مراكب من «منازل دلمون الطيبة»

تشهد للدور الحضاري الذي لعبته على مدى القرون

مراكب دلمونية على وجوه 6 أختام من جزيرتي البحرين وفيلكا
مراكب دلمونية على وجوه 6 أختام من جزيرتي البحرين وفيلكا
TT

مراكب من «منازل دلمون الطيبة»

مراكب دلمونية على وجوه 6 أختام من جزيرتي البحرين وفيلكا
مراكب دلمونية على وجوه 6 أختام من جزيرتي البحرين وفيلكا

كانت البحرين في الماضي مركزاً لإقليم ذي وحدة حضارية وسياسية عُرف باسم «دلمون»، امتد على طول ساحل شبه الجزيرة العربية، من جزيرة فيلكا التي تتبع اليوم دولة الكويت، إلى حدود بلاد مجان التي تُعرف اليوم باسم عُمان. شكّل هذا الإقليم حلقة وصل بين بلاد الرافدين ووادي السند، وعُرف بنشاطه التجاري البحري، بسبب توافر الشروط الاقتصادية والحيوية فيه، وتوافر الخيرات والقدرات الضرورية. الشواهد الكتابية لهذا النشاط كثيرة، وتقابلها شواهد تصويرية فنية، تظهر في مجموعة من الأختام المزينة بالنقوش، عُثر عليها في البحرين وفيلكا.

مع بداية الألف الثالث قبل الميلاد، شكّلت دلمون محطة تجارية رئيسية في الطريق البحرية الممتدة من أقصى شرق بلاد السند إلى جنوب بلاد ما بين النهرين، ففيها كانت السفن تتوقف ثم تواصل رحلتها إلى جنوب العراق، كما أنها كانت تفرغ حمولتها في هذه المحطة، لتُنقل إلى هذه النواحي من طريق سفن دلمونية. برز دور هذه السفن في نهاية الألف الثالث، حيث استغلّت دلمون موقعها الجغرافي المهم، فتحوّلت من محطّة إلى قوة متاجرة تتحكّم في حركة المرور بالخليج، واحتلّت وظيفة السوق التجارية. عمد تجار الجنوب الشرقي الى إفراغ بضائعهم في دلمون، وعمد تجار دلمون إلى نقل هذه البضائع إلى الشمال، وباتوا أسياد تجارة العبور المربحة.

تحوّلت دلمون إلى مركز تجاري احتكاري، وتردّد صدى هذا التحوّل في نص سومري مشهور يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، يتغنّى بـ«منازل دلمون الطيبة»، وهي المنازل التي يُنقل منها الذهب واللازورد والعقيق الأحمر، وخشب الميس وأخشاب البحر المجيدة، والأحجار الكريمة والبلور، والنحاس العظيم القوة والأبنوس والمعدن الجيد، والحبوب وزيت السمسم، والثياب النبيلة والمجيدة.

من جزيرتي البحرين وفيلكا، خرج كمّ هائل من الأختام الأسطوانية المزينة بنقوش تصويرية تختزل عالماً واسعاً من الدلالات متعددة الوجوه. في مجموعة من هذه الأختام، تحضر صور مراكب صغيرة تشكّل قاموساً تشكيلياً خاصاً يشهد للدور التجاري البحري الذي لعبته دلمون على مدى قرون من الزمن. تعود هذه الأختام إلى ثلاث حقب متلاحقة... تمتدّ المرحلة الأولى من 2050 إلى 1900 قبل الميلاد، وتتبعها مرحلة ثانية تمتد من 1900 إلى 1700 قبل الميلاد، وتمتد المرحلة الثالثة من 1600 إلى 1500 قبل الميلاد، وتتمثّل في مجموعة معدودة من الأختام تعود إلى جزيرة فيلكا، تشهد لتطوّر كبير في المشهد التصويري الدلموني.

من نماذج المرحلة الأولى، يحضر ختمان من البحرين حظيا بشهرة إعلامية واسعة. الختم الأول مصدره مدينة حمد، وهو ختم ذو نقش بسيط يصوّر شخصين ينتصبان في وقفة واحدة وسط مركب صغير يبدو في تكوينه أقرب إلى زورق ذي ظهر مسطّح.

طرف مقدّمة هذا المركب مقوّس، وكذلك مؤخرته، ويُظهر الرسم التوثيقي للنقش اختلافاً في بنية هذا التقويس بين المقدّمة والمؤخرة. يعتمد هذا النقش أسلوباً تصويرياً بسيطاً، يغلب عليه طابع الاختزال والتجريد. يحضر الشخصان في قامتين مجردتين من الملامح والسمات، تقفان في وضعية المواجهة. وسط هذا المركب، وبين القامتين، يرتفع عمود يعلوه هلال. في الجزء الأسفل من الختم، يظهر سطح المياه على شكل خط متعرج. وفي القسم الأعلى، تظهر سعفتان تحتل كل منهما طرفاً من طرفي التأليف.

الختم الثاني مصدره موقع «سار» الأثري في نواحي غرب العاصمة المنامة. يتبع هذا النقش أسلوباً مماثلاً في التصوير، ويمثّل بحّارَين يقودان مركباً صغيراً ذا ظهر مقوّس، يتدلّى من طرفه الأسفل مجذافان. يحدّ طرفي هذا المركب مجسّمان مقوّسان، وفي وسطه، يرتفع شراع على شكل مثلث بسيط. من الجهة اليمنى يقف رجل يمسك طرف مؤخرة المركب بيده اليمنى، وطرف الشراع بيده اليسرى. ومن الجهة المقابلة، يقف بحار يرفع قدمه اليمنى نحو عمود الشراع، ممسكاً بيده اليمنى هذا العمود في حركة موازية. في الجزء الأسفل من التأليف، يحضر عقرب كبير يحتلّ مساحة موازية لمساحة المركب، ويُعدّ هذا الحيوان من العناصر التي تشكّل القاموس التشكيلي الخاص بالأختام الدلمونية.

مع بداية الألف الثالث قبل الميلاد شكّلت دلمون محطة تجارية رئيسية في الطريق البحرية الممتدة من أقصى شرق بلاد السند إلى جنوب بلاد ما بين النهرين

من تلك الحقبة كذلك، يحضر ختم من فيلكا يتبع هذا الأسلوب في النقش والتصوير، ويمثّل رجلين في زورق يتميز بشراع كبير حدّدت مساحته بأربعة خطوط متوازية، تلتقي عند قمّته. تبدو معالم المجسّم الذي يعلو طرف مؤخرة الزورق أكثر وضوحاً، وهي على شكل غزال ذي قرنين، كما يُظهر الرسم التوثيقي للختم. يختلف البحاران من حيث الحجم والقياس. في الطرف الأيمن، يقف البحار الأكبر وهو يدير ذراعيه في اتجاه رفيقه الذي يقف في الطرف المواجه، ويظهر في الخلف، من فوق سطح السفينة، كأنه يحلّق في الفضاء.

من الحقبة الثانية، يحضر ختم ذو حجم مكعب من فيلكا، يشكّل في تصويره امتداداً للأسلوب المتبع في الفترة الأولى. ذكر الباحث سلطان الدويش هذا الختم في كتابه الذي حمل عنوان «المواقع الحضارية على الساحل الغربي للخليج العربي»، ورأى أنه «متأثر بوادي السند»، وقال إنه مثل مركباً «يحمل رجلا عارياً، يتّجه وجهه لليسار، يُمسك بكلتا يديه رايتين تنتهي ساريتاهما بإناء». وأضاف الكاتب: «نُقش على مقدمة السفينة رأس حيوان ذي قرون»، وهذا الحيوان هو الغزال الذي تتكرر صورته على هذه المراكب الدلمونية، كما اتضح في قراءة تحليلية لهذه المجموعة من النقوش.

تكشف أختام أخرى تعود إلى تلك الفترة عن تحوّل في التصوير، ومنها ختمان متشابهان؛ أحدهما من موقع «سار» والآخر من مدينة حمد. على وجه الختم الأول، يظهر بحار يرتدي مزوراً من الصوف، وهو اللباس الذي يُعرف بالطراز السومري. يقف هذا الرجل وسط زورق مقوّس، ويحوط به من جهة غزال ذو قرنين طويلين، ومن الجهة المقابلة سمكة كبيرة بلغ طولها طول هذا الغزال. يتكرّر هذا المشهد على وجه الختم الآخر حيث يظهر مرافق للبحار يرتدي لباساً مماثلاً. تغيب السمكة عن هذه الصورة، ويحضر في الجهة المقابلة غزال يماثل في تكوينه الغزال الذي يظهر على وجه ختم «سار».


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.