«أدب الاعتراف»... لماذا تراجع في الثقافة العربية؟

يتأسَّس على كشف المستور... وتعرضت أبرز نماذجه للمصادرة

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور
TT

«أدب الاعتراف»... لماذا تراجع في الثقافة العربية؟

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

يشير مفهوم «أدب الاعتراف» إلى القدرة على البوح وكشف المستور ومواجهة الذات والآخر بالحقائق التي قد تكون صادمة، وهو يشمل قوساً واسعاً من الأشكال السردية التي تتضمن المذكرات والسّير الذاتية والغيرية، واليوميات والتراجم وكذلك الروايات التي تتكئ على تجارب شخصية مباشرة. وتعد مذكرات الفيلسوف والأديب الفرنسي جان جاك روسو (1712 - 1778)، التي صدرت بعنوان «اعترافات روسو» بعد وفاته بأعوام عدة حجر الزاوية المؤسِّس لهذا اللون، حيث بدأها بعبارة «أنا اليوم مقبل على أمر لم يسبقني إليه سابق، ولن يلحق به لاحق». ورغم تعدد نماذج هذا الأدب في الفكر العربي، لا سيما في النصف الأول من القرن العشرين، فإنه تراجع بشدة في العقود الأخيرة؛ مما يطرح علامات استفهام شائكة. فهل الثقافة العربية لا تحتمل حرارة البوح... أم أن المثقف العربي هو مَن يجبن عن الحديث الصريح بلا مواربة؟، ثم هل أسهم ما لاقته نماذج الاعتراف الشجاعة من مصادرة وملاحقة في جعل الأجيال اللاحقة تؤثر السلامة وتخشى المواجهة؟

«الشرق الأوسط» تستطلع في هذا التحقيق آراء كتاب ونقاد حول هذا الأدب.

في كتابه «أدب الاعتراف - مقاربات تحليلية من منظور سردي»، يشير أستاذ الأدب والنقد الدكتور إيهاب النجدي إلى أن ما يجعل أدب الاعتراف محاطاً بتحديات هو طبيعة الثقافة العربية ذاتها بوصفها ثقافة تبجّل الستر، وتميل إلى طي الصفحات الماضية أو السوداء، وتؤثر السلامة، وهي رجع صدى لإرث عريق في المدائح والمفاخرات، تجانب الإفصاح عن الأخطاء، وتتحاشى الكشف عن مرات السقوط في حركة الحياة، فجاءت غالبية السِّيَر- ذاتية وغيرية - نقية، زاهية، على غير الحقيقة. ويعرّف النجدي «أدب الاعتراف» بأنه «شكل سردي يتركز اهتمام الكاتب فيه على إظهار الجوانب الخفية من حياته، وكشْف المستور من صفاته الشخصية، وتجلية الغامض من علاقته بالآخرين، مستنداً في ذلك إلى الحقيقة وحدها، وساعياً إلى التحليل والتنبيه إلى مَواطن الخلل في الفرد والمجتمع، لكنّه قد يمثّل صدمة للقارئ تُبَدِّل الصورة الذهنية المستقرة في نفسه، كما أنه يمثّل مُخاطَرة وجُرأة في مواجهة الأعراف والتقاليد».

دكتور محمد أبو السعود الخياري

اللافت أن الأدب العربي عرف قديماً نماذج مبكرة من أدب الاعتراف كما في كتاب «الصداقة والصديق» الذي يحمل اعترافات لأبي حَيَّان التوحيدي حول قسوة الحال وشَظَفِ العيش حين كان مقصيّاً عن السلطة والسلطان، مطروداً من قصور الحكّام ونعيمها، مما دفعه إلى حرق كتبه في أواخر حياته، ضنّاً بها على الناس. وكذلك اعتراف الشيخ الرئيس ابن سينا بأنه كان يتخّذ الخمر وسيلةً تعينه على تحصيل العلم، وهو اعتراف صادم يتناقض مع حرصه على أداء الصلاة في المسجد. وهناك كذلك اعترافات أبي حامد الغزالي في «المنقذ من الضلال» التي يعرّض فيها لرحلته مع الفلسفات والعقائد والمِلل والنِّحل، ثم يبين اهتداءه إلى شاطئ التصوف بعد شيء من القلق والحيرة والشك والاضطراب والصراع الفكري. وهناك أيضاً نموذج ابن حزم في «طوق الحمامة في الألفة والألّاف» الذي يتضمن صوراً اعترافية متفرّدة جَسورة تخطّت حواجز الصمت والكتمان التي تغلّف حياة العلماء والفقهاء على نحو جعل هذا الكتاب العربي التراثي رائداً في هذا المجال.

منى الشيمي

صدمة البوح

تتعدد نماذج أدب الاعترافات عربياً في العصر الحديث، كما في «أصابعنا التي تحترق» لسهيل إدريس (1925 - 2008)، و«أوراق حياتي» لنوال السعداوي (1931- 2021)، و«أيام معه» لكوليت خوري المولودة في 1931، و«رسائل غادة السمان وغسان كنفاني» لغادة السمان المولودة في 1942. ويظل من أهم وأشهر تلك النماذج مذكرات «أوراق العمر: سنوات التكوين» للناقد المصري الدكتور لويس عوض (1915 - 1990)، ورواية «الخبز الحافي» للمغربي محمد شكري (1935 - 2003). وترجع شهرة هذين العملين تحديداً إلى براعة الوصف وجمال اللغة، فضلاً عن كم الصراحة والبوح فيهما على نحو صادم، وكذلك ردود الفعل الغاضبة من جانب عائلتَي كل من عوض وشكري، التي وصلت إلى حد محاولة منع الكتابين من التداول والتبرؤ مما جاء فيهما.

بشرى محمد

وفي بحث شائق يحمل عنوان «أدب الاعتراف والبوح في مذكرات الجواهري»، يرصد الباحث، الدكتور سليمان سالم السناني بعض التجليات الاعترافية الواردة في مذكرات الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري (1899 - 1997)، التي حملت عنوان «مذكراتي»، حيث تنقسم تلك الاعترافات إلى ما هو «اجتماعي» مثل حديث الجواهري عن ارتكابه السرقة والاعتداء البدني على الآخرين، وهو في طور الطفولة والمراهقة ومنها ما هو «أخلاقي» مثل عشق ومطاردة فتاة أكبر منه سناً.

رباب كساب

وفي «ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية»، يرصد الكاتب الجزائري واسيني الأعرج رسائل الكاتبة اللبنانية مي زيادة الخاصة، ومذكراتها وأوراقها المجهولة، وفيها تتجلى أسرار علاقاتها بكثير من مبدعي جيلها ومفكّريه مثل جبران خليل جبران، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وخليل مطران، وأحمد شوقي. وتعود هذه الأوراق النادرة إلى مخطوطة لمي زيادة بعنوان «ليالي العصفورية: تفاصيل مأساتي من ربيع 1936 إلى خريف 1941»، وقد كتبتها زيادة في أثناء إقامتها في مصحة «العصفورية» للأمراض النفسية والعقلية في بيروت قبيل رحيلها في عام 1941 بفترة وجيزة.

ويذكر الناقد والأكاديمي، الدكتور محمد أبو السعود الخياري أن الثقافة العربية محافظة بطبيعتها إلى حد أنها تبدو سدّاً عالياً يتراءى في الأفق لكل من يهم بكتابة أدب الاعتراف، فما يمكن قوله أقل بكثير مما يمكن نشره. ولعل «أدب الاعتراف»، بما يحمله من حكي متجرد لآثام المثقف ومعاناته ونقائصه، يمثل مخاطرة للأديب وسط تلك الدوائر الرقابية التي تبدأ من منزله ولا تنتهي بقارئ مجهول. ويضرب أبو السعود المثل بما حدث عندما عمد أبناء الناقد المصري، الدكتور شكري عياد (1921 - 1999) لسحب نسخ كتابه الاعترافي «العيش على الحافة»، مبررين ذلك بأن فيه ما يعرضهم للحرج.

دكتورة ناهد رحيل

حساسية خاصة

وتوضح الدكتورة ناهد راحيل، ناقدة وأكاديمية، أن «الأدب الاعتراف» يكتسب حساسيته كونه يندرج من مفهوم كتابة الذات التي انطلقت بدورها مع صياغة مصطلح «السيرة الذاتية» الذي نشأ في العلوم الإنسانية وتبلور في نظريات معرفية. وتتخذ كتابات الذات من الاعتراف استراتيجية أساسية لبنائها كونها جاءت لتفكك السرديات الكبرى للمجتمعات. ومثال ذلك عدد غير قليل من السّير الذاتية النسوية التي جاءت لتقاوم منظومة الهيمنة الذكورية، وسلطت الضوء على دور النساء في تاريخ الكتابة الذاتية، مثل كتابات نوال السعداوي وفتحية العسال.

بينما ترى الكاتبة الروائية منى الشيمي، أن المثقف العربي جزء من المجتمع، يحمل صفاته مهما كان متمرداً ومتحرراً، عميق الثقافة، لهذا قام كثير من الكتاب ببعثرة اعترافاتهم على مجموع رواياتهم. الروايات لأبطال متخيلين، أبطال من حبر، لهم الحق فيما يفعلون، وللقراء الحق في إدانتهم وصلبهم وإحراق أجسامهم. وهكذا يظل الكاتب في مأمن.

تقول الشيمي: «حتى إشعار آخر تظل ثقافتنا العربية، والكاتب المدجّن، الذي يتكون نسيجه من نسيج مجتمعه نفسه، حائلين لوجود أدب الاعتراف الحقيقي، ولنتخيل جميعاً حجم ردود الفعل في ثقافتنا العربية المحافظة لو خرج رجل وكتب أنه خان صديقه، واجتمع بزوجته، أو سرق ما في عهدته، أو أن تخرج امرأة وتعلن أنها أقامت علاقة خارج مؤسسة الزواج».

وتشير الكاتبة الروائية رباب كساب إلى أن «المثقف العربي يخشى البوح الصريح المطلق؛ لأنه لا أحد يحب أن يكون محط أنظار الجميع. قد يبوح الكاتب ببعض من ذاته في أعماله، مفضلاً ألا يكون مادة للمكتوب، أو أن تكون حياته وخصوصيته على المشاع، قد تتسرب روحه إلى أعماله وهذا ما أعده الأفضل لكن لا ينبغي أن يكون هو العمل. على المستوى الإبداعي لا أدخل تلك المنطقة أبداً، أنا أخلق نصوصي من وحي شخصياتي لكني لا أكتبني، أحب أن أحتفظ بي لنفسي وللمقربين مني، أحب أن أشارك الناس خيالي، لا واقعي».

ذهنية التحريم

ويرى الناقد والكاتب محمود عبد الشكور أن ذهنية العيب والمحاذير والتفتيش في النوايا إلى حد إقامة دعاوى الحسبة والتفريق بين الكاتب وزوجته، باتت تطغى على الثقافة العربية بوصفها جزءاً من تراجع المجال العام للحريات، مشيراً إلى أن كتابيه «كنت صبياً في السبعينيات» والجزء الثاني وعنوانه «كنت شاباً في الثمانينيات» لا يندرجان ضمن أدب السيرة الذاتية الخالصة بقدر ما هما سيرة ثقافية واجتماعية وسياسية بالأساس. ويضيف: «لم أكتب من سيرتي إلا ما يخدم هذا الهدف، وبالتالي لم يكن هناك مجال لاعترافات أو تفصيلات خارج هذا المعنى».

ولا يصنف الكاتب الصحافي بشري محمد كتابه «أنا يوسف إدريس» الذي يرصد فيه محطات من سيرة ومسيرة الأديب يوسف إدريس (1927 - 1991)، ضمن «أدب الاعتراف» بمعناه التقليدي، إلا أنه يشير إلى تعرض الكتاب لبعض النقاط الشائكة، التي تتماس مع نبرة الاعتراف في حياة إدريس المعروف بزهوه الشديد مثل كرهه الشديد لجدته «آسيا» في مرحلة الطفولة، وانتمائه السياسي، حيث كان توجهه الاشتراكي نوعاً من الانتقام من والديه أكثر من كونه انحيازاً فكرياً محضاً، وكذلك ملابسات وحدود علاقته بالفنانة نجاة التي أورد فيها ثلاث روايات وترك القارئ ليرجح الرواية الأكثر صدقاً.


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

«في بيت أحمد أمين»... ذكريات الصبا وسط رموز أدبية وفكرية

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم
TT

«في بيت أحمد أمين»... ذكريات الصبا وسط رموز أدبية وفكرية

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم

* كان يسرد على الأسرة طرائف عن بخل توفيق الحكيم ويشبه أسلوب طه حسين بـ«غزل البنات» أو يتنبأ بمستقبل باهر لموظف صغير يُدعى نجيب محفوظ

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «في بيت أحمد أمين» للكاتب حسين أحمد أمين (1932 - 2014)، الذي يستعيد ذكريات الطفولة والصبا خلال سنوات نشأته الأولى، كونه الابن الأكبر للمفكر والمؤرخ المصري أحمد أمين (1886 - 1954) صاحب مؤلفات «موسوعة الحضارة الإسلامية» التي تتكون من «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» و«ظهر الإسلام»، فضلاً عن سلسلة أجزاء «فيض الخاطر»، ومذكراته الشخصية «حياتي».

يتوقف المؤلف عند مفارقة أن أصدقاء وضيوف والده الذين يردُّ عليهم في التليفون أو يستقبلهم بالمنزل، كانوا من عمالقة الأدب والفكر وجيل المؤسسين في الثقافة العربية. ويروي كيف كان يُهرَع حين يدق جرس التليفون، ويرد بصوته الرفيع المتحمس، والسماعة الكبيرة يضعها بصعوبة فوق أذنه: «آلو... من حضرتك؟»، فيجيب المتكلم بأنه عباس العقاد أو توفيق الحكيم، أو محمود تيمور، ثم يسأل: «أحمد بك موجود؟»، فيجيب الطفل: «دقيقة واحدة»، ثم يجري إلى المكتبة صائحاً: «بابا، بابا، محمود تيمور»، فيتوجه والده إلى التليفون، ويسمعه يسأل محمود تيمور عن سبب تخلُّفه عن حضور جلسة المجمع اللغوي، ثم يسرد عليه ما دار خلالها، وكيف اقترح فيها إقرار المجمع الكلمة العامية «محندق» لخلو معاجم اللغة من كلمة تعبر عن المعنى نفسه بدقة. ويقص عليه ما كان من موقف طه حسين واعتراض لطفي السيد، ثم يقرأ عليه رسالة وصلت إليه لتوه من المستشرق الألماني برجشتراسر يُعلّق على ما ذكره في كتابه «فجر الإسلام» من طبيعة العقلية العربية.

طه حسين

ويتناهى إلى سمع الطفل حسين أسماء ابن خلدون والجاحظ والغزالي وابن رشد، تُنطق في أُلفة غريبة وتتكرر على لسان أبيه، فكأنما هم أقارب للعائلة أو جيران أو مستأجرو أرض. وكثيراً ما تهتف والدة حسين إذ يفرغ زوجها من المحادثة التليفونية طالبةً إما أن يشرح لها من هو «ابن عبد ربه»، مؤلف «العقد الفريد»، أو ألا يأتي بسيرته لأن تكرار نطقه بهذا الاسم قد بدأ يغيظها حقاً. وهو أحياناً يعود من الخارج يسأل عمن اتصل به تلفونياً فتجيب زوجته: «اتصل بك ابن خلدون مرتين». ويسأل أحمد أمين مبتسماً: «هل ترك رسالة؟»، فتجيبه: «نعم، يقول إنه قد بدأ يتململ في قبره من كثرة تناولك سيرته بالحديث».

ويشير حسين أحمد أمين إلى أن أسماء: محمود تيمور، مؤسس فن القصة القصيرة في طبعته العربية، ومحمد حسين هيكل، مؤلف أول رواية عربية، وعبد القادر المازني، الشاعر والكاتب الساخر، وغيرهم، كانت مألوفة لديه مذ كان في الخامسة أو السادسة، وقبل أن يقرأ لأصحابها حرفاً. وكانت والدته تُقلّد له أصواتهم وطريقتهم في الكلام فيضحك لصدق محاكاتها لصوت العقاد الضخم، وبطء طه حسين الشديد، وثرثرة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الفقيه القانوني البارز ووزير المعارف، وصياح الشاعر علي الجارم باسمه فكأنما يعلنه للتاريخ: «أنا الجارم»، وتَبسُّط عبد العزيز فهمي باشا، أول من وضع مُسوّدة الدستور المصري في صيغته الحديثة، في الأخذ والرد.

وكان أحمد أمين يقص على زوجته وعلى مسمع من أبنائه أصل العداء المرير بين السنهوري وطه حسين وحيرته بينهما؛ فكلاهما صديقه الحميم، كما يسرد على الأسرة طرائف عن بخل توفيق الحكيم، ويُثني على أريحية تيمور وسماحته وطيب خلقه، ويشبه لهم أسلوب طه حسين بحلوى «غزل البنات»، كما يقص عليهم ذكرياته عن الشيخ محمد عبده ونبأ مقابلاته لحافظ إبراهيم، أو يتنبأ بمستقبل باهر في الأدب لموظف صغير بوزارة الأوقاف يدعى نجيب محفوظ. وإن ولدت قطتهم، أسمعهم قصيدة أمير الشعراء أحمد بك شوقي في القطة التي ولدت بحجرة مكتبه، وإذا حلّ الباذنجان على طاولة الغداء أنشدهم قصيدة شوقي الساخرة «نديم الباذنجان» التي يقول في مطلعها:

كان لِسلطانٍ نَديمٌ وافِ

يُعيد ما قال بلا اختلافِ

على ضوء هذا وغيره من مئات القصص والتفاصيل عن الحياة الخاصة لهؤلاء الأدباء والكتاب والمفكرين ولأنماط شخصياتهم، بدأ حسين أحمد أمين يقرأ كتبهم، فهم ليسوا غرباء عليه وباستطاعته حين يقود محمود تيمور إلى حجرة الاستقبال أن يعبّر له عن إعجابه بروايته «سلوى في مهب الريح»، أو حين يرد على العقاد في التليفون أن يخبره أنه قرأ له كتابه الشهير «عبقرية عمر»، فيداعبه العقاد بقوله: «كم سنك يا جحش؟»، وحين يعرف أن نجل صديقه أحمد أمين في العاشرة من العمر، يقول: «لا أعتقد أنك فهمته كل الفهم»، فيتحداه الطفل الصغير الذكي متحمساً: «بل فهمته، واسألني فيه إن أحببت»، فيتهرب العقاد من استمرار النقاش بقوله: «ليس لديّ وقت لسؤالك فيه. نادِ لي أباك».

وكان الصبي حسين يجد أحياناً صعوبة في إقناع والده بحاجته إلى حُلة أو حذاء جديد؛ خشيةَ أن يغضبه، أما فيما يتعلق بالكتب فالباب مفتوح على مِصراعَيه يشتري منها ما يحب؛ فهو يأذن له أن يأخذ من «مكتبة النهضة المصرية»، التي تتولى نشر مؤلفاته، أي عدد من الكتب دون قيد، ثم تحاسبه المكتبة في آخر العام. وكان حسين أكثر أبنائه استغلالاً لهذه الرخصة، ولم يحدث أن اعترض والده على إسرافه في هذا الاستغلال إلا مرة واحدة؛ حين قرأ في كشف الحساب السنوي اسم كتاب في تاريخ العالم من خمسة عشر مجلداً بلغ ثمنه أربعين جنيهاً، وهو ثمن باهظ يفوق راتب موظف كبير في شهر بمعايير ذلك الزمان.

ويشير حسين أحمد أمين إلى ملاحظة مهمة تتعلق بتكوين والده الثقافي: «فقد كان لا يكاد أحد يجاريه في معارفه الإسلامية، وفي إلمامه بتاريخ حضارة الإسلام وعلومها لا سيما في الفلسفة والأدب. أما فيما عدا ذلك فثمة خلل كبير، تداركه بعض كتّاب عصره كالعقاد وطه حسين. فهو لا يعرف شيئاً عن الموسيقى الغربية ولا يستسيغها، والأسماء الرنّانة في ميدانها هي عنده مجرد أسماء. وهو لا يكاد يقرأ قصصاً أو مسرحيات غير بعض ما يهديه إليه من مؤلفاتهم أدباء عصره كتوفيق الحكيم ومحمود تيمور والروائي الشاب نجيب محفوظ تجنباً للحرج حين يقابلهم بعدها». ولا يعتقد حسين أن والده قد قرأ في حياته رواية لتولستوي أو دوستويفسكي أو مسرحية لموليير، وهو لا يعرف شيئاً عن الأوبرا والباليه ولا عن فنَّي التصوير والنحت، ولا يظنه زار متحفاً للفنون في مدينة أوروبية إلا من قبيل الواجب.

غير أنه مع كل هذا القصور لم يكن يتظاهر بعكسه ولا كان الأمر يؤرقه. كل ما هنالك هو أنه حين ضعف بصره ضعفاً شديداً وصار مهدداً بفقده، وأحسّ بحسرة شديدة إذ لم يُعْنَ في شبابه بتنمية اهتمامات وهوايات مختلفة ولم يهوَ غير القراءة والكتابة اللتين أصبح الآن مهدداً بأن يُحرَم منهما فكان يردِّد قوله: «لو أني نمّيت في نفسي هواية الاستماع إلى الموسيقى مثلاً، لكان في لجوئي الآن إليها العزاء عن فقد البصر».

وقد كان على حد علم حسين على علاقة طيبة بجميع أدباء عصره، ولم تكن هناك بينه وبين أحدهم ما يشبه الخصومة غير زكي مبارك، بسبب سلسلة طويلة من المقالات نشرها الأخير في مجلة «الرسالة» بعنوان «جناية أحمد أمين على الأدب العربي»، يرد فيها على سلسلة طويلة من المقالات نشرها أحمد أمين في مجلة «الثقافة» بعنوان «جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي». أما الأديب الأثير عنده الذي يشبهه خلقاً وطباعاً فهو محمود تيمور، وكثيراً ما كان يجتمع بتوفيق الحكيم سواء في مقهاهما المفضل على البحر بالإسكندرية في أشهر الصيف، أو في اجتماع كل خميس بمقر «لجنة الـتأليف والترجمة والنشر»؛ حيث كانت تلتقي نخبة من مفكري مصر وأدبائها وعلمائها ورجال التربية فيها. كان أحمد أمين يأذن لابنه وهو بعدُ صبيٌّ في المرحلة الابتدائية بحضور تلك الندوات. ويذكر حسين أنه كلما استفسر من توفيق الحكيم عن كتب يقرأها أو آداب ينصح بأن يغترف منها، كان ينصحه بأن يركز على الآداب الغربية، ولا بأس من النظر بين الفَينة والأخرى في «العقد الفريد» أو «الأغاني»، طالباً منه وهو يضحك أن يكتم هذه النصيحة عن والده حتى لا يغضب منه.