الشّعر العربي سبق الفلسفة العربيّة تاريخياً

تمثال أبو العلاء المعري في معرة النعمان، سوريا
تمثال أبو العلاء المعري في معرة النعمان، سوريا
TT

الشّعر العربي سبق الفلسفة العربيّة تاريخياً

تمثال أبو العلاء المعري في معرة النعمان، سوريا
تمثال أبو العلاء المعري في معرة النعمان، سوريا

مع انفتاح العرب على غيرهم من الشّعوب، وتطوّر حركة التّرجمة، عرف العربُ الفلسفة. وقد بدأت مسيرتها الفعليّة في العالم العربيّ مع يعقوب بن إسحق الكنديّ (ت 873م)، والفارابي (ت 950م) الذي يُعدّ المؤسّس الأوّل للفلسفة العربيّة، وقد تأثّر به مَن لحقه من الفلاسفة، أمّا في الشّعر فقد أخذت تظهر الأفكار الفلسفيّة مع أبي تمّام (ت 845م)، والمتنبّي (ت 965م)، والمعرّي (ت 1057م)، وهو أشهرهم.

إذن، صحيح أنّ عمر الفلسفة يفوق بقرون عمر الشّعر العربيّ الذي نُقل إلينا، والمتميّز بمستوى عالٍ من الإبداع اللّغويّ والتّعبيريّ... وصحيح أنّ منبت الفلسفة هو بلاد اليونان، لكنّ الشّعر العربيّ يسبق الفلسفة العربيّة في الزّمان مع إطلالات حكميّة ميّزت طابعه التّقليديّ.

غير أنّ الكلمة تبقى الرّابط بين عالم الشّعر وعالم الفلسفة وتوحّدهما، وإن كان كلّ في قالب معيّن يختصّ به. فالفلاسفة والشّعراء أرادوا أن يعبّروا عن اختلاجات النّفس البشريّة، ووقوفها متأمّلة أمام غوامض الكون والوجود؛ في محاولة من الطّرفين لتغيير العالم، وفَهم أسراره، ومعالجة التّساؤلات التي يعجز العقل البشريّ عن تفسيرها وسبر أغوارها.

وقد أثّر الشّعر العربيّ في الفلسفة، كما أثّرت هذه الأخيرة فيه، وذلك بسبب المواضيع المباشرة التي كانوا يعالجونها، ولا سيّما فئة الشّعراء الذين أدخلوا أفكاراً فلسفيّة ووقفات تأمّليّة وجوديّة في شعرهم، وذلك في مستوى عال من الإبداع اللّغويّ والتّعبيريّ، فكان الشّعراء العرب يتقنون استخدام اللّغة بشكل متقن وجميل لنقل الأفكار الفلسفيّة والرّؤى العميقة بطريقة تثير العواطف وتدفع إلى التّأمّل والتّفكير في مختلف أمور الكون والحياة.

لقد نتج عن هذا التّمازج بين الشّعر والفلسفة تأثّر وتأثير بين العالمين، فقدّم الشّعر العربيّ عدداً من المساهمات التي أثّرت في الفلسفة عبر العصور، منها:

*-التّعبير الجماليّ: أثّر الشّعر العربيّ في تطوير التّعبير الجماليّ واللّغويّ وتنميته. وهذا أثر إيجابيّ في الفلسفة من خلال تطوير القدرة على التّعبير بشكل جميل وملهم.

*-الإيقاع والتّأمّل: يتميّز الشّعر العربيّ بالإيقاع والتّأمّل، الأمر الذي أثّر في الفلسفة من خلال تعميق فهم الحياة والإنسان والوجود.

*-العواطف والرّوحانيّة: نقل الشّعر العربيّ العواطف الإنسانيّة والرّوحانيّة بشكل ملحوظ، وقد أثّر هذا في توسيع مفاهيم الفلسفة حول الإنسان وتأثيره في العالم.

*-الرّمزيّة والمجاز: استخدم الشّعر العربيّ الرّمزيّة والمجاز بشكل مبدع، ما أثّر في تطوير الفلسفة من خلال تعميق الفهم واستخدام الرّموز والمجاز في التّفكير الفلسفيّ.

وهكذا، يمكن القول إنّ الشّعر العربيّ قدّم مساهمات مهمّة إلى الفلسفة من خلال تطوير القدرات الإبداعيّة والتّعبيريّة والتأمّليّة وتنميتها، الأمور التي أثّرت في الفلسفة ومفاهيمها.

وبدورها، قدّمت الفلسفة عدداً من المساهمات التي أثّرت في الشّعر العربيّ عبر العصور، منها:

*الأفكار الفلسفيّة: تأثّر الشّعر العربيّ بالأفكار والمفاهيم الفلسفيّة، مثل الوجود والحياة والحبّ والخلود... إلخ، فكان الشّعراء يتأثّرون بالفلسفة في تعبيرهم عن هذه المفاهيم وإدراكها بشكل أعمق.

*-اللّغة والتّعبير: قدّمت الفلسفة مفاهيم متقدّمة في علم اللّغة والتّعبير، الأمر الذي أثّر في الشّعر العربيّ وأدّى إلى تطوّر تقنيّات التّعبير الشّعريّ واستخدام اللّغة بشكل أكثر عمقاً.

*-الرّوحانيّة والتأمّل: تركت الفلسفة الرّوحانيّة والتأمّليّة بصمتها في الشّعر العربيّ، حيث أصبح البحث عن المعنى العميق والرّوحانيّ جزءاً مهمّاً من الشّعر العربيّ.

*-التأمّل في الوجود والإنسان: نقلت الفلسفة تأمّلاتها في الوجود والإنسان إلى الشّعر العربيّ، ما أضاف عمقاً وتعقيداً إلى القصائد والنّصوص الشّعريّة.

وبالتّالي يمكن القول إنّ الفلسفة أثّرت بشكل كبير في الشّعر العربيّ من خلال تقديمها مفاهيم وأفكاراً جديدة وتأمّلات عميقة تركت أثرها في التّعبير الشّعريّ وفهم الحياة والوجود.

وقد عرف تاريخ الأدب العربيّ كثيراً من الفلاسفة العرب الذين كانوا شعراء في الوقت نفسه، تركوا بصماتهم في كلّ من الشّعر والفلسفة؛ منهم:

-الفارابي: كان فيلسوفاً وعالماً وطبيباً وشاعراً عربيّاً، كتب عدداً من القصائد التي تعبّر عن الجوانب الشّعريّة والفلسفيّة في شخصيّته.

-ابن زهر الباجي (ت 1082م): كان فيلسوفاً وشاعراً عربيّاً. كتب عدداً من القصائد التي تعبّر عن فلسفته وأفكاره الشّعريّة.

-ابن رشد (ت 1198م): كان فيلسوفاً وفقيهاً وطبيباً وشاعراً عربيّاً. اشتهر بأفكاره الفلسفيّة والشّعر الذي تركه.

كما عرف تاريخ الأدب العربيّ كثيراً من الشّعراء الذين كان لهم تأثير فلسفيّ وأفكار فلسفيّة لافتة، نذكر منهم:

-الإمام الشّافعيّ (ت 820م): كان شاعراً وفقيهاً إسلاميّاً. أسهم بأفكار فلسفيّة في شعره وأعماله الفقهيّة.

-أبو العتاهية (ت 828م): كان شاعراً عربيّاً وفيلسوفاً. أسهم أيضاً بأفكار فلسفيّة في شعره وكتاباته.

-أبو العلاء المعرّي: كان شاعراً وفيلسوفاً عربيّاً. كتب عدداً من القصائد التي تعبّر عن أفكار فلسفيّة ورؤى عميقة في الحياة والوجود.

-ابن الفارض (ت 1234م): كان شاعراً صوفيّاً عربيّاً. كتب قصائد تعبّر عن فلسفة الصّوفيّة ورؤاهم الرّوحانيّة.

هذه بضعة نماذج عن شعراء وفلاسفة عرب دمجوا بين الفلسفة والشّعر في أعمالهم، وتركوا إرثاً ثقافيّاً غنيّاً يعكس التفاعل الدّيناميكيّ بين الفكر والأدب في التّراث الثّقافيّ العربيّ.

* باحثة لبنانية.

والمقال المنشور هو مقتطفات من محاضرة

في إطار احتفال اليونيسكو باليوم العالمي للغة العربية الشهر الماضي في العاصمة الفرنسية



مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك
المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك
TT

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك
المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك؛ نظير جهوده طيلة نصف قرنٍ في خدمة اللغة العربية والفكر والأدب.

جاء تكريم بن تنباك، جنباً إلى جنب مع تكريم كوكبة من المبدعين الخليجيين في المجال الثقافي، في حفل أقيم بعد انعقاد أعمال الاجتماع الثامن والعشرين لوزراء الثقافة بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الدوحة، والذي تم خلاله بحث الموضوعات المتعلقة بتطوير العمل الخليجي المشترك في المجال الثقافي.

فتوحات فكرية

والأكاديمي والباحث السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك (مواليد 1950)، الحاصل على جائزة مكتب التربية العربي التابع لدول الخليج قبل 30 سنة، جمع بين الفكر والأدب والنقد، ويُعتبر من جيل رواد الأدب والصحافة في السعودية، وهو أستاذ محاضر في كلية الآداب بجامعة الملك سعود.

قدّم مجموعة من المؤلفات التي اعتُبرت «فتوحات فكرية» أحدثت ارتدادات واسعة وسجالاً كبيراً في الوسط الأكاديمي والثقافي في العالم العربي، من بينها كتابه «الوأد عند العرب بين الوهم والحقيقة» (168 صفحة) (طُبع أول مرة عام 2004 وأُعيد طباعته مؤخراً)، وهو دراسة تستقصي حقيقة الوأد عند العرب، وتنتهي إلى نفي هذه التهمة عن المجتمعات العربية قبل الإسلام. وفي دفاعه عن فكرة كتابه «الوأد عند العرب»، رأى بن تنباك في حوار صحافي أنه لم يستغرب «الرفض الذي واجه ما جاء في الكتاب من أدلة دامغة تؤكد أن الوأد الذي تصفه الروايات الإسلامية لم يحدث قَطّ. (لأننا) أمة نقدس الماضي ونصدق كل ما يقال فيه وعنه».

وكان بن تنباك أكدّ أن قضية وأد البنات «وهمٌ تاريخي وكذبة لفّقها بعض الرواة للعصر الجاهلي، واخترعوها من الخيال الشعبي لأغراض التذكير والتفضيل»، مشيراً إلى أن ما تضمنه كتابه جاء «نتيجة لسبعة أعوام من البحث والتمحيص».

ويعيد بن تنباك تفسير لفظ «(يتوارى) من الناس» إذا بُشّر أحد العرب في الجاهلية بالأنثى، والتي وردت في القرآن الكريم؛ إذ يرى أن «الكثير من التفاسير جعلت من كلمة (يتوارى) قصة غياب وهروب من البيت وانتظار لمقدم الولد وجنسه حتى يعلم ما يكون، في حين أن بلاغة النص القرآني هي وصف لحالة الغاضب أو الكاره أو الحزين الذي ينحرف بوجهه وينطوي على نفسه ويخلو بها عن مجلس القوم، وليس ذلك الهرب الذي أوحت به كلمة (يتوارى)».

كذلك الحال بالنسبة لعبارة «يدسّه في التراب»؛ إذ يرى بن تنباك أن الدسّ في التراب عند ولادة الأنثى تعبير عن الشعور بـ«الهوان المعنوي»، كما «يدسّ» الكثير من العرب اليوم أسماء بناتهم.

كذلك أثار كتابه «بدعة الأدب الإسلامي»، الذي صدر مضمونه في كتاب «إشكالية الأدب الإسلامي» والذي ألّفه «بالاشتراك مع الباحث السوري الدكتور وليد قصاب»؛ إذ مثَّل فيه الدكتور قصّاب جانب الدفاع عن الأدب الإسلامي، في حين مثَّل الدكتور مرزوق بن تنباك جانب المعارض لمصطلح الأدب الإسلامي.

وعن «بدعة الأدب الإسلامي»، رأى بن تنباك أن «الموقف كان اعتراضاً على مبدأ التصنيف واختيار صنف واحد وتجريم غيره من المضامين والموضوعات، (لأن) فنون الأدب موضوعاته كثيرة متنوعة منذ عُرف الأدب، ولم يعترض أحد على ممارسة المضامين المعروفة، فمنذ صدر الإسلام عُرف الشعر العذري وشعر الغزل المكشوف والهجاء وغيره من أنواع الشعر المرغوب والمرفوض، ولم ينكر أحد ممارسة هذه الفنون أو يجرمها أو يدعو لإلغائها والتحذير منها».

ومن مؤلفاته كذلك، كتاب «حالة المجتمع السعودي وتحولاته»، وكتاب «الفصحى ونظرية الفكر العامي».

من مؤلفات د. مرزوق بن تنباك

خارج عن النسق

والدكتور بن تنباك، كاتب معروف في الصحافة السعودية، كثيراً ما أثارت آراؤه نقاشاً في الساحة الثقافية؛ فقد كتب مدافعاً عن العلمانية في مقال نُشر في عام 2016، أكد فيه أنّ «العلمانية في ممارساتها المعاصرة حامية للأديان وصديقة للإنسان، وليس أوضح مما يعرفه الناس كافة في الدول التي تطبقها»، وفي محاضرة له بنادي نجران الأدبي قال بن تنباك إن «العلمانية تحافظ على كرامة الإنسان، وعلى شعائره، وحقه في الوجود»، وإن «علمانية بريطانيا اليوم لم تمنع 1500 مسجد ومركز إسلامي، ولم تمنع أيضاً أكثر من 3 ملايين مسلم يعيشون فيها»، مشيراً إلى أن «تطبيق الليبرالية في أوروبا اليوم لم يمنع ما يمثّل أصول ومظاهر الدين الإسلامي الحقيقية»، وهي التصريحات التي أثارت غضباً من قبل المحافظين.

ومن مقالات بن تنباك الشهيرة، مقاله «القراءة النجدية» في صحيفة «مكة» (5 يوليو/ تموز 2022)، الذي دعا فيه للخروج من ضيق الإقليم إلى سعة الوطن، فـ«العقل يقول إننا بحاجة إلى تقوية عُرى الوحدة الوطنية ورصّ الصفوف والانتماء للوطن الكبير وللمواطنة، وإماتة أسباب النعرات الإقليمية والجهوية والشوفينية التي بدأ الثراء يظهرها ويعلنها على ألسنة بعض الذين لا يقدرون نتائجها».

وُلد مرزوق بن تنباك الحربي في قرية «المديرا» بوادي الفرع جنوب المدينة المنورة عام 1950، وأسرته كان لها نفوذ في وادي الفرع والأشدة من بلاد المسروح، ثم انتقل مع أسرته وهو طفل إلى ذي الحليفة في وادي العقيق، ثم أكمل دراسته المتوسطة والثانوية في المدينة المنورة. ودرس على شيوخ المسجد النبوي، من بينهم: محمد الأمين الشنقيطي، وعبد القادر شيبة الحمد، وأبو بكر الجزائري.

والتحق بجامعة الملك سعود - كلية الآداب - وتخرج فيها، ثم عُيّن معيداً فيها، وابتُعث إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراه، وحصل عليها من جامعة أدنبره في أسكوتلندا، ثم عاد إلى جامعة الملك سعود وعُيّن أستاذاً مساعداً فيها، وترقى إلى درجة أستاذ مشارك، ثم حصل على الأستاذية في الآداب.