«الروائي والعاصمة»... يحتفي بإبداعات كتّاب مصريين

عاشوا في «الهامش» بعيداً عن مغريات «المركز» وصخبه الإعلامي

«الروائي والعاصمة»... يحتفي بإبداعات كتّاب مصريين
TT

«الروائي والعاصمة»... يحتفي بإبداعات كتّاب مصريين

«الروائي والعاصمة»... يحتفي بإبداعات كتّاب مصريين

عبر عقود كثيرة، ظلت هجرة الأدباء العرب من الأقاليم البعيدة والمحافظات النائية إلى العاصمة شرطاً أساسياً في معادلة نجاح الأديب وتحققه، حيث توفر له تلك العاصمة ما تيسر من أسباب النجاح، مثل الاهتمام الإعلامي والاحتفاء النقدي والتعامل مباشرة مع منابر النشر الكبرى. في الحالة المصرية، توجد حالات استثنائية لروائيين وشعراء تمردوا على تلك السلطة المركزية التي تمثلها العاصمة (القاهرة)، وظلوا قابعين في ظلال الهامش وحققوا رغم ذلك نجاحات لافتة.

هذه المفارقة يتناولها كتاب «الروائي والعاصمة» الصادر عن «دار غراب» بالقاهرة للباحث و الناقد الدكتور محمد أبو السعود الخياري. الكتاب يمكن عدّه بمثابة دراسة نقدية متعمقة ترصد تجارب مجموعة الروائيين المتحققين في الإسكندرية وشمال الدلتا والمنصورة وطنطا والصعيد الذين تميز إنتاجهم الإبداعي بالتأثير والوفرة والانتشار، كما استطاع بعضهم اقتناص الجوائز والحصول على فرص عدة لم يعدمها ببعده عن القاهرة المتوهجة.

ويأتي سعيد سالم، المولود بالإسكندرية عام 1943، على رأس هؤلاء، وقد وصفه يوسف إدريس بأنه «ابن الإسكندرية الذي دخل المسرح الأدبي دخول العاصفة»، كما شهد له إدريس شهادة مهمة ولافتة حين قال: «وسعيد سالم أقل الكتّاب تأثراً بي، فله استقلاله الفني وله طريقته الخاصة وله مدرسته في الكتابة». ولهذا الأديب إنتاج غزير في الرواية والقصة على السواء؛ فقد قدم في الرواية نحو 25 عملاً خلال 45 عاماً؛ بدأها برواية «جلامبو»، 1976، وصولاً إلى رواية «أعيش»، 2020؛ واتسم مشروعه الروائي بالاتكاء على فكرة مهمة تتسم بالتشويق والاختلاف يقوم عليها العمل؛ دون أن يركن السرد للكسل الفني؛ فيترك المهمة لأهمية الفكرة في التأثير على المروي عليه. وعلى سبيل المثال، في روايته «كف مريم» 2001، يعرض لفكرة علاقة الحب مع اختلاف الدين؛ مبتعداً بسرده عن أفق شاسع من التوقعات التي يمكنها أن تملأ خيال المروي عنه.

وهناك أيضاً نموذج الكاتب مصطفى نصر، الذي يبدو وكأنه يحمل تقلب البحر المتوسط، حيث يعيش بالإسكندرية كمدينة ساحلية، بينما كانت «جهينة» بمحافظة سوهاج محل ميلاده. صدرت روايته الأولى «الصعود فوق جدار أملس»، 1977، بينما حملت آخر رواياته التي صدرت عام 2020 عنوان «الستات». يولي نصر اهتماماً بالرواية التاريخية؛ لا سيما في حدود مدينته الإسكندرية مقدماً لوناً من السرد التاريخي الآسر الذي تخلص من ثقل التاريخ والمعلومات بجرعات متتابعة من دفق السرد وخلق الصراع داخل الرواية.

وظهرت أجواء الصعيد مميزة في أدب نصر، حيث يشكل مع الإسكندرية رافداً لتجربته التي تتميز بغزارة الإنتاج؛ فرواية «الجهيني» تؤصل للنشأة الصعيدية، كما تتجلى الإسكندرية في كتاباته؛ فظهرت «ليالي الإسكندرية» و«ليالي غربال» و«يهود الإسكندرية» في الرواية و«الإسكندرية - مدينة الفن والعشق والدم»، وغيرها من الأعمال.

ومن المحافظة الزراعية كفر الشيخ، ينوّه المؤلف بتجربة الكاتب سمير المنزلاوي المولود بقرية منية المرشد، والذي يعرض لمجتمع الريف من زوايا مختلفة في أعماله. ويحفل سرد المنزلاوي بمزية مهمة تتمثل في توظيف التحليل النفسي في تقديم شخصيات رواياته؛ وهي تقنية تقدم جانباً من الثراء والعمق للشخصية والرواية على السواء، وفيها يتوقف السرد وحركته وفق ما يسمى «الوقفة». وهى تقابل حالة الحذف ويبدو السرد فيها بلا حركة. وتظهر الوقفة في صورتين هما الوصف والتحليل النفسي.

وحاز الروائي الراحل فؤاد حجازي (1938- 2019) لقب «أبو الأدباء» بمدينة المنصورة وما حولها؛ حيث أصدر روايته الأولى «شارع الخلا» عام 1968 وعاش حياته الثقافية مناضلاً دون انتظار مكاسب. وجاء تأسيسه سلسلة «أدب الجماهير» الرائدة بمثابة إنجاز لافت؛ فقد فتحت باب الأمل لمئات الأدباء الشبان لنشر إبداعاتهم. وتبلغ مؤلفات حجازي، المولود في حي الحسينية بمدينة المنصورة، نحو 30 مؤلفاً في الرواية والقصة والمسرح والنقد وأدب الأطفال، كما أنه أصدر ديوان شعر. أما كتابه «أوراق أدبية» فيضم بعضاً من سيرته الذاتية.

ويتصدر حجازي قائمة الأدباء المتمردين على بريق القاهرة الذين صمدت عيونهم أمام ضوئها المبهر دون أن يهتز لهم جفن. كما أنه امتلك مشروعاً سردياً واضحاً؛ فاضت فيه تجربته الحياتية على عالمه السردي؛ فقدم سروداً يمكن وسمها بالصدق الفني في «أدب الأسر» و«أدب الحرب».

ويعد رضا البهات أحد النماذج التي تجمع بين الطب والأدب، ولد بقرية ميت مزاح عام 1955. عرفته الحياة الثقافية عام 1992 بمجموعته القصصية «رائحة اليوسفي». ومن أبرز أعماله الروائية «ساعة رملية تعمل بالكهرباء»، 2014. ومثل معظم الذين احتفظوا بالبعد الآمن عن العاصمة بحلوها ومرّها استطاع «البهات» أن يناقش أزمة القيم وتداعي الشخصية المصرية التدريجي؛ مازجاً الشأن السياسي بالثقافي، وهو ما تطور في تجربته التي استفاد في بنائها من دفء الحكايات الشعبية التي أحاطت به من بين يديه ومن خلفه من موقع الطبيب المتنقل بين القرية والمدينة.

ومن أقصى صعيد مصر، وتحديداً محافظة أسوان، يشير المؤلف إلى تجربة الكاتب أحمد أبو خنيجر الذي يشعر البعض أنهم يعرفونه جيداً وسبق أن التقوا به من قبل، بقامته النحيلة الممشوقة كعود قصب ووجهه المنحوت كإبريق من الفخار باذخ الصلابة. ويلفت الكتاب إلى أن هذه الأوصاف قريبة، مألوفة، فهي تذكرنا بتمثال رمسيس الثاني الذي يتمدد على راحته في براح المتحف المصري في ميدان التحرير. ويمثل سرد أبو خنيجر، المولود في 1967، نموذجاً للسرد الشفاهي المحاكي لمجتمع. وتبدو المحاكاة مقصودة؛ إذ تحمل هذه السرود متوناً مشبعة بالعادات والتقاليد في أقصى جنوب البلاد.



رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ

رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ
TT

رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ

رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ

«لا أتذكر آخر مرة اكتشفت فيها رواية ذكية ومبهجة كهذه وعالماً واقعياً، إلى درجة أنني ظللت أنسى معها أن هؤلاء الأبطال ليسوا أصدقائي وجيراني الفعليين، كافئوا أنفسكم بهذا الكتاب من فضلكم حيث لا يسعني إلا أن أوصي بقراءته مراراً وتكراراً».

هكذا علقت إليزابيث جيلبرت، مؤلفة كتاب «طعام صلاة حب» الذي تحول إلى فيلم شهير بالعنوان نفسه من بطولة جوليا روبرتس، على رواية «جمعية جيرنزي وفطيرة قشر البطاطس» التي صدرت منها مؤخراً طبعة جديدة عن دار «الكرمة» بالقاهرة، والتي تحمل توقيع مؤلفتين أميركيتين، هما ماري آن شيفر وآني باروز، وقامت بترجمتها إيناس التركي.

تحكي الرواية كيف أنه في عام 1946 تتلقى الكاتبة جوليت آشتون رسالة من السيد آدامز من جزيرة جيرنزي ويبدآن في المراسلة ثم تتعرف على جميع أعضاء جمعية غير عادية تسمى «جمعية جيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطس».

من خلال رسائلهم، يحكي أعضاء الجمعية لجوليت عن الحياة على الجزيرة وعن مدى حبهم للكتب وعن الأثر الذي تركه الاحتلال الألماني على حياتهم، فتنجذب جوليت إلى عالمهم الذي لا يقاوم فتبحر إلى الجزيرة لتتغير حياتها إلى الأبد.

وفي ظلال خيوط السرد المنسابة برقة تكشف الرواية الكثير عن تداعيات الحرب العالمية الثانية في إنجلترا، وهي في الوقت نفسه قصة حب غير متوقعة وتصوير للبطولة والنجاة وتقدير رقيق للرابطة التي يشكلها الأدب.

وتسلط الرسائل التي يتألف منها العمل الضوء على معاناة سكان جزر القنال الإنجليزي في أثناء الاحتلال الألماني، لكن هناك أيضاً مسحة من الدعابة اللاذعة إثر انتقال جوليت إلى «جيرنزي» للعمل على كتابها؛ حيث تجد أنه من المستحيل الرحيل عن الجزيرة ومغادرة أصدقائها الجدد، وهو شعور قد يشاركها فيه القراء عندما ينتهون من هذا النص المبهج.

وأجمع النقاد على أن المؤلفتين ماري آن شيفر وآني باروز أنجزا نصاً مدهشاً يقوم في حبكته الدرامية على الرسائل المتبادلة ليصبح العمل شبيهاً بأعمال جين أوستن من جانب، ويمنحنا دروساً مستفادة عبر قراءة التاريخ من جانب آخر.

عملت ماري آن شيفر التي توفيت عام 2008 محررة وأمينة مكتبة، كما عملت في متاجر الكتب وكانت «جمعية جيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطس» روايتها الأولى. أما ابنة شقيقها «آني باروز» فهي مؤلفة سلسلة الأطفال «آيفي وبين» إلى جانب كتاب «النصف السحري» وهي تعيش في شمال كاليفورنيا.

حققت هذه الرواية العذبة نجاحاً كبيراً واختارتها مجموعة كبيرة من الصحف والمجلات بوصفها واحدة من أفضل كتب العام، كما تحولت إلى فيلم سينمائي بهذا الاسم، إنتاج 2018. ومن أبرز الصحف التي أشادت بها «واشنطن بوست بوك وورلد» و«كريستشيان ساينس مونيتور» و«سان فرانسيسكو كورنيكل».

ومن أجواء هذه الرواية نقرأ:

«لم يتبق في جيرنزي سوى قلة من الرجال المرغوبين وبالتأكيد لم يكن هناك أحد مثير، كان الكثير منا مرهقاً ومهلهلاً وقلقاً ورث الثياب وحافي القدمين وقذراً. كنا مهزومين وبدا ذلك علينا بوضوح، لم تتبق لدينا الطاقة أو الوقت أو المال اللازم من أجل المتعة. لم يكن رجال جيرنزي يتمتعون بأي جاذبية، في حين كان الجنود الألمان يتمتعون بها. كانوا وفقاً لأحد أصدقائي طويلي القامة وشُقراً ووسيمين وقد اسمرّت بشرتهم بفعل الشمس ويبدون كالآلهة. كانوا يقيمون حفلات فخمة ورفقتهم مبهجة وممتعة، ويمتلكون السيارات ولديهم المال ويمكنهم الرقص طول الليل.

لكن بعض الفتيات اللواتي واعدن الجنود أعطين السجائر لآبائهن والخبز لأسرهن، كن يعدن من الحفلات وحقائبهن مليئة بالخبز والفطائر والفاكهة وفطائر اللحم والمربى، فتتناول عائلاتهن وجبة كاملة في اليوم التالي. لا أعتقد أن بعض سكان الجزيرة قد عدوا قط الملل خلال تلك السنوات دافعاً لمصادقة العدو، رغم أن الملل دافع قوي كما أن احتمالية المتعة عامل جذب قوي، خاصة عندما يكون المرء صغيراً في السن. كان هناك، في المقابل، الكثير من الأشخاص الذين رفضوا أن يكون لهم أي تعاملات مع الألمان، إذ إنه يكفي أن يلقي المرء تحية الصباح فحسب حتى يُعد متعاوناً مع العدو».