والجوائز الأدبية، ما حفّز تطوير منظومة العمل في القطاع وتنويع الإصدارات.

• ما هي خطوات المحافظة على نوعية هذه الإصدارات، في وقت نرى فيه السوق قد أغرقت بكثير من النتاجات الهابطة؟

- مهم تغذية السوق بعدد وافر من الإصدارات، لكنّ الأهم يكمن في نوعية المحتوى والرسائل الثقافية الثرية الواجب أن تحملها، ومدى تلبيتها لذائقة القرّاء لجهتَي تنوّع المواضيع وجودة المضمون. أحدث قطاع النشر في الإمارات نقلة نوعية على مدار الأعوام الأخيرة تتعلّق بإصدارات الكتب كمّاً ونوعاً. دور نشر عدّة ركّزت على المحتوى المتخصِّص، منه الموجَّه للأطفال الذي يزدهر في الدولة رغم النقص في أنواع معيّنة من العناوين؛ مثل: قصص الخيال والتشويق والحركة والخيال العلمي. ونحن في «جمعية الناشرين الإماراتيين» نعمل على توحيد جهود الكتّاب والمترجمين والناشرين والموزّعين في منظومة ثقافية فعّالة تساعد على إثراء المحتوى وإنتاج كتب تتناول قضايا تشهد إقبالاً ونجاحاً في الأسواق العالمية؛ مثل: العلوم والتكنولوجيا، والتنمية الشخصية، والفنون والآداب، وقضايا العصر، والمواضيع القطاعية المتخصّصة الأخرى.

من جهودنا في هذا الإطار، توقيع مذكرة تفاهم بين «جمعية الناشرين الإماراتيين» و«اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات» خلال معرض الشارقة للكتاب 2023 بهدف زيادة فرص التواصل والتبادل المعرفي بين الناشرين والكتّاب والأدباء، ضمّ كل ما يُعنى بالتأليف والكتابة والنشر في الدولة تحت سقف واحد، ما يُسهم في دفع حركة التأليف والنشر قُدماً. كما وقّعت الجمعية مذكرة تفاهم مع «جمعية الإمارات للمكتبات والمعلومات» بهدف تعزيز التعاون بين الجانبين لدعم قطاعَي النشر والمكتبات، وأُطلقت منحة موجَّهة إلى أعضاء «جمعية الناشرين الإماراتيين» لنشر كتب جديدة متخصّصة في مجال المكتبات.

• هل ترى أن الذكاء الاصطناعي يهدد عالمَ النشر، خاصة فيما يخص الملكية الفكرية؟

- يشهد قطاع النشر عالمياً نمواً متزايداً اعتماداً على الابتكارات والذكاء الاصطناعي وتزايد استخدام التطوّر التقني والمعرفي. يمكن لهذا الذكاء تحقيق نقلة نوعيّة في عالم النشر لجهة توفير بيانات ضخمة تدعم هذه العملية برمّتها، وإتاحة الفرص لربط دور النشر بالموزّعين والمكتبات والكتّاب، فضلاً عن تأمين الدراسات الخاصة بسلوكيات القرّاء وحاجاتهم، وتحليل البيانات والتسويق والشراء، وفتح آفاق واسعة أمام القطاع للمنافسة على المستويين الإقليمي والعالمي. في الوقت عينه، أثيرت مخاوف بشأن حقوق الملكية الفكرية والأثر السلبي المحتمل للذكاء الاصطناعي على المحتوى وأصالته، إلا أننا نؤمن بأنه ليس هناك ما يدعو للقلق في هذا الإطار، ما دام بقي العنصر البشري جوهر الأدب والفكر والإبداع، وما دام ثمة قوانين تحكم التداول وتحمي حقوق الملكية الفكرية.

• ماذا عن أهمية التجديد في القطاع في هذا العصر الذي نشهد فيه تطوراً تكنولوجياً هائلاً؟ وما الذي تخططون له لمواكبة جيل الشباب؟

- الإمارات من الدول المتقدّمة في مجال الاتصال الرقمي، فسكانها وشبابها مؤهّلون رقمياً، ويقدّمون فرصة كبيرة للناشرين ومبتكري المحتوى الرقمي لتنويع أعمالهم والانتقال للأشكال الرقمية؛ مثل الكتب الإلكترونية، والتطبيقات، والكتب المصوّرة والمسموعة، والمعلومات الترفيهية، والتعلّم الإلكتروني. وتدرك الجمعية أنّ هذه الصناعة، كغيرها، تتأثّر بشكل متزايد بالتطوّر التكنولوجي وظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولا بدّ من استثمار هذه التقنيات، على مستويَي النشر والتوزيع، من أجل استدامة القطاع ودعم أهداف الحفاظ على البيئة ومكافحة تغيّر المناخ؛ لذا فإنها تشجّع الناشرين على الموازنة بين الكتابين الرقمي والمطبوع في ظلّ تزايد انتشار منصّات الكتب الرقمية والمسموعة، فضلاً عن اعتماد التسويق الإلكتروني، فأطلقت مشروع «منصة للتوزيع» لدعم الناشرين الإماراتيين في تسويق إصداراتهم عبر معارض الكتب المحلية والدولية، تزامناً مع إطلاق معارض الكتاب المدرسي في أنحاء الدولة، لتعزيز مفاهيم حب المعرفة والتعلُّم لدى الأجيال الناشئة.

• من موقعكم في الإدارة التنفيذية لـ«جمعية الناشرين الإماراتيين»، ما هي الصعوبات التي تواجهونها؟

- تشكّل القدرة التنافسية لصادرات الكتب أحد التحدّيات الرئيسية؛ كونها عاملاً محورياً في تقدُّم صناعة الكتاب. نركّز على العمل مع المعنيين في هذا القطاع للمساهمة بشكل مؤثر في تنويع صادرات الكتب من الإمارات، عبر زيادة عدد العناوين المنتَجة سنوياً، وتعزيز استجابة الناشرين المحليين في السوق للتكيُّف من الناحية التشغيلية مع صناعة النشر الدولية. كما نواصل تعزيز الحضور والمشاركة في معارض كتب دولية تتيح للناشرين بيع حقوق نشر وترجمة الأعمال المحلية. الأهم، نعمل على نشر الوعي والمعرفة الكافية لدى الناشرين ووكلاء التوزيع الدوليين حول الإصدارات وعناوين الكتب التي ينتجها الناشرون الإماراتيون، مع توفير المعلومات المتعلّقة بإمكانات التصدير للأسواق الإقليمية والدولية. وفي هذا الإطار، وقّعت «جمعية الناشرين الإماراتيين» اتفاقية شراكة مع شركة «Nielsen BookData» بهدف إعداد قوائم رقمية بعناوين الكتب المطبوعة؛ لتعزيز دقة البيانات الببليوغرافية والالتزام بالمعايير الدولية في التصنيف، لضمان أعلى نسبة ممكنة من الوصول العالمي لتلك البيانات، وزيادة فرص المبيعات للناشرين الإماراتيين. وعبر التركيز على دولة الإمارات، توفر دراسة البيانات الوصفية فوائد عدّة لقطاع النشر، من أهمها: تقديم رؤى قيّمة للناشرين، وتمكينهم من مواءمة محتوى الكتب واستراتيجيات تسويقها مع حاجات السوق، ما يؤدّي إلى زيادة سهولة اكتشاف الكتاب الإماراتي، والوصول إليه، وتحسين مبيعاته وصادراته.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي