رحل ليف روبنشتاين، وهو شاعر روسي وكاتب مقال ومعارض سياسي خلال الحقبة السوفياتية وفترات حكم بوتين، أمس الأحد، إثر إصابات حدثت له بعدما صدمته سيارة في موسكو. وكان في السادسة والسبعين من العمر.
ونشرت ابنته ماريا نبأ وفاته في بيان مقتضب على حسابها على «لايف جورنال»، وجاء فيه: «لقد صدمت روبنشتاين سيارة أثناء عبوره الطريق، ووُضع في حالة غيبوبة طبية، لكنه فارق الحياة». وصرحت سلطات موسكو بأن السائق قد ارتكب انتهاكات مرورية كثيرة، وكان يسير بسرعة، وبأنها «قد بدأت في اتخاذ الإجراءات الجنائية ضده».
وروبنشتاين هو أحد مؤسسي الحركة التصورية الروسية، وهي حركة طليعية رائدة جمعت بين الفن والنثر، وفرضت وجودها رغماً عن قيود الواقعية الاشتراكية التي سادت خلال سبعينات وثمانينات القرن العشرين. وكان من بين إسهاماته في هذه الحركة «أشعار بطاقات التدوين» التي تجمع بين الأنواع الفنية، حيث يُدَوَّن كل مقطع شعري على بطاقة منفصلة. وقد استلهم ذلك من أدلة البطاقات التي رآها حين كان أمين مكتبة في جامعته الأولى، وهي معهد «موسكو كوريسبوندنس بيداغوجيال» (معهد موسكو التربوي للمراسلة)، الذي يُعرف حالياً باسم جامعة شولوخوف الحكومية للعلوم الإنسانية في موسكو. مع ذلك شجعه تعرضه للرقابة على البحث عن وسيط مختلف. وذكر في مقابلة مع المجلة الأدبية «بانك» عام 2020: «أردت أن يكون النص موضوعاً، موضوعاً أدبياً، وموضوعاً مسرحياً في آنٍ واحد».
ونُشرت أعمال روبنشتاين في الخارج، كما جرى تداولها داخل الاتحاد السوفياتي من خلال شبكة سرية لتوزيع الأعمال الأدبية تعمل على إعادة إنتاج العمل، حتى يصبح مقبولاً لدى مراقبي الحكومة. وبعد انهيار الشيوعية السوفياتية واصل الكتابة لأهم المؤسسات الصحافية الفكرية الليبرالية منها «إيتوغي» و«كوميرسانت» ومؤخراً للموقع الإلكتروني «ريبابليك».
حصل في عام 1999 على جائزة «أندريه بيلي»، وهي أول جائزة أدبية مستقلة للتأليف تتجنب الرقابة لخدمة «الدراسات الإنسانية»، كذلك نال جائرة «إن أو إس»، وهي جائزة روسية تُمنح سنوياً لعمل نثري، عن روايته «علامات الانتباه» عام 2012. وقال بوريس فيلانوفسكي، مؤلف موسيقي، ألّف أوبرا تقوم على بعض أعمال روبنشتاين عُرضت للمرة الأولى عام 2011 خلال مقابلة عبر الهاتف: «لقد كان أسطورة حية». والتقى الاثنان منذ عقدين أثناء إلقاء محاضرة عن الصحافة الثقافية في سانت بطرسبرغ. وأضاف قائلاً: «عندما قرأ محاضراته بدا كأن جميع المشاركين في طقس المناولة الكنسي».
وصف فيلانوفسكي روبنشتاين بأنه «وعينا اللغوي»، حيث شبّه دوره في الحياة الفكرية العامة بدور كتّاب أميركيين مثل ألان غينسبيرغ، وتشارلز بوكوفسكي، وستيفن فراي، الممثل والمؤلف الإنجليزي، وقال: «إن نصوصه تُعنى بمسألة اللغة نفسها، ويبدو ما نقوله في روسيا اليوم مسروقاً من نصوص روبنشتاين». وخلال السنوات القليلة الماضية واصل روبنشتاين الكتابة لمنابر روسية مستقلة. وكان يعبّر بشكل صريح عن معارضته للغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، وعن دعمه لأليكسي نافالني، السياسي المعارض، المعتقل منذ يناير (كانون الثاني) 2021 بعد قضاء أشهر في ألمانيا للتعافي من تسممه بسبب غاز الأعصاب.
وأثارت وفاة روبنشتاين ردود أفعال كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، من بينها ما كتبه ممثلو «ميموريال»، أشهر منظمة روسية لحقوق الإنسان، والتي حُظرت بحكم محكمة في ديسمبر (كانون الأول) 2021 عشية غزو أوكرانيا: «لم يُقبض على روبنشتاين أو يُعَذّب، ولم يُسَمَّم أو يُضطهد في روسيا أثناء الحرب في أوكرانيا، لكن وفاته المأساوية، عشية الذكرى السنوية الثانية للكارثة، تبدو رمزية بشكل مرير. لا يوجد في روسيا اليوم مكان للمواطنين الأحرار والشعراء المستقلين، إنها تمر مسرعة فوقهم، ولا تتوقف عند الإشارة الحمراء لتراهم وهم يعبرون الطريق».
وُلد ليف سيميونوفيتش روبنشتاين في 19 فبراير (شباط) 1947 في موسكو. وكان والده سيميونوفيتش مهندساً مدنياً خدم على الجبهة خلال الحرب العالمية الثانية، التي تُعرف في روسيا باسم الحرب الوطنية العظمى. كانت عواقب تلك الحرب واضحة ملحوظة خلال طفولته وفق ما قال خلال مقابلة جرت مؤخراً، حيث يتذكر رؤية «أناس مقطوعي الأذرع والأرجل، وفاقدي البصر» عندما كان والده يصطحبه إلى الحمام العام. أما أمه إيلينا فهي تنحدر من أوكرانيا، وعانت خلال فترة طفولتها في مدينة خاركيف من مجاعة «هولودومور» التي خطط لها الكرملين بين عامي 1932 و1933، والتي مات على إثرها الملايين.
بعد بدء غزو الرئيس فلاديمير بوتين أوكرانيا، تحدث روبنشتاين عن تيار «الإمبريالية الداخلية» الموجود في روسيا حتى بين المفكرين في البلاد. وقال في مقابلة مع «ميدوزا»، الموقع الإلكتروني الإخباري الروسي المستقل، نُشرت في يناير 2023: «أقرّ بكل أسف بأن تلك الإمبريالية الداخلية بداخلنا رغم أننا لم نكن إمبرياليين. يحتاج التغلب على ذلك بداخلي إلى وقت وجهد. بطبيعة الحال قضينا الآن على ذلك قدر الإمكان أنا وأصدقائي».
كذلك عبّر روبنشتاين عن معارضته لتسلط واستبداد بوتين، وأدان حروب موسكو في الشيشان، إلى جانب ضمها غير القانوني شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014. كذلك شارك بشكل فاعل في فعاليات نظمتها «ميموريال». وشارك في مارس (آذار) 2022 مع كتّاب آخرين في خطاب مفتوح يدين «الحرب الإجرامية» التي شُنّت ضد أوكرانيا، وشارك أيضاً في آخر فعالية نُظمت في مقر منظمة «ميموريال» الذي أُغْلق وصودر.
وذكر مرة لدى سؤاله منذ عام عن النصيحة التي يسديها للروس الذين يعيشون في ظل هذا القمع الكبير في زمن الحرب، استقى روبنشتاين العزاء من التاريخ قائلاً: «خلال السنوات الأخيرة للاتحاد السوفياتي، كنت أنا وأصدقائي المقربون مقتنعين بأن هذا الوحل السوفياتي الممل سوف يلازمنا إلى الأبد، لكن ما حدث كان العكس تماماً». وأضاف قائلاً: «يمكنني تقديم نصيحة بسيطة مستمدة من تلك الأزمنة، وهي يجب ألا تخافوا».
* صحافية تغطي أخبار الحرب
في أوكرانيا، وهي تقيم في موسكو
ـ خدمة «نيويورك تايمز»