عبد الكريم الطبال: ما نعيشه الآن حرب كبرى على الثقافة

الشاعر المغربي يتحدث عن الشعر العربي كما عاشه منذ الأربعينات

عبد الكريم الطبال ( الشرق الأوسط)
عبد الكريم الطبال ( الشرق الأوسط)
TT
20

عبد الكريم الطبال: ما نعيشه الآن حرب كبرى على الثقافة

عبد الكريم الطبال ( الشرق الأوسط)
عبد الكريم الطبال ( الشرق الأوسط)

عبد الكريم الطبال شاعر مخضرم، درس في جامع القرويين بفاس والمعهد العالي في تطوان ما بين أربعينات وخمسينات القرن الماضي، ونشر أولى قصائده في نهاية الأربعينات. هو أول شاعر مغربي صدرت أعماله الكاملة سنة 2000. لكن ما صدر بعدها يفوق ما تضمنته أعماله الكاملة. وقد توج بجوائز أدبية رفيعة داخل المغرب وخارجه. في هذا الحوار يتحدث الطبال لـ«الشرق الأوسط» عن الشعر العربي، كما عايشه منذ ثمانين عاماً، كما يحكي بحسرة عن المستقبل المجهول للثقافة والكتاب في عالم اليوم.

* تَشَكل حسك الشعري ووعيك الفكري في الأربعينات من القرن الماضي، قبل ثمانين حولاً. فتّحت عينيك ووعيك على مغرب وعالم عربي كان كله خاضعاً للاستعمار الغربي، كيف كانت الصدمة، وماذا كانت الأولوية في تلك الفترة. من أين نبدأ؟

- نعم، وجدنا أنفسنا في جبهة الرفض، وفي خندق المواجهة. وكان لا بد من مواجهة أوضاعنا، أولاً، حتى نواجه هذا الاستعمار. فكان التحدي الأول ثقافياً، أي أن نعي وضعنا، لنعرف مآلنا والمصير. لنقل إننا وعينا بأن التحدي هو تحد ثقافي بالأساس. في تلك الأربعينات كانت الحركة الوطنية المغربية تعيش في خفوت، أو لنقل إنها كانت شبه صامتة، خصوصاً من حيث الوعي الثقافي، مع الحزبين الحاضرين حينها في أغلب التراب المغربي الذي كان خاضعاً للاستعمار الفرنسي، وهما حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال. أما في الشمال، تحديداً في تطوان، كان هنالك حزب الإصلاح الوطني الذي أسسه عبد الخالق الطريس نهاية 1936، وحزب الوحدة الوطنية، الذي أسسه المكي الناصري بداية 1937. والحال أن شمال المغرب كان خاضعاً للاستعمار الإسباني. وبخلاف فرنسا، أقام الاستعمار الإسباني في الشمال صحفاً ومجلات أدبية، وبنيات ثقافية أخرى من مسارح ودور سينما ومكتبات وغيرها، وفيها تشكل وعينا الثقافي أو تفاعلنا الثقافي مع هذا الآخر المستعمر. كما أن علاقة إسبانيا مع الشرق العربي لم تكن سيئة، وهذا ما سمح للوطنيين في الشمال بالتواصل مع المشرق، حيث قام الأمير شكيب أرسلان بزيارات إلى تطوان وطنجة وباقي شمال المغرب، كما زار أمين الريحاني، مثلاً، تطوان وشفشاون... لنقل إن الشمال كان نافذة على الشرق، ونافذة على أوروبا، من خلال التجارب الأدبية والفنية في إسبانيا، حيث زار لوركا وألبيرتي وفرق غنائية ومسرحية كثيرة شمال المغرب. ولعل هذا ما أثر على تجربتنا الشعرية وأثراها، وهي تفيد من رافدين اثنين... الرافد المشرقي والرافد الإسباني.

* قبل أن نصل إلى اللحظة الإسبانية، والاستفادة شعرياً من «جيل 27» ورفقاهما في الحركة التشكيلية، مع دالي وفارو، ولويس بونويل في السينما، وفرقة الفنانين الكتالونيين المستقلين في برشلونة... جمعت أنت ما بين ثقافة تقليدية حيث درست في جامعة القرويين بفاس (أقدم جامعة في العالم حسب تصنيفات رسمية) وثقافة عصرية حين التحقت بالمعهد العالي في تطوان، في فترة الخمسينات.

- فرق كبير بين فاس وتطوان. في فاس، وبجامع القرويين تلقينا العلوم التراثية على يد علماء وفقهاء كبار في الفقه والحضارة الإسلامية وفي الشعر العربي التقليدي، أيضاً، مع محمد الحلوي وآخرين. أما عن الحركة الشعرية في المشرق فقد كانت غائبة عن مكتبة القرويين، بما هي مكتبة تقليدية لا تتجاوز، بخصوص الشعر، أعمال شوقي والبارودي وحافظ إبراهيم. فقط عثرت ذات مرة على كتاب «دمعة وابتسامة» لجبران خليل جبران، وبقيت أتردد على المكتبة من أجل قراءته إلى أن اختفى من مكتبة القرويين، حيث استولى عليه أحدهم.

*لعله أنت؟

- (يضحك) لا أنكر أيضاً أنني اطلعت في فاس على أعداد من مجلة «الأديب» اللبنانية لصاحبها ألبير أديب، ليس في مكتبة القرويين، وإنما في مكتبة للبيع في البطحاء، حيث كنت أكتري العدد الواحد، لليلة وحيدة، مقابل بسيطة واحدة. ومن خلال مطالعة «الأديب» استغربت وجود اسم طالب مغربي كان ينشر فيها شعره، واسمه ابن جلون. لنقل إنني حين وصلت إلى تطوان قادماً من فاس، وكأنما انتقلت من البادية إلى المدينة. ففي تطوان تعرفت إلى مجلات أدبية كثيرة كانت تتناسل وتصدر من هذه المدينة، مثل «الأنيس» و«المعتمد» و«الأنوار» و«كتامة» و«المعرفة» و«الحديقة»... فكان أن تعرضت لما يشبه رجة أمام هذا الوضع الثقافي الجديد. وأكثر من ذلك، كانت هنالك المكتبة العامة والمحفوظات بتطوان، ولو كانت لي القدرة يومها لأعيش فيها لما غادرتها. ثم هنالك مكتبة الصحف والمجلات، وكانت في ساحة ثانوية القاضي عياض، تديرها سيدة إسبانية إلى جانب الشاعر محمد الصباغ، ومكتبة أخرى في الثانوية نفسها يديرها محمد بنتاويت، وكان مديراً للمعهد العالي بتطوان. وهكذا، وجدتني في بحر بعدما كنت في جدول. هنا في تطوان استفدت الكثير وتعلمت الكثير، وهي المدينة الثقافية التي كانت على علاقة عميقة بالمشرق العربي. كانت هنالك بعثات علمية من تطوان إلى المشرق، بعثة لحزب الإصلاح الوطني وبعثة أخرى يرسلها الشيخ المكي الناصري. ومثلما كانت تطوان نافذتنا على الشرق العربي كانت نافذة مشرعة على الشعر الإسباني أيضاً، حيث بدأت أرتبط بعلاقة مع هذا الشعر عبر الترجمات التي كان يقوم بها بعض المغاربة والعرب، ومنها ترجمات نجيب أبو ملهم، خصوصاً ديوان «الواحة» وهو ديوان غريب يضم شعر الرهبان. وفي تطوان، أيضاً، تعرفت على المجلات التي كانت تصدر من الجنوبية، مثل «العصبة الأندلسية» و«الشرق». كما تحضرني مجلة «المنارة» التي كانت تصدر من إسبانيا، وتنشر وتترجم العديد من النصوص الشعرية، وعثرت فيها على ديوان لخوان رامون خمينيث، نقلته يومها بيدي في دفتر خاص.

*شعر عربي ينشر في إسبانيا، وإسباني ينشر في المغرب، في «المعتمد» و«كتامة»... وحركات شعرية عربية تظهر في الأميركتين، هي بداية الحداثة الشعرية العربية إذن؟

-نعم، وجب القول إن حركة الحداثة الشعرية العربية إنما بدأت مع الشعر المهجري، مع جبران ونسيب عريضة وميخائيل نعيمة، ومع «المعالفة» في الجنوب الأمريكي، مع ميشيل معلوف وفوزي المعلوف وشفيق معلوف، الذي نشر في مجلة «المعتمد» بتطوان. لنقل إن مدرسة الشعر المهجري كانت مرحلة ابتداء في الشعر العربي، أي مرحلة مؤسسة للجديد والحديث.

* بعد ذلك، سيتم التأصيل لحداثة الشعر العربي، مع السياب والبياتي ونازك الملائكة، هذه الأخيرة التي نظرت وقعّدت لما أسمته «الشعر المعاصر» في عالمنا العربي. لكن، منذ كتاب نازك ظل سؤال التحديث من عدمه رهيناً بالحديث عن الإيقاع، من الخروج عن قالب الشطرين وصولاً إلى قصيدة النثر...

-لا شك أن الموسيقى هي روح الشعر، والشعر لا يمشي بدونها، ولا ينام بدونها. لكن الأساس في كل قصيدة هو الرؤية الشعرية، ثم هنالك اللغة التي هي جوهر كل كتابة شعرية، فاللغة هي التي تكتب الشعر وليس الشاعر، وهذا الشاعر تكتبه قصيدته. يحدث معي أحياناً أن أكون في الشارع وأمر بحادثة أو ألتقي بشخص ما، وفجأة تصدر مني كلمة لا علاقة بما كنا فيه. وتلك الكلمة تتحول إلى جملة ثم إلى جمل، فتضطر لكتابة قصيدة لعلها هي التي تكتبك. وقبل أيام بقيت حتى الفجر أتقلب في فراشي، ولم أنم إلا في الصباح. وفي يوم الغد صدرت عني كلمة «وسن» وقد نسيت معناها. وحين عدت إلى البيت بحثت عن الكلمة فتذكرت أنها تعني «النوم» الذي جفاني بالأمس. ثم كتبت قصيدة «يا وسنا»، وفيها: «يا وسنا/ عيناي في شوق/ وحزن إليك/ وأنا مثلهما/ أشتاق إليك». هكذا، فاللغة هي التي تحكم على الشاعر، والقصيدة تحكم على الشاعر، وهو بينهما أسير يطيعهما.

*ما بين «العصبة الأندلسية» وحلقة الشعراء الأندلسيين، ومنهم شعراء «جيل 27»، تعود بنا الذاكرة الثقافية العربية إلى «اللحظة الأندلسية»، التي كانت واحدة من أهم اللحظات التي مرت بها الحضارة الإنسانية، وتعايشت فيها ثقافات وفنون وحضارات. ماذا عن المرجعية الأندلسية، خصوصاً وأنت شاعر تنتمي إلى شمال المغرب المطل على هذه «الأندلس» والقادم منها أيضاً؟

- قدر الشاعر أن يتناص مع أجيال وتجارب شعرية قديمة وحديثة. وعن الأندلس أذكر أنني حين درست في المعهد العالي بتطوان اكتشفت ذخيرة أندلسية هي كتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة»، لابن بسام، الذي قادني إلى اكتشاف الأدب الأندلسي والتعلق به. وحتى حين أزور إسبانيا الآن فإنني أتوقف عند إشبيلية وقرطبة وغرناطة، باعتبارها العواصم التاريخية والفكرية والشعرية للأندلس. وقد استوقفتني تجارب كثيرة لشعراء أندلسيين، خصوصاً ابن سهل وابن الخطيب والمعتمد، وهم حاضرون في شعري كثيراً. وعلاقة بالأندلس وجب القول إننا أندلسيون، هنا في شفشاون أو في تطوان مثلاً، حيث تحمل عائلات شهيرة أسماء أندلسية إسبانية، لأنها العائلات الموريسكية التي تم تهجيرها من الأندلس نحو شمال المغرب. ولا تزال الموسيقى الأندلسية تسكن أرواحنا وتملأ بيوتاتنا وحفلاتنا. وفي شفشاون أذكر أن عميد الموسيقى الأندلسية أحمد البوكيلي كان يتردد على أحمد بن الأمين العلمي ليأخذ عنه معلومات وطبوعاً موسيقية أندلسية. وأنا سليل هذه الشجرة الأندلسية، وقد ولدت في حي الأندلس بشفشاون، الذي كان يشمل مناطق أخرى تحمل اسم «ريف الأندلس» و«عقبة غرناطة» وغيرهما.

حركة الحداثة الشعرية العربية بدأت مع الشعر المهجري مع جبران ونسيب عريضة وميخائيل نعيمة

*علاقة بهذا التأثير الأندلسي، لا يقتصر الأمر على الشعر وحده، بل على مستوى الفكر أيضاً، هنالك ابن رشد، وفي مقابله هنالك ابن عربي، الذي حضر في تجربتك الشعرية؟ ماذا عن الصوفية بما هي مرجعية أخرى من مرجعيات الشاعر؟

-بدأت علاقتي بالتصوف في بيتنا وأنا صغير. فقبل أن أذهب إلى الكُتّاب كنت أترك أمي وسط البيت تغزل الصوف وهي ترتل وتسبح وتتغنى بالأمداح النبوية وذكر الله. وفي المسجد كنا نقضي اليوم كله في ذلك... وفي المعهد العالي بتطوان تعرفت على ابن عربي فقال لي: «أنت تلميذ صغير، وسوف تتعلم مني شيئاً قليلاً»، فكان أن بدأت بـ«الفتوحات المكية»، ثم بديوان «ترجمان الأشواق» والآن مع «الديوان الكبير». ثم وليت نحو أدنى الشرق، والتقيت بفريد الدين العطار الذي أعطاني «منطق الطير»، ولما جاء جلال الدين الرومي قال لي: «دعك من هذا وذاك، وأعطاني (المثنوي المعنوي)»، وكتباً أخرى، ثم عدت إلى أستاذه شمس التبريزي وشعره العظيم.

*أيضاً، تأثرت برواد الشعر الفرنسي الحديث، وبالشعر الإنجليزي، إلى جانب اللقاء المباشر بالشعر الإسباني، وهذه المرجعيات الأندلسية والمشرقية والغربية... كيف يستطيع الشاعر التخلص من سحر هذه المرجعيات وسطوتها؟

- نعم، ثمة تراكم كبير في الشعر الإنساني، منذ فترة ما قبل الميلاد وإلى اليوم. ولا يزال التراث الشعري يشغلنا إلى حد كبير. وأمام هذه القراءات المتعددة يصبح الشاعر مديناً للكثير من الشعراء الذين سبقوه. والتناص موجود وثابت، ولا أحد يبدأ من عنده وينتهي عنده. ومهما حاول الشاعر التخلص من هذا التراكم فإن الذاكرة تدفعه إلى استرجاعه. فالذاكرة تشتغل من غير تذكر. لكن، على الشاعر في نهاية الأمر أن يكتب لغته الخاصة، وأن ينصهر في اللغة التي يكتب بها.

* تنتمي إلى جيل قارئ، بدأت القراءة منذ تسعين سنة تقريباً، وما زلت تقرأ، كأنك تبدأ فعل القراءة لأول مرة. لكن الجيل القادم لا يقرأ. ألا ترى أن موضوع القراءة سؤال كوني، على دول العالم والمنظمات الدولية أن تتدخل لإنقاذ هذه الحضارة الإنسانية العظيمة التي صنعتها الكتب وتدمرها الأسلحة الآن؟

- ما نعيشه الآن حرب كبرى على الثقافة. والحرب على الثقافة هي الحرب الأخطر في نظري، لأنها تقوم باستئصال الإنسان والحضارة الإنسانية. وهنا نحن في عالم بات فيه الكتاب مهدداً بالاندثار، فالكتب لم تعد تُقرأ، وحتى الصحف لا تباع ولا تشترى. لقد غرقنا في الترفيه والتسطيح والتفاهة. وهنالك حرب معلنة على الثقافة والكتاب هدفها تدمير الإنسان والمعنى.


مقالات ذات صلة

الأوبرا المصرية تحتفي بأديب «نوبل» نجيب محفوظ

يوميات الشرق احتفالات مصرية بنجيب محفوظ (وزارة الثقافة المصرية)

الأوبرا المصرية تحتفي بأديب «نوبل» نجيب محفوظ

تحت لافتة «محفوظ في القلب»، تحتفي الأوبرا المصرية بأديب «نوبل» نجيب محفوظ، عبر عدة فعاليات. بينها عرض أفلام تسجيلية عن مسيرته، ومعرض لفن الكاريكاتير حول محفوظ.

محمد الكفراوي (القاهرة )
ثقافة وفنون خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

أسلحة مزخرفة من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

يحتلّ موقع ساروق الحديد مكانة عالية في سلسلة المواقع الأثرية التي كشفت عنها عمليات التنقيب المتلاحقة في الإمارات المتحدة، ويتميّز بترابه الأثري

محمود الزيباوي ( محمود الزيباوي)
ثقافة وفنون الحكايات الشعبية... مخزون من الحكمة وتشويق يغري بالتأملات

الحكايات الشعبية... مخزون من الحكمة وتشويق يغري بالتأملات

عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة صدر كتاب «الحكايات الشعبية المصرية»، ضمن سلسلة «أطلس المأثورات الشعبية»، للشاعرة والباحثة بهية طِلب،

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
ثقافة وفنون كازو إيشيغورو

إنهم يسرقون الكلمات

تبذل بريطانيا وجهات أوروبيّة منذ بعض الوقت جهوداً لفرض حد أدنى من الحوكمة لمنع تغّول الآلة على الإبداع الإنساني.

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون هاروكي موراكامي

هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية في «جائزة الشيخ زايد للكتاب»

أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب في مركز أبوظبي للغة العربية، عن اختيار الكاتب الياباني العالمي هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية.

«الشرق الأوسط» (الدمام)

أسلحة مزخرفة من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
TT
20

أسلحة مزخرفة من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

يحتلّ موقع ساروق الحديد مكانة عالية في سلسلة المواقع الأثرية التي كشفت عنها عمليات التنقيب المتلاحقة في الإمارات المتحدة، ويتميّز بترابه الأثري الذي يشهد له الكم الهائل من اللقى التي خرجت منه في العقدين الأخيرين. تشكّل هذه اللقى مجموعات عدة مستقلة، منها مجموعة كبيرة من الأسلحة المعدنية تحوي خنجرين فريدين من نوعهما، لكل منهما مقبض منحوت على شكل فهد رابض يمدّ قائمتيه الأماميتين في الأفق.

تتبع منطقة ساروق الحديد إمارة دبي، وتجاور قرية الفقع بين مدينة دبي ومدينة العين التابعة لإمارة أبوظبي. شرعت دائرة التراث العمراني والآثار التابعة لبلدية دبي في استكشاف هذا الموقع في عام 2002، بالتعاون مع عدد من البعثات الأجنبية، وأدت حملات التنقيب المتواصلة خلال السنوات التالية إلى العثور على مجموعات متنوعة من اللقى تعود إلى فترات زمنية تمتد من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي، منها مجموعة من الأختام، ومجموعة من الأواني الطينية، ومجموعة من الأدوات المعدنية.

تنقسم مجموعة الأدوات المعدنية إلى مجموعات عدة، أكبرها مجموعة من الأسلحة تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، تشابه في صناعتها وفي صياغتها أسلحة معاصرة لها خرجت من مواقع أثرية أخرى في الإمارات وفي المناطق المجاورة لها. يأخذ القسم الأكبر من هذه الأسلحة شكل خنجر من الحجم المتوسط، يتكوّن من مقبض بسيط ونصل مروّس. يبدو المقبض مجرّداً من الزينة في أغلب الأحيان، غير أن بعض النماذج تخرج عن هذا السياق، وتتميّز بنقش زخرفي متقن يشهد لأسلوب فني ساد في هذه الناحية من الجزيرة العربية كما يبدو.

يتجلّى هذا النقش الناتئ في خنجر من البرونز يتكون من مقبض يبلغ طوله 13 سنتيمتراً، ونصل طوله 16 سنتيمتراً. يتكوّن هذا النقش من مساحات زخرفية مختلفة، تشكّل معاً تأليفاً تجريدياً يجمع بين تقاسيم متناغمة. يعلو هذا التأليف شريط أفقي يحدّ قاعدة نصل الخنجر، تزيّنه سلسلة من الحبيبات المتلاصقة. يستقرّ هذا الشريط فوق مساحة مكعّبة تأخذ شكل تاج تزيّنه زخرفة حلزونية مكوّنة من مفردتين تشكيليتين معاكستين. في النصف الأسفل من هذا المقبض، تحضر مساحة مستطيلة تزينها سنابل منتصبة محوّرة هندسياً، تستقرّ في إطار يحدّه شريطان مزخرفان بشبكة من الخطوط الأفقية. ترتفع هذه الكتلة المتراصة فوق قاعدة أسطوانية، وتشكلّ هذه القاعدة الطرف الأسفل لهذا المقبض البديع.

يحضر هذا النقش بشكل مشابه في خنجر آخر يبلغ طول نصله الحديدي 13.7 سنتيمتر، وطول مقبضه البرونزي 9 سنتيمترات. ويظهر هذا التشابه من خلال السنابل المنتصبة في كتلة مستطيلة تشكّل عموداً يعلوه تاج يزينه تأليف حلزوني مماثل. يستقر هذا العمود فوق قاعدة أسطوانية مجرّدة، ويشكّل معها تكوين مقبض هذا الخنجر الذي تأكسد نصله الحديدي العريض.

يبرز في هذا الميدان خنجران فريدان من نوعهما يحمل كل منهما مقبضاً نُحت على شكل حيوان من فصيلة السنّوريّات، يمثّل كما يبدو فهداً رابضاً. يتشابه هذان الخنجران البرونزيان من حيث الحجم تقريباً، غير أنهما يختلفان في التكوين، ويظهر هذا التباين عند دراسة مقبض كل منهما؛ إذ يحمل أحدهما صورة فهد مجسّم، ويحمل الآخر صورة مزدوجة لهذا الفهد. يظهر الفهد المفرد في خنجر يبلغ طول نصله المقوّس بشكل طفيف 19.5 سنتيمتر، وطول مقبضه 14 سنتيمتراً. يتكوّن هذا المقبض من مجسّم على شكل فهد ينتصب عمودياً فوق قاعدة تأخذ شكل تاج تزينه زخرفة حلزونية، تماثل في تأليفها النسق المعتمد. يشكّل رأس هذا الفهد قمة المقبض، وملامحه واضحة، وتتمثّل بعينين دائريتين، وأنف شامخ، وشدقين مفتوحين. يرتفع هذا الرأس فوق عنق طويل مقوّس، يحدّه عقد من الحبيبات الناتئة، يفصل بينه وبين البدن. يتكوّن هذا البدن من صدر طويل مستطيل، تعلوه قائمتان أماميتان تمتدّان في الأفق، مع قدمين مقوّستين بشكل طفيف. الفخذان عريضتان، والذيل منسدل، وهو على شكل ذيل الأسد، ويتميز بخصلة عريضة تعلو طرفه، تنعقد هنا بشكل حلزوني.

يتكون الخنجر الآخر من نصل يبلغ طوله 16 سنتيمتراً، ومقبض على شكل قوس منفرج طوله 12.5 سنتيمتر. تتكرّر صورة الفهد، مع اختلاف في التفاصيل؛ إذ يغيب الطوق الذي يحيط بالعنق، وتستقيم القائمتان الأماميتان عمودياً، وتحضر في وسط العين نقطة غائرة تمثّل البؤبؤ. ينتصب هذا الفهد فوق فهد آخر يظهر بشكل معاكس له، ويشكّل رأس هذا الفهد المعاكس الطرف الأسفل للمقبض، وقاعدة للنصل المنبثق من بين فكّيه.

يمثّل هذان الخنجران حالة فنية استثنائية في ميدان مجموعات الأسلحة المتعددة التي خرجت من مواقع الإمارات الأثرية، ومواقع سلطنة عُمان التي شكّلت امتداداً لها، ويبرزان بطابعهما التصويري الذي يأخذ هنا شكل منحوتتين مجسّمتين. تعكس هاتان المنحوتتان أثر بلاد السند وبلاد الرافدين، غير أنّهما تتميّزان بطابع محلّي خاص، ويظهر هذا الطابع في قطع أخرى تنتمي كذلك إلى ما يُعرف تقليدياً بالفنون الصغرى.