«فلسطين الصفقة» طريقاً إلى النعمة الفاسدة والحياة الفاخرة

الروائي الأردني خالد سامح في روايته «بازار الفريسة»

«فلسطين الصفقة» طريقاً إلى النعمة الفاسدة والحياة الفاخرة
TT

«فلسطين الصفقة» طريقاً إلى النعمة الفاسدة والحياة الفاخرة

«فلسطين الصفقة» طريقاً إلى النعمة الفاسدة والحياة الفاخرة

يعالج الروائي الأردني خالد سامح في روايته الجديدة «بازار الفريسة» -المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، عمّان- قضايا ثقافية سياسية، دون الوصول إلى إجابات نهائية. استأنف مواضيع روايته الأولى «الهامش» التي أصدرها في عام 2020، وقرأ فيها واقعاً عربياً لا يبعث على المسرّة. تقاسمت الروايتان اقتصاد اللغة ومشكلات المثقف العربي التي تبدأ بالتحريض وتنتهي إلى تداعٍ أسيف، وجهه الأكثر سواداً: المثقف الخائن.

مثقف يدعو إلى الدهشة، يلتفّ بتناقضاته ويسقط في عُريٍ ذليل. تأتي الدهشة من وعد بالثورة وإصلاح العالم، وانقلابه إلى تجارة منقطعة عن الأخلاق والقيم، ومن تنديد بالظلام و«الإمبريالية»، إلى ترويج الكذب والانصياع إلى أكاذيب أعداء الحقيقة. وتتسع السخرية السوداء حين يكون المثقف المنقلب يساريَّ البداية، متحزباً فخوراً بتحزبه، كما لو كان في طبيعة المثقف الخائن ما يعيد خلقه ويقايض الثورة بالمصلحة.

لكأن المثقف الكاذب المحاط بهالة جماهيرية واسعة ينجز مرحلتين: مرحلة يبني فيها الشهرة، وأخرى يجتهد في تسليع الشعارات ويعتاش بها، كأن يلعن إسرائيل وسياساتها ويرجع فيرى فيها ظاهرة تمحو «فضائلُها» أخطاءَها.

وبهذا فإن المثقف المذكور يعرف أدواته، ويتقن فعل التستر والتكسب منه، يعيش في الحالين منقسماً وسعيداً بانقسامه، مطمئناً إلى حزبه وثناء رفاقه عليه، وزوجة متعلمة كريمة البيئة.

تأمَّل خالد سامح «وضع المثقف» واستقصى أحواله، بدءاً من دراسة جامعية لامعة أو باهتة، مروراً بمساهمات صحافية «منحازة»، وصولاً إلى «مركز دراسات سياسية» يعمل فيه، أو يؤسسه مسترشداً بخطى آخرين سقطوا في بهجة المؤسسات اللاحكومية أو سقطت عليهم، حيث المواضيع الجاهزة، أو التي تحت الطلب، وتتضمن عادةً «اضطهاد المرأة» و«عنف الإسلام» و«الحوار مع الآخر» -دون تعريفه- والديمقراطية والاستبداد وتهميش أسبابهما؛ مواضيع بالنسبة لهم لا يمكن تطوير المجتمعات «المتخلفة» دون مناقشتها، بعيداً عن أخرى أكثر وضوحاً: التبعية والهوية الوطنية والبرامج المدرسية ودور اللغة القومية. وواقع الأمر أن المثقف المتكسب لا يعبأ إلا بما يوائم «المقاولات الثقافية» المُسيطرة بقدر ما أن الذين يتعاملون معه ينبهون إلى مواضيع تلبّي أغراضهم السياسية، سواء أقامت بتجميل «سلام» لا وجود له، أم افترضت حواراً ثقافياً مستحيلاً بين أطراف لامتكافئة.

جمع الروائي خالد سامح بين التوثيق والتطبيق، إذ في مآل بطل الرواية «رشيد» ما يذكّر، بلا صعوبة، بنماذج ثقافية معروفة التحول والمآل، من صعود الاسم إلى «الرحيل الأخير»، ومن ذلك التكامل بين سياسي موسر يحتاج إلى «صحافي» جامع للمعلومات و«تنظيم» رخو الأعضاء يسبق بعض قادته «مثقفهم المعروف» إلى الخيانة، بل إنه -أي الروائي- يأخذ بلغة تقريرية واضحة، كما لو كان ينجز عملاً صحافياً مألوفاً يجذب القراء. والسؤال: ما الذي يدفع المثقف الآيديولوجي إلى «العمالة» والانحياز إلى طرف خارجي يُسهم في خراب العالم العربي؟

ركنَ خالد إلى استقصاءٍ قريب من «علم اجتماع المثقف»، يستكمل فيه كلُّ بُعدٍ بعداً آخر: الاستعمال الذرائعيّ لصفة «الحزبي» التي تمد المثقف العميل بصفة «المناضل» أو «التقدمي»، فقد جاء بطل الرواية من فضاء طبقيّ «شعبيّ»، وذهب إلى بيروت واقترب من العمل المسلح، وعمل في «مركز أبحاث» يرمي عليه بصفة الباحث المحتشد بالمعادلات السياسية. وإضافةً إلى هذا وذاك فهو مزوَّدٌ بتأهيل ذاتيّ، وسيم، كثير العلاقات، يثق به الآخرون، يخادعهم ويتأخرون في اكتشاف خداعه، وتصيب زوجته الدهشة إن شكَّك «رفاقه» المقربون في ولائه الوطني.

يتسم المثقف المتكسب بفن المخادعة مدعوماً بفتنة الاستهلاك، وهو الذي جاء من وسط فقير، مولعٌ بالأناقة وبالفاخر من السلع والسكن المريح، ويسلّع ذاته ليمتلك ما يريد، بدءاً باللباس وانتهاءً بالزوجة التي قاسمته «الفاخر» لباساً ومأكلاً وسكناً، رسم خالد سامح سمات المثقف المتداعي، الذي بلغ قرار «المثقف الخائن»، والذي يقبل اتفاق أوسلو بلا مساءلة ويصبح مرشداً سياسياً لأوساط أنكرت الحق الفلسطيني وسخرت منه ومن القائلين به. وبهذا أصاب المؤلف في عنوان عمله: «بازار الفريسة»، إذ المثقف بازار سقوطه، وإذ الحق الفلسطيني بازار الذين يدبّجونه، ما يستقدم الفساد لدى أوساط لا تفصل بين الحل الوطني للقضية والصفقات التجارية، بل يجعل من «فلسطين الصفقة» طريقاً إلى النعمة الفاسدة والحياة الفاخرة.

عاين خالد سامح «البازار الواقعي» وسجّله بشكل واقعي بلا تزييد أو نقصان، كأن يستهل روايته مباشرةً بالوثيقة التالية:

«الولايات المتحدة الأميركية – وزارة الخارجية – مكتب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، واشنطن العاصمة، 6 ديسمبر (كانون الأول) 1989: سعادة السفير، نظراً للتحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط (...) فإننا نوجهكم...». وضوحٌ لا ضباب فيه، موضوعه الشرق الأوسط وقضاياه، تضيئه كلمة «نوجّهكم» التي تشير إلى طرفٍ يقدم النصيحة السياسية بالتواصل مع القوى والشخصيات الفاعلة سعياً إلى تحقيق «المصالح المشتركة»، وتنتهي الرسالة الرسمية «بإخلاص، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط»، والمرسل له مثقف يدعى «الرفيق رشيد مرعي» ينتظر جواباً من مسؤول أميركي مرموق تربطه علاقة وثيقة بمدير مركز «جسور الحوار» للدراسات السياسية في عمّان، هو رشيد مرعي نفسه.

الثقافة بلا سياسة هي أقرب إلى اللهو والتجارة.. والسياسة السائبة تنتهي إلى كلمات متقاطعة

المتابع لكتابات بعض الصحافيين المعروفين في الشرق الأوسط يقرأ بلا جهد ما يَرِد في الرسائل بين مدير «معهد جسور الحوار» والمسؤول الأميركي، كما لو أن خالد سامح قد قرأ «المستور» إلى العلن، وكشف عن عينة ثقافية تمارس الكتابة في زمن الفساد. ساعد على ذلك عمله الصحافي الطويل وممارسته الأدبية، فهو كاتب قصة قصيرة منذ زمن، ودرس العلوم السياسية في الجامعة الأردنية، ولديه معرفة نافذة بالأوساط الثقافية.

سجّل سامح ما يبدو راهناً منذ أكثر من عقدين من الزمن، وتابع بنبرة غاضبة أمراضاً كتابية معروفة الاسم والعنوان في زمن انطفاء الحياة السياسية إلى حد الإمحاء. مع ذلك، وبعيداً عن عدمية اعتنقها بعض المثقفين، تناول عالم المثقفين بصيغة الجمع، واقتفى «بُقيا» زمن «يتلاشى» فيه الحد بين الثقافة النقدية وجدلية الفعل السياسي، مدركاً أن الثقافة بلا سياسة هي أقرب إلى اللهو والتجارة، وأن السياسة سائبة تنتهي إلى كلمات متقاطعة، ولهذا تناول نماذج من المثقفين متعددة، بعضها جاد لكنه آثر الانزواء، وآخر رثى نفسه وهو يرثي انطفاء الأحزاب والعمل الثقافي لأسباب كثيرة.

سؤالٌ أخير لامسه خالد سامح برهافة ونباهة: مَن المثقف الذي سوّق لثقافة سياسية ثم آثر مصلحته الخاصة؟ وما المرجع الاجتماعي الذي يعيد «تصنيع المثقف» أكثر من مرة؟ ووصل الروائي بلا افتعال إلى ما يدعوه علم الاجتماع الثقافي «المثقف الريفي» بالمعنى النظري الخالص، لا بالمعنى الاجتماعي، فهذا المثقف، وفي مجتمع فقير الثقافة، له صفات محددة: اختصار الثقافة في شكل من الشهرة والتميز، واعتبار التميز الثقافي طريقاً إلى السلطة، ففي «الدراسات المصطنعة» ما يقيم علاقة بين المثقف والسلطة التي تؤثِر المديح على النقد الاجتماعي، وإن كانت العلاقة الأخيرة تُفضي إلى الشهرة، بحق أو من دونه، فإن فيها درباً إلى التسويق الذاتي وإلى أبواب «السفارات»، وتَحوُّل الشهرة «الدبلوماسية» إلى قوة وتجارة تكفلان حياة موسرة وتمنعان النقد المسؤول.

أكد خالد سامح في روايته الأولى «الهامش» أخلاق المسؤولية، وصيّر الرواية وثيقة اجتماعية عن القمع والخراب، وبرهن في روايته الثانية على جمالية وأخلاقية الإتقان، إذ الكتابة نقد ينشد الإصلاح، ويجدد الرواية، وهو في الحالين بدا روائياً مختلفاً يجدد الرواية العربية ويتجدد بها.

أخيراً، فإن الروائي خالد سامح يود أن يقول في روايته «بازار الفريسة»: إن كتابةً في السياق العربي الراهن لا تُسيِّس العلاقات الاجتماعية جميعاً، هي كتابة نافلة ولا ضرورة لها، تستجيب لمطالب سوق الكتاب المتداعية، وتعبث بتقاليد الكتابة الوطنية الممتدة من غسان كنفاني إلى غالب هلسا.

* ناقد فلسطيني


مقالات ذات صلة

سيّدتا الحجر تحافظان على سرّ هويتهما الفنية

ثقافة وفنون تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)

سيّدتا الحجر تحافظان على سرّ هويتهما الفنية

كشف أثري بمقبرة في بلدة بالبحرين، تم العثور فيها على تمثالين أنثويين في مدفن فارغ من أي عظام بشرية، ويتميّزان بأسلوب فني فريد من نوعه.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة

«أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة

ديوان جديد للشاعر المصري سامح محجوب يستعيد من خلال أجوائه جماليات قصيدة التفعيلة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

صدر حديثاً عن «دار غيداء للنشر والتوزيع» في عمان بالأردن كتاب «قصيدة النثر العابرة دراسة في مطولات منصف الوهايبي وقصائد أخر» للدكتورة نادية هناوي.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون «كباب» لأمل دنقل وتوضيح من نزار قباني وغزليات لميعة عمارة

«كباب» لأمل دنقل وتوضيح من نزار قباني وغزليات لميعة عمارة

عن دار «سطور» للنشر والتوزيع في بغداد، صدر مؤخراً كتاب جديد للكاتب والإعلامي السعودي محمد رضا نصر الله، بعنوان: «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع».

ميرزا الخويلدي (الدمام)
ثقافة وفنون تركي آل الشيخ

«تشيللو» تلهم آل الشيخ فكرة مشروع «جائزة القلم الذهبي»

شهد شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1994 حدثاً مهماً ذا صلة بالسيرة الإبداعية لكاتب الرعب والإثارة الأميركي الشهير ستيفن كِينغ.

د. مبارك الخالدي

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار
TT

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

دورة ناجحة لمؤتمر قصيدة النثر المصرية تنوعت فيها الرؤى والدراسات النقدية، والقراءات الشعرية لكوكبة من الشاعرات والشعراء من شتى الأقاليم المصرية، كما احتفت بتجربة شاعرين من الرموز المؤثرة والمؤسسة لهذه الكتابة الشعرية الجديدة.

على مدار ثلاثة أيام استضافت مؤسسة «الدستور» الصحافية وقائع الدورة الثامنة من «مؤتمر قصيدة النثر المصرية»، التي شهدت مشاركة واسعة لأسماء عديدة من مختلف المشارب والأجيال الشعرية والأدبية؛ وسط تنوع لافت في الفعاليات ما بين الجلسات النقدية والمداخلات النقاشية، والاحتفاء برموز مؤثرة في سياق مغامرة قصيدة النثر وترسيخ وجودها ودورها الإبداعي الذي يتعمق يوماً بعد يوم، فضلاً عن قراءات شعرية متنوعة لكوكبة كبيرة من الشعراء والشاعرات في تظاهرة فنية لافتة حررت المشهد الشعري المصري من الرتابة والتكرار وأكسبته حيوية مفتقدة، كما أتاحت الفرصة أمام أصوات مختلفة للتعبير عن نفسها.

ألقى الناقد والأكاديمي د. محمود الضبع كلمة لافتة في الجلسة البحثية الأولى بعنوان «ما بعد العولمة وتبعاتها في الشعر المعاصر»، مشيراً إلى أن ما بعد العولمة ليست مجرد تطور اقتصادي أو حتى فكري، بل هى في الأساس سلطة سياسية جديدة تتخذ تجليات عدة، مما يجعل الأدب عموماً، والشعر في القلب منه، منوطاً به معرفة دوره الخطير إزاءها باعتباره الوعاء الرئيسي للتعبير عن العادات والتقاليد والثقافة العامة في عصر ما. وأشار إلى أن الشعر ليس نغماً أو جمالاً معزولاً أو حالة جمالية منبتة الصلة عن الواقع، فقد أثبتت الثورات التي شهدتها المنطقة العربية في حقبة ما بعد الألفية الثالثة أن الشعر استعاد أدواره القديمة فعلاً تحريضياً وأداة حماسية.

وتحت عنوان «قليل من المحبة»، خصص المؤتمر جلستين للاحتفاء باثنين من رموز قصيدة النثر هما الشاعران محمد فريد أبو سعدة وجمال القصاص. تحدث القصاص عن أبو سعدة، رفيق الدرب، متمنياً له الشفاء، مؤكداً أن أبو سعدة ينظر إلى الشعر في كليته، وبراءته الحميمة، ليتباهى كصوفي عاشق يدرك أن الوجود هو حلقة متصلة للروح، تسبق الصورة والفكرة، والنغمة والموسيقى والإيقاع، وأن هزة السطر والحرف والكلمة ليست شرخاً ناتئاً في المرآة، وإنما ضرورة للإمساك بأزمنة وملامح، وحدس إنساني هارب في ظلالها وبياض عتمتها ونصوعها الشائك المراوغ.

ولفت إلى أن أبو سعدة في دواوينه المتنوعة مثل «معلقة بشص»، «جليس لمحتضر»، «سماء على الطاولة»، «أنا صرت غيري»، يصل إلى سؤاله الشعري، ويخلص له عبر تدفقات الذهن والحس معاً، وبراح فضاء قصيدة النثر، كأنه يوقظ أعماقاً مغايرةً في داخلنا، فعلى السطح وفي العمق تبني الصورة عالمها بشفافية لافتة، بينما يتخلى الماضي عن فكرة الترجيع، أو أنه صدى لأشياء بائدة، هو صدى للنص نفسه، وما يرشح عنه، ما يعلق في وعينا ولا وعينا معاً، من انكشاف النص نفسه لذاته أولاً، قبل أي شيء آخر.

يلاحظ القصاص في شعرية أبو سعدة كيف يتسع المشهد على نحو خاص ليشمل حضور الأنثى وعناصر الطبيعة ونثريات الواقع والأشياء العابرة المهمّشة المنسية، وتصبح الحسية أداة للمعرفة والسؤال، وفي الوقت نفسه، يخلع النص قناع الآخر، ويتوحد بقناع الشاعر الذي يعرف كيف ومتى يخلعه ويلقيه خلفه، وكيف يلجأ إليه، كنوع من التمويه والتخفي والانعتاق من فوضى العالم، كما في ديوانه «سماء على الطاولة»: «ذهبوا/ وظل وحده/ على صدره جبل/ وتحت جلده مناقير تنهش في القلب/ قضى عمراً ليصل إلى الباب/ عيناه جوهرتان/ ويداه تمسكان بالفراغ».

وقدم الشاعر والناقد عمر شهريار ورقة بحثية بعنوان «قصيدة النثر والاغتراب: جدل القطيعة والتواصل»، رفض فيها عدداً من «الاتهامات الجاهزة» الموجهة لقصيدة النثر، من أشهرها أنها في قطيعة دائمة وأبدية مع التراث، كما أنها تمثل خطراً على الهوية العربية وتجسد حالة من الانسلاخ من الماضي. وعدَّ شهريار أن قصيدة النثر مثلها مثل الأشكال الشعرية الأخرى كقصيدة التفعيلة وقصيدة العمود، هي في حالة جدل دائم مع التراث، فتارة تتمرد عليه وتارة أخرى تستلهمه وتارة ثالثة تنطلق منه أو ترفضه و... هكذا. وشدد شهريار على أن شاعر قصيدة النثر مثله مثل بقية نظرائه على خريطة الإبداع الأدبي لا يستطيع الهروب من اللغة كأداة أساسية بما تمثله من حامل أو وعاء للعادات والتقاليد والثقافة بمفهومها الواسع، بالتالي تجد قصيدة النثر نفسها في حوار جدلي مع التراث، على الأقل من خلال الاشتغال الذي لا بد منه على اللغة.

وفي الجلسة النقدية باليوم الثالث للمؤتمر، التي أدارتها بحيوية الكاتبة الروائية والإعلامية دكتورة صفاء النجار قدمت الباحثة هبة رجب شرف الدين بحثاً بعنوان «سرديات الماهية في قصيدة النثر المعاصرة بين المرجعية والتخييل الذهني»، ارتكزت فيه على نماذج لكوكبة الشعراء والشاعرات، وتوقفت بالتحليل أمام قصيدة للشاعر إبراهيم المصري بعنوان «ما هو الشعر»؛ حيث يعرّف الشاعر ماهية الشيء/الشعر بقوله: الشعرُ/ حضورٌ كونىٌّ للبذخِ/ وجسورٌ معلقةٌ/ نعبرُ عليها من غيمةٍ إلى غيمة». وتنبع أفكار الشاعر في تصوير حقيقة الشعر من البيئة، لافتة إلى أن الأفكار الشعرية لديه تماثل الغيمة؛ وهذا النعت لها من الطبيعي أن يبرز موقع الشاعر موقعاً علوياً حتى يحدث الإشراق الذهني منفرطاً، وهذا المعنى هو ما استهل به الشاعر الوحدة الشعرية.

وتنتقل الباحثة إلى تجربة شعرية أخرى للشاعر أحمد إمام، حيث يتأثر في قصيدة النثر بالتقنيات القصصية من الحوار والوصف ومنظور الرؤية؛ وهو يقدم مفهوماً أو تعريفاً لماهية صورة الشاعر في «قصائد بحجم راحة اليد»؛ إذ يقول في قصيدة بعنوان «الشاعر»: نظَّفَ حَنجرتَه من بقايا غناءٍ قديم/ وذاكرتَه من غبارِ القوافلِ/ ومشى وحيداً إلى الليلِ/ وحيداً كذئب/ لا كطريدة/ حدَّقَ في المرآة طويلاً/ كأنه يشربُ صورتَه على ظمأ»، مشيرة إلى أنه يصف الذات الشاعرة بمجموعة من السمات القابعة في تصوره؛ فتتضح هذه السمات عبر الإخبار بشكل قصصي عن الحالة التي تسبق الكتابة، وهي حالة جوهرية تخص الشعراء؛ من هذه السمات أن الشاعر لديه فنان في المقام الأول، مسافر رحَّال في المقام الثاني ترحالاً معنوياً أكثر منه مادياً؛ لذا فهو منفرد دائماً بذاته التي دائماً ما تتشكل في صور كثيرة بعدد صوره الشعرية.

ويتخذ الباحث إبراهيم أحمد أردش من ديوان «ما أنا فيه» للشاعر أحمد الشهاوي نموذجاً لدراسة بعنوان «البحث عن راحة الذات المتعبة من الأفكار في قصيدة النثر»، حيث يرصد حيرة الشاعر مع الأفكار وتداعياتها عليه، عن اقترابها وابتعادها؛ ليصبح ما فيه الشاعر هو البحث عن الأفكار أحياناً والهروب منها أحياناً أخرى، حتى يزهد الشاعر في الاستيقاظ، باعتباره معادلاً للتفكير: «مُستغنٍ عن الصَّحوِ/ أخبَّئُ جرَسَ البابِ/ في الجَيْبِ/ أخفي جرَسَ الهاتف/ في سُترةِ الصَّمتِ/ أقايضُ إغفاءةً/ بقيراطين من ماس».

وفي جلسة احتفاء بتجربة الشاعر جمال القصاص تحدث الشاعر أسامة حداد عن علاقته بالقصاص والمرتكزات الجمالية والفلسفية التي تشكل رؤيته للشعر والحياة، وتنعكس على تشكيله الجمالي للقصيدة ومغامرته في البحث عن الجديد دائماً. وتناول الشاعر والباحث د. خالد حسان جماليات قصيدة الشاعر جمال القصاص، لا سيما في دواوين «السحابة التي في المرأة» و«ما من غيمة تشعل البئر» و«جدار أزرق»، مشيراً إلى أن القصيدة تبدو لديه مفعمة بعذابات شخص شديد الحزن، بالغ الرقة والرهافة، شخص بسيط ليست لدية أي قناعات أو آيديولوجيات، أو أفكار جاهزة، شخص شديد الالتصاق بذاته، بهواجسه، بأحلامه الصغيرة، وطموحاته التافهة والمريضة، ها هو يقول: «ليس لدي اعترافات/ ولا سلطة مطلقة/ لكنني حين أجهش في الليل/ أحس أن هذا الخراب مجرد شيء سقط مني».

ويعدُّ حسان أن أهم ما يميز إنتاج جمال القصاص قدرته على تفجير الشعر طوال الوقت في كل جملة وكل تركيب وكل كلمة، بحيث تتابع الانفجارات الشعرية على طول القصيدة، ومن ثم الديوان، فقصيدته لا تعتمد المباشرة أو المفارقة أو غيرها من جماليات قصيدة النثر في نسختها الأخيرة، وهي أيضا لا تقوم على إثارة القضايا الكبرى من خلال السعي وراء عوالم ميتافيزيقية، كما اقترحت النسخة الأولى من القصيدة على أيدي روادها، فالتركيبة السحرية التي جاء بها القصاص يمكن أن نصفها بالقدرة على الالتصاق بالذات الشعرية الصغيرة والهشة في محاولة لسبر أغوارها، وإظهار عذاباتها، لكن من خلال آليات جديدة، أو فلنقل آليات خاصة تحمل بصمة الشاعر التي يصعب تكرارها في قصائد غيره.

وتعليقاً على حصاد تلك الدورة من المؤتمر، يشير رئيس المؤتمر ومنسقه الشاعر عادل جلال إلى أن الأهداف لم تختلف عن الدورات السابقة، حيث لا يزال كسر مركزية وهيمنة مجموعة محددة على المشهد الشعري عموماً، وقصيدة الشعر الحر في مصر، هدفاً رئيسياً لم يتغير. ويضيف جلال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن من أهداف المؤتمر كذلك إتاحة الفرصة لأصوات جديدة من الشعراء للتعبير عن نفسها دون وصاية، وتسليط ضوء قوي على مواهب جديدة. ويشير عادل جلال إلى أن الخروج من القاهرة والانفتاح على بقية المدن والأقاليم لا يزال هدفاً مشروعاً، لكنه يحتاج إلى دعم كبير وتمويل سخي، وهو ما لا يتوفر حتى الآن.