«دائرة التوابل» من روايات القائمة الطويلة لـ «بوكر العربية»

من روايات القائمة الطويلة لـ «بوكر العربية»

«دائرة التوابل» من روايات القائمة الطويلة لـ «بوكر العربية»
TT

«دائرة التوابل» من روايات القائمة الطويلة لـ «بوكر العربية»

«دائرة التوابل» من روايات القائمة الطويلة لـ «بوكر العربية»

رواية «دائرة التوابل» (منشورات المتوسط، 2022) للكاتبة الإماراتية صالحة عبيد (من مواليد 1988) هي روايتها الثانية بعد «لعلها مزحة» الصادرة في سنة 2018، كما صدر لها ثلاث مجموعات قصصية. الرواية تقع فيما يقارب المائتي صفحة. أقنعني شيء في الرواية أن أواصل قراءتها. وهذا في حد ذاته إنجاز كبير لأي رواية لأني بسبب قصر العمر وكثرة الكتابات الجيدة التي لن يُتاح لي الوقت لأقرأها مهما عمَّرتُ، أجدني قليل الصبر على مواصلة قراءة أي كتاب لا يُفصح عن استحقاقه مبكراً. فما الذي أغراني بمواصلة قراءة «دائرة التوابل»؟ عوامل كثيرة، لكنها متفرقة. فالرواية الممتازة تجذبك بكل ما فيها. تتضافر كل عناصرها في حال من التوازن على الإعلان عن امتيازها. أما إنْ تفرقت وماز بعضها بينما تخاذل الآخر، فأنت أمام كاتب ما زال يجرب الكتابة ويتعلم إتقان الصنعة كتاباً بعد كتاب.

هذا ما شعرت به في المرحلة المبكرة من قراءة هذه الرواية، إلا أنه كان فيها ما يغري بالاستمرار كما قلت. هناك لغة جزلة قوية، فيها شعرية وفيها خيال. هناك طرافة التيمة الرئيسية في الرواية، فهي قصة فتاة، «شريهان»، تتعرف على العالم من خلال الروائح، بطيبها وخبيثها. تستطيع أن تميز كل عنصر على حدة في خلطة توابل في غير مشقة (ومن هنا عنوان الرواية)، لكنها بالمَلَكة نفسها تستطيع أن تميز البشر وحالاتهم النفسية من خلال روائحهم، وتألفهم أو تنفر منهم من وحي روائحهم على نحو ما يفعل سائر الناس من وحي سلوكهم والكلمات. تُذكّر الرواية ومحورية الروائح فيها برواية ألمانية معاصرة هي رواية «العطر» لباتريك زوسكيند التي نُشرت سنة 1985 وسرعان ما انتقلت إلى العربية في التسعينات في ترجمة بقلم نبيل الحفار وحققت شيوعاً كبيراً كما في سائر العالم، ناهيك عن تحولها فيلماً سينمائياً ناجحاً في سنة 2006. لعل الرواية الحالية قد استوحت رواية باتريك زوسكيند مع نقل مَلكة الشم الخارقة من مجال العطور إلى مجال التوابل، ما يناسب البيئة المحلية وتاريخها الطويل في استيراد التوابل من بلاد الهند. وسوف نلاحظ أنه مثلما كانت مَلكة الشم الفائقة تلك في رواية «العطر» مَلكة تدميرية، فإن صالحة عبيد سوف تمضي بفتاتها وحاستها المتضخمة على الطريق المشؤوم نفسها.

تنشغل الرواية أيضاً بالتأمل في الموت وروائحه وسائر أشيائه. وتطلعنا على تفاصيل وفاة أبيها وتفاصيل وفاة أمها، وتصحبنا إلى المقابر، كما تقف بنا أمام جثث درس التشريح الأول في كلية الطب في جلاسجو التي تسافر بطلتنا إليها لدرس الطب، باعتباره وسيلة لفهم الموت. في الرواية أيضاً تيمة أصبحت مألوفة في كتابات المرأة العربية عامة، وهي تيمة الثورة على وضعية التبعية لذكور العائلة والكفاح من أجل حرية الاختيار والاستقلالية.

في الرواية إذن اهتمامات كثيرة، لكنها لا تتآلف ولا تصبّ في مصبّ واحد، وإنما تتشتت بين يدي الكاتبة التي يحفل ذهنها بالأفكار المتصارعة على نيل انتباهها والحظوة بمكان في نصها، لكنها تعجز عن السيطرة عليها ونبذ ما ليس له محل. ومن هنا لا تبدو المواقف والسلوكيات دائماً مبررة أو ذات منطق مفهوم. فالفتاة تصادق فتى منبوذاً منذ الطفولة. هو متيم بها وإن كانت هي متحفظة في شأنه. إلا أنها تنتهي زوجة له على كل حال، من دون أن يجبرها أحد على ذلك.، سوى أنه لم يحدث أن رغب فيها أحد غيره، ربما لغرابة أطوارها في سياق بيئتها الاجتماعية. غير أن بطلتنا لها مع خطيبها الذي تتزوج منه قبل سفرها لدراسة الطب في أسكوتلندا مشكلة كبرى، وهي كونه بلا رائحة. وأن يكون إنسان بلا رائحة فهذا يكاد يضارع عندها أنه ليس له وجود، أو أن وجوده موصد أمامها، حيث إنها تتعرف على العالم وتقيم معه صلاتها من خلال الروائح. لماذا إذن تتزوجه رغم هذه الخاصية الغريبة التي تنفر منها أشد النفور؟ لا ندري على وجه التحقيق، سوى أنها تبدو مدفوعة نحو مصير مبهم مقدور. يبقى الزواج نظرياً حتى تستسلم لإلحاحه مرة واحدة على غير رغبة، فتحمل منه كارهةً. أما أسوأ ما في الأمر فهو أن طفلتها تُولد أيضاً بلا رائحة مثل أبيها. وتلك كانت الطامة الكبرى التي أودت بما كان متبقياً من عقل بطلتنا الغريبة. فهي إذْ لا تستطيع أن تشعر بالأمومة تجاه طفلة لا تشم لها رائحة، يقودها يأسها لقتل الرضيعة وقتل نفسها، أو لتحريرها وتحرير نفسها كما يقول النص (ص 167).

المشكلة أن الرواية لا تقدم نفسها لنا باعتبارها نصاً سوريالياً أو عبثياً، ولكنها تقدّم نفسها كرواية واقعية، متجذرة في التاريخ المحلي. لذلك نتوقع في أحداثها وتصوير شخصياتها عوامل المنطقية والسببية. العشوائية والتفكك المنطقي لا يجوزان في نص واقعي. وكأن الكاتبة لا تدري ما تفعل بالشخصية ومسألة الروائح. لا تعرف كيف تطورها بعد نقطة معينة، فتقتل الجميع. ليس هذا فعل قتل وانتحار من قِبل البطلة، إنما هو فعل تخلّص من قِبل الكاتبة من مشكلة لم تعد تعرف كيف تتعامل معها في بناء النص والشخصية.

وكأن الرواية ليس فيها ما يكفي من المشاكل غير المحلولة، نجد الكاتبة تسعى لزيادتها تعقيداً بخلق نص موازٍ لقصة حب وموت في القرن التاسع الميلادي في زمن الخلافة العباسية. وتخلق أيضاً إحالة على شخصية من تاريخ دبي قبل النهضة الحديثة كانت أيضاً ذات مَلكة نادرة في التعرف على الروائح. هذه الإحالات الموازية لا تستغرق سوى صفحات معدودة متفرقة هنا وهناك على طول الرواية. تقطع السرد الرئيسي، لكنها لا تضيف شيئاً ولا تتضح الصلة بينها وبين القصة المركزية. هي إحالات لا ينتج منها سوى التعقيد والربكة. وكل هذا التشتيت في نص لا يتجاوز 188 صفحة. وكأن بعض الكتاب يتصورون أن التعقيد هدف في حد ذاته أو علامة نضج وتوسّع معرفي، وإن جاء على حساب النص وليس في صالحه. أكاد أسأل نفسي الآن لماذا صبرت على قراءتها حتى النهاية. ولا أجد من جواب سوى أن النص يحمل شفاعات هنا وهناك وأنه يلقي بوعود تجعلك تنتظر الوفاء، إلا أنه لا يفي في النهاية ولا يكافئ صبرك بما كنت ترجوه.

* أستاذ فخري الأدب العربي

الحديث في جامعة إكستر



مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك
المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك
TT

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك
المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك؛ نظير جهوده طيلة نصف قرنٍ في خدمة اللغة العربية والفكر والأدب.

جاء تكريم بن تنباك، جنباً إلى جنب مع تكريم كوكبة من المبدعين الخليجيين في المجال الثقافي، في حفل أقيم بعد انعقاد أعمال الاجتماع الثامن والعشرين لوزراء الثقافة بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الدوحة، والذي تم خلاله بحث الموضوعات المتعلقة بتطوير العمل الخليجي المشترك في المجال الثقافي.

فتوحات فكرية

والأكاديمي والباحث السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك (مواليد 1950)، الحاصل على جائزة مكتب التربية العربي التابع لدول الخليج قبل 30 سنة، جمع بين الفكر والأدب والنقد، ويُعتبر من جيل رواد الأدب والصحافة في السعودية، وهو أستاذ محاضر في كلية الآداب بجامعة الملك سعود.

قدّم مجموعة من المؤلفات التي اعتُبرت «فتوحات فكرية» أحدثت ارتدادات واسعة وسجالاً كبيراً في الوسط الأكاديمي والثقافي في العالم العربي، من بينها كتابه «الوأد عند العرب بين الوهم والحقيقة» (168 صفحة) (طُبع أول مرة عام 2004 وأُعيد طباعته مؤخراً)، وهو دراسة تستقصي حقيقة الوأد عند العرب، وتنتهي إلى نفي هذه التهمة عن المجتمعات العربية قبل الإسلام. وفي دفاعه عن فكرة كتابه «الوأد عند العرب»، رأى بن تنباك في حوار صحافي أنه لم يستغرب «الرفض الذي واجه ما جاء في الكتاب من أدلة دامغة تؤكد أن الوأد الذي تصفه الروايات الإسلامية لم يحدث قَطّ. (لأننا) أمة نقدس الماضي ونصدق كل ما يقال فيه وعنه».

وكان بن تنباك أكدّ أن قضية وأد البنات «وهمٌ تاريخي وكذبة لفّقها بعض الرواة للعصر الجاهلي، واخترعوها من الخيال الشعبي لأغراض التذكير والتفضيل»، مشيراً إلى أن ما تضمنه كتابه جاء «نتيجة لسبعة أعوام من البحث والتمحيص».

ويعيد بن تنباك تفسير لفظ «(يتوارى) من الناس» إذا بُشّر أحد العرب في الجاهلية بالأنثى، والتي وردت في القرآن الكريم؛ إذ يرى أن «الكثير من التفاسير جعلت من كلمة (يتوارى) قصة غياب وهروب من البيت وانتظار لمقدم الولد وجنسه حتى يعلم ما يكون، في حين أن بلاغة النص القرآني هي وصف لحالة الغاضب أو الكاره أو الحزين الذي ينحرف بوجهه وينطوي على نفسه ويخلو بها عن مجلس القوم، وليس ذلك الهرب الذي أوحت به كلمة (يتوارى)».

كذلك الحال بالنسبة لعبارة «يدسّه في التراب»؛ إذ يرى بن تنباك أن الدسّ في التراب عند ولادة الأنثى تعبير عن الشعور بـ«الهوان المعنوي»، كما «يدسّ» الكثير من العرب اليوم أسماء بناتهم.

كذلك أثار كتابه «بدعة الأدب الإسلامي»، الذي صدر مضمونه في كتاب «إشكالية الأدب الإسلامي» والذي ألّفه «بالاشتراك مع الباحث السوري الدكتور وليد قصاب»؛ إذ مثَّل فيه الدكتور قصّاب جانب الدفاع عن الأدب الإسلامي، في حين مثَّل الدكتور مرزوق بن تنباك جانب المعارض لمصطلح الأدب الإسلامي.

وعن «بدعة الأدب الإسلامي»، رأى بن تنباك أن «الموقف كان اعتراضاً على مبدأ التصنيف واختيار صنف واحد وتجريم غيره من المضامين والموضوعات، (لأن) فنون الأدب موضوعاته كثيرة متنوعة منذ عُرف الأدب، ولم يعترض أحد على ممارسة المضامين المعروفة، فمنذ صدر الإسلام عُرف الشعر العذري وشعر الغزل المكشوف والهجاء وغيره من أنواع الشعر المرغوب والمرفوض، ولم ينكر أحد ممارسة هذه الفنون أو يجرمها أو يدعو لإلغائها والتحذير منها».

ومن مؤلفاته كذلك، كتاب «حالة المجتمع السعودي وتحولاته»، وكتاب «الفصحى ونظرية الفكر العامي».

من مؤلفات د. مرزوق بن تنباك

خارج عن النسق

والدكتور بن تنباك، كاتب معروف في الصحافة السعودية، كثيراً ما أثارت آراؤه نقاشاً في الساحة الثقافية؛ فقد كتب مدافعاً عن العلمانية في مقال نُشر في عام 2016، أكد فيه أنّ «العلمانية في ممارساتها المعاصرة حامية للأديان وصديقة للإنسان، وليس أوضح مما يعرفه الناس كافة في الدول التي تطبقها»، وفي محاضرة له بنادي نجران الأدبي قال بن تنباك إن «العلمانية تحافظ على كرامة الإنسان، وعلى شعائره، وحقه في الوجود»، وإن «علمانية بريطانيا اليوم لم تمنع 1500 مسجد ومركز إسلامي، ولم تمنع أيضاً أكثر من 3 ملايين مسلم يعيشون فيها»، مشيراً إلى أن «تطبيق الليبرالية في أوروبا اليوم لم يمنع ما يمثّل أصول ومظاهر الدين الإسلامي الحقيقية»، وهي التصريحات التي أثارت غضباً من قبل المحافظين.

ومن مقالات بن تنباك الشهيرة، مقاله «القراءة النجدية» في صحيفة «مكة» (5 يوليو/ تموز 2022)، الذي دعا فيه للخروج من ضيق الإقليم إلى سعة الوطن، فـ«العقل يقول إننا بحاجة إلى تقوية عُرى الوحدة الوطنية ورصّ الصفوف والانتماء للوطن الكبير وللمواطنة، وإماتة أسباب النعرات الإقليمية والجهوية والشوفينية التي بدأ الثراء يظهرها ويعلنها على ألسنة بعض الذين لا يقدرون نتائجها».

وُلد مرزوق بن تنباك الحربي في قرية «المديرا» بوادي الفرع جنوب المدينة المنورة عام 1950، وأسرته كان لها نفوذ في وادي الفرع والأشدة من بلاد المسروح، ثم انتقل مع أسرته وهو طفل إلى ذي الحليفة في وادي العقيق، ثم أكمل دراسته المتوسطة والثانوية في المدينة المنورة. ودرس على شيوخ المسجد النبوي، من بينهم: محمد الأمين الشنقيطي، وعبد القادر شيبة الحمد، وأبو بكر الجزائري.

والتحق بجامعة الملك سعود - كلية الآداب - وتخرج فيها، ثم عُيّن معيداً فيها، وابتُعث إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراه، وحصل عليها من جامعة أدنبره في أسكوتلندا، ثم عاد إلى جامعة الملك سعود وعُيّن أستاذاً مساعداً فيها، وترقى إلى درجة أستاذ مشارك، ثم حصل على الأستاذية في الآداب.