«أدب الاعتراف»... لماذا تراجع في الثقافة العربية؟

يتأسَّس على كشف المستور... وتعرضت أبرز نماذجه للمصادرة

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور
TT

«أدب الاعتراف»... لماذا تراجع في الثقافة العربية؟

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

يشير مفهوم «أدب الاعتراف» إلى القدرة على البوح وكشف المستور ومواجهة الذات والآخر بالحقائق التي قد تكون صادمة، وهو يشمل قوساً واسعاً من الأشكال السردية التي تتضمن المذكرات والسّير الذاتية والغيرية، واليوميات والتراجم وكذلك الروايات التي تتكئ على تجارب شخصية مباشرة. وتعد مذكرات الفيلسوف والأديب الفرنسي جان جاك روسو (1712 - 1778)، التي صدرت بعنوان «اعترافات روسو» بعد وفاته بأعوام عدة حجر الزاوية المؤسِّس لهذا اللون، حيث بدأها بعبارة «أنا اليوم مقبل على أمر لم يسبقني إليه سابق، ولن يلحق به لاحق». ورغم تعدد نماذج هذا الأدب في الفكر العربي، لا سيما في النصف الأول من القرن العشرين، فإنه تراجع بشدة في العقود الأخيرة؛ مما يطرح علامات استفهام شائكة. فهل الثقافة العربية لا تحتمل حرارة البوح... أم أن المثقف العربي هو مَن يجبن عن الحديث الصريح بلا مواربة؟، ثم هل أسهم ما لاقته نماذج الاعتراف الشجاعة من مصادرة وملاحقة في جعل الأجيال اللاحقة تؤثر السلامة وتخشى المواجهة؟

«الشرق الأوسط» تستطلع في هذا التحقيق آراء كتاب ونقاد حول هذا الأدب.

في كتابه «أدب الاعتراف - مقاربات تحليلية من منظور سردي»، يشير أستاذ الأدب والنقد الدكتور إيهاب النجدي إلى أن ما يجعل أدب الاعتراف محاطاً بتحديات هو طبيعة الثقافة العربية ذاتها بوصفها ثقافة تبجّل الستر، وتميل إلى طي الصفحات الماضية أو السوداء، وتؤثر السلامة، وهي رجع صدى لإرث عريق في المدائح والمفاخرات، تجانب الإفصاح عن الأخطاء، وتتحاشى الكشف عن مرات السقوط في حركة الحياة، فجاءت غالبية السِّيَر- ذاتية وغيرية - نقية، زاهية، على غير الحقيقة. ويعرّف النجدي «أدب الاعتراف» بأنه «شكل سردي يتركز اهتمام الكاتب فيه على إظهار الجوانب الخفية من حياته، وكشْف المستور من صفاته الشخصية، وتجلية الغامض من علاقته بالآخرين، مستنداً في ذلك إلى الحقيقة وحدها، وساعياً إلى التحليل والتنبيه إلى مَواطن الخلل في الفرد والمجتمع، لكنّه قد يمثّل صدمة للقارئ تُبَدِّل الصورة الذهنية المستقرة في نفسه، كما أنه يمثّل مُخاطَرة وجُرأة في مواجهة الأعراف والتقاليد».

دكتور محمد أبو السعود الخياري

اللافت أن الأدب العربي عرف قديماً نماذج مبكرة من أدب الاعتراف كما في كتاب «الصداقة والصديق» الذي يحمل اعترافات لأبي حَيَّان التوحيدي حول قسوة الحال وشَظَفِ العيش حين كان مقصيّاً عن السلطة والسلطان، مطروداً من قصور الحكّام ونعيمها، مما دفعه إلى حرق كتبه في أواخر حياته، ضنّاً بها على الناس. وكذلك اعتراف الشيخ الرئيس ابن سينا بأنه كان يتخّذ الخمر وسيلةً تعينه على تحصيل العلم، وهو اعتراف صادم يتناقض مع حرصه على أداء الصلاة في المسجد. وهناك كذلك اعترافات أبي حامد الغزالي في «المنقذ من الضلال» التي يعرّض فيها لرحلته مع الفلسفات والعقائد والمِلل والنِّحل، ثم يبين اهتداءه إلى شاطئ التصوف بعد شيء من القلق والحيرة والشك والاضطراب والصراع الفكري. وهناك أيضاً نموذج ابن حزم في «طوق الحمامة في الألفة والألّاف» الذي يتضمن صوراً اعترافية متفرّدة جَسورة تخطّت حواجز الصمت والكتمان التي تغلّف حياة العلماء والفقهاء على نحو جعل هذا الكتاب العربي التراثي رائداً في هذا المجال.

منى الشيمي

صدمة البوح

تتعدد نماذج أدب الاعترافات عربياً في العصر الحديث، كما في «أصابعنا التي تحترق» لسهيل إدريس (1925 - 2008)، و«أوراق حياتي» لنوال السعداوي (1931- 2021)، و«أيام معه» لكوليت خوري المولودة في 1931، و«رسائل غادة السمان وغسان كنفاني» لغادة السمان المولودة في 1942. ويظل من أهم وأشهر تلك النماذج مذكرات «أوراق العمر: سنوات التكوين» للناقد المصري الدكتور لويس عوض (1915 - 1990)، ورواية «الخبز الحافي» للمغربي محمد شكري (1935 - 2003). وترجع شهرة هذين العملين تحديداً إلى براعة الوصف وجمال اللغة، فضلاً عن كم الصراحة والبوح فيهما على نحو صادم، وكذلك ردود الفعل الغاضبة من جانب عائلتَي كل من عوض وشكري، التي وصلت إلى حد محاولة منع الكتابين من التداول والتبرؤ مما جاء فيهما.

بشرى محمد

وفي بحث شائق يحمل عنوان «أدب الاعتراف والبوح في مذكرات الجواهري»، يرصد الباحث، الدكتور سليمان سالم السناني بعض التجليات الاعترافية الواردة في مذكرات الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري (1899 - 1997)، التي حملت عنوان «مذكراتي»، حيث تنقسم تلك الاعترافات إلى ما هو «اجتماعي» مثل حديث الجواهري عن ارتكابه السرقة والاعتداء البدني على الآخرين، وهو في طور الطفولة والمراهقة ومنها ما هو «أخلاقي» مثل عشق ومطاردة فتاة أكبر منه سناً.

رباب كساب

وفي «ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية»، يرصد الكاتب الجزائري واسيني الأعرج رسائل الكاتبة اللبنانية مي زيادة الخاصة، ومذكراتها وأوراقها المجهولة، وفيها تتجلى أسرار علاقاتها بكثير من مبدعي جيلها ومفكّريه مثل جبران خليل جبران، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وخليل مطران، وأحمد شوقي. وتعود هذه الأوراق النادرة إلى مخطوطة لمي زيادة بعنوان «ليالي العصفورية: تفاصيل مأساتي من ربيع 1936 إلى خريف 1941»، وقد كتبتها زيادة في أثناء إقامتها في مصحة «العصفورية» للأمراض النفسية والعقلية في بيروت قبيل رحيلها في عام 1941 بفترة وجيزة.

ويذكر الناقد والأكاديمي، الدكتور محمد أبو السعود الخياري أن الثقافة العربية محافظة بطبيعتها إلى حد أنها تبدو سدّاً عالياً يتراءى في الأفق لكل من يهم بكتابة أدب الاعتراف، فما يمكن قوله أقل بكثير مما يمكن نشره. ولعل «أدب الاعتراف»، بما يحمله من حكي متجرد لآثام المثقف ومعاناته ونقائصه، يمثل مخاطرة للأديب وسط تلك الدوائر الرقابية التي تبدأ من منزله ولا تنتهي بقارئ مجهول. ويضرب أبو السعود المثل بما حدث عندما عمد أبناء الناقد المصري، الدكتور شكري عياد (1921 - 1999) لسحب نسخ كتابه الاعترافي «العيش على الحافة»، مبررين ذلك بأن فيه ما يعرضهم للحرج.

دكتورة ناهد رحيل

حساسية خاصة

وتوضح الدكتورة ناهد راحيل، ناقدة وأكاديمية، أن «الأدب الاعتراف» يكتسب حساسيته كونه يندرج من مفهوم كتابة الذات التي انطلقت بدورها مع صياغة مصطلح «السيرة الذاتية» الذي نشأ في العلوم الإنسانية وتبلور في نظريات معرفية. وتتخذ كتابات الذات من الاعتراف استراتيجية أساسية لبنائها كونها جاءت لتفكك السرديات الكبرى للمجتمعات. ومثال ذلك عدد غير قليل من السّير الذاتية النسوية التي جاءت لتقاوم منظومة الهيمنة الذكورية، وسلطت الضوء على دور النساء في تاريخ الكتابة الذاتية، مثل كتابات نوال السعداوي وفتحية العسال.

بينما ترى الكاتبة الروائية منى الشيمي، أن المثقف العربي جزء من المجتمع، يحمل صفاته مهما كان متمرداً ومتحرراً، عميق الثقافة، لهذا قام كثير من الكتاب ببعثرة اعترافاتهم على مجموع رواياتهم. الروايات لأبطال متخيلين، أبطال من حبر، لهم الحق فيما يفعلون، وللقراء الحق في إدانتهم وصلبهم وإحراق أجسامهم. وهكذا يظل الكاتب في مأمن.

تقول الشيمي: «حتى إشعار آخر تظل ثقافتنا العربية، والكاتب المدجّن، الذي يتكون نسيجه من نسيج مجتمعه نفسه، حائلين لوجود أدب الاعتراف الحقيقي، ولنتخيل جميعاً حجم ردود الفعل في ثقافتنا العربية المحافظة لو خرج رجل وكتب أنه خان صديقه، واجتمع بزوجته، أو سرق ما في عهدته، أو أن تخرج امرأة وتعلن أنها أقامت علاقة خارج مؤسسة الزواج».

وتشير الكاتبة الروائية رباب كساب إلى أن «المثقف العربي يخشى البوح الصريح المطلق؛ لأنه لا أحد يحب أن يكون محط أنظار الجميع. قد يبوح الكاتب ببعض من ذاته في أعماله، مفضلاً ألا يكون مادة للمكتوب، أو أن تكون حياته وخصوصيته على المشاع، قد تتسرب روحه إلى أعماله وهذا ما أعده الأفضل لكن لا ينبغي أن يكون هو العمل. على المستوى الإبداعي لا أدخل تلك المنطقة أبداً، أنا أخلق نصوصي من وحي شخصياتي لكني لا أكتبني، أحب أن أحتفظ بي لنفسي وللمقربين مني، أحب أن أشارك الناس خيالي، لا واقعي».

ذهنية التحريم

ويرى الناقد والكاتب محمود عبد الشكور أن ذهنية العيب والمحاذير والتفتيش في النوايا إلى حد إقامة دعاوى الحسبة والتفريق بين الكاتب وزوجته، باتت تطغى على الثقافة العربية بوصفها جزءاً من تراجع المجال العام للحريات، مشيراً إلى أن كتابيه «كنت صبياً في السبعينيات» والجزء الثاني وعنوانه «كنت شاباً في الثمانينيات» لا يندرجان ضمن أدب السيرة الذاتية الخالصة بقدر ما هما سيرة ثقافية واجتماعية وسياسية بالأساس. ويضيف: «لم أكتب من سيرتي إلا ما يخدم هذا الهدف، وبالتالي لم يكن هناك مجال لاعترافات أو تفصيلات خارج هذا المعنى».

ولا يصنف الكاتب الصحافي بشري محمد كتابه «أنا يوسف إدريس» الذي يرصد فيه محطات من سيرة ومسيرة الأديب يوسف إدريس (1927 - 1991)، ضمن «أدب الاعتراف» بمعناه التقليدي، إلا أنه يشير إلى تعرض الكتاب لبعض النقاط الشائكة، التي تتماس مع نبرة الاعتراف في حياة إدريس المعروف بزهوه الشديد مثل كرهه الشديد لجدته «آسيا» في مرحلة الطفولة، وانتمائه السياسي، حيث كان توجهه الاشتراكي نوعاً من الانتقام من والديه أكثر من كونه انحيازاً فكرياً محضاً، وكذلك ملابسات وحدود علاقته بالفنانة نجاة التي أورد فيها ثلاث روايات وترك القارئ ليرجح الرواية الأكثر صدقاً.


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه
TT

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».