عن الشتات والهجرة، ومحاولة لملمة ما تبقى من تراث الأجداد، في غبار حرب لم تنطفئ نيرانها بعد على الأرض السورية، تدور رواية «الكيميائي» للكاتب السوري المقيم في النمسا، ثائر الناشف، الصادرة عن دار «موازييك» للدراسات والنشر؛ فبطل الرواية سليمان صالح، وهو كيميائي سوري مقيم في فرنسا، يتحول إلى بطل إشكالي يعيش وعياً زائفاً بكل ما حوله، مدركاً أنّ تحت وطأة الواقع بكل تعقيداته ومفارقاته المأساوية، استحالة الوصول إلى معنى لأي شيء، فالحياة مجرد سباق بين الوهم والحقيقة، يتنافران ثم يختلطان، ويتحولان إلى لغز من ألغازها.
بطل أعزل لا سلاح في يديه سوى إيمانه بعدالة مسعاه، يخوض غمار رحلة قاسية للوصول إلى بلدة سلمى، مسقط رأسه، لجلب بعض المستندات والوثائق الخاصة بالعائلة لإنقاذ بيتها من الضياع، وزيارة قبري شقيقيه («خليل» و«زياد») اللذين لقيا حتفهما في الحرب. في غبار هذه الرحلة، وعلى مدار 17 فصلاً و166 صفحة، تحاصره الأخبار الملفقة التي تضخها آلة الإعلام كل يوم، ويراوده هاجس بعيد بأن أخويه ربما لا يزالان على قيد الحياة: «لا أستطيع أن أنسى ذكرياتي اللطيفة فيه، وليس بوسعي أن أتخيل ضياعه بسبب طيش المتصارعين عليه، ولا خيار أمامي إلا أن أقايض أولئك المحاربين على ما يبتغون لأنفسهم مقابل أن يتركوا المنزل، لأنني لا أريد أن أخسر معقل الطفولة من بعد خسارتي لأخويَّ». تتكشف هذه المقايضة عبر رسالة خاصة تلقاها من شخص يُدعى «إبراهيم أغا» يخبره فيها بمقتل أخويه، ويقايضه بالحفاظ على ممتلكات عائلته مقابل أن يقدم خدماته في تصنيع البارود، بغية نسف الجسور والحواجز العسكرية في منطقة الساحل.
بروح قلقة مسكونة باللهفة واللهاث لإنقاذ البيت يبدأ سليمان رحلته التي تتحول إلى فخ، يسقط فيه مرغماً، ومع كل خطوة يخطوها في طرق وأمكنة شائكة وعرة بغية الوصول إلى هدفه، يتسع الفخ ويصبح مرادفاً لكينونة مسلوبة الإرادة، يقف على أحد طرفيها سليمان من ناحية، وعلى الطرف الآخر تبدو صورة الوطن كمتاهة في مرايا مهشمة، في ظلالها وتحت وطأة الضغوط المباغتة التي تحاصره، يحس بأن مصيره شخصياً أصبح جزءاً من هذه المقايضة، فيتحول إلى «مُسعِف» يتولى رعاية الجرحى والمصابين المكدسين بإحدى البنايات، يسمع حكاياتهم وقصصهم الحزينة، التي تترك في نفسه ندوباً من الأسى والألم، وأنهم كانوا ينتظرونه على أمل الشفاء والعودة للحياة، ويهمس: «إن هذا المكان لا ينتمي إليَّ، ولا أنتمي إليه البتة؛ إنني أبدو كما لو كنتُ مهرجاً مهمتي الوحيدة أن أخلق أجواء من المرح والفكاهة، لأشيع الدماء في وجوههم الكالحة».
ورغم ذلك يظل عاجزاً عن كشف شخصيته الحقيقية بوصفه خبيراً كيميائياً، ولم يكد يغادر المكان ليعبر إلى سوريا متسللاً عبر الحدود التركية الشائكة، برفقة مجموعة من الأفراد تابعة لإبراهيم أغا، حتى أصبح صحافياً، عليه أن يدبج موضوعات مصوَّرة عما لحق بالوطن من خراب ودمار، وتصبح الكاميرا التي دبرها له أغا صكَّ اتهام بالتجسس، حين يقع هو وأفراد المجموعة في قبضة الشرطة (الجندارما) التركية. ومن ثم لا يبقى أمامه طريق للنجاة، سوى التحايل على واقع الحال والامتثال له، بما يفرزه من كوابيس وأوهام إلى حد التماهي معه، محولاً الفخ إلى قناع لضحية تتحين الفرصة للانتقام والثأر.
يتوازى غموض شخصية إبراهيم أغا، الذي يبدو طبيعياً، مع غموض آخر بدأ يتشكل بصورة أكثر حدة داخل شخصية سليمان، نتيجة لتقمصه أدواراً مفاجئة تحت قهر الضرورة والأمل في الوصول إلى قريته وإنجاز مهمته في الحفاظ على بيت العائلة، وميراث الأجداد، لكن يظل يؤرقه ما سيفعله مقابل ذلك. بهذا الإحساس يتأمل حياة حراس الحدود (الجندارما) بعد أن نجا من قبضتهم بجواز سفره الفرنسي، وكيف صاروا جزءاً من الوحدة والعزلة التي يفرضها المكان على تخوم الغابات: «لا أحد هنا سوى الجنود؛ فلو أعطوهم حق الاختيار، لاختاروا البقاء في بيوتهم وبين أحضان أمهاتهم، لا بد أنهم عانوا من الوحدة في البداية، لكنهم سرعان ما اكتسبوا الصبر بفعل قسوة الظروف، فالصبر عندهم لا حدود له، كما أن الهدوء وسط الطبيعة، رغم إنعاشه للروح، لا يفتأ يعزز مشاعر العزلة والضياع في الأرواح».
لا يأتي هذا المشهد كمقوم وصفي للطبيعة، ضمن آليات السرد للمكان التي تتنوع في الرواية، وتنعكس على اللحظات الإنسانية الخاطفة برذاذها العاطفي المخاتل، مثل لقاء سليمان وحبيبته رشا بالصدفة في محيط المطار وهو يهم بالسفر، وإنما تتجاوزه ليصبح أداة للكشف عما يدور داخل البطل من هواجس، وهو يعبر المشهد بكل تفاصيله، بينما تتناثر جملة «حق الاختيار» في ثنايا الحوار بشكل عابر دلالةً على حرية مفتقدة في وطن مضطرب، فيصحو صوته الداخلي فزعاً، متخيلاً النيران التي ستندلع لو قام بتفجير الجسر: «كم رجلاً سأقتل في الانفجار، وكم عيناً ستدمع حزناً وكمداً على رحيل أعز الأحباب والأصحاب».
يعزز ذلك حالة من الشك المضني تظل تحاصر البطل الكيميائي في صحوه ومنامه، وتنعكس على وجوه مرافقيه الذين يتبدلون من محطة لأخرى يقطعها معهم سيراً على الأقدام وسط الأحراش والغابات، حتى يصل إلى بيته ومسقط رأسه، فتتسع دائرة الشك، ويصبح الواقع الماثل للعيان مجرد صورة مشوشة يصنعها خيال مأزوم إلى حد المرض، حيث يُفاجأ بأنه مكلف مهمة جديدة، وأن بيته الذي استولى عليه إبراهيم أغا بحجة حمايته تحول إلى مستودع لتصنيع الحشيش والخشاش، والكل ينتظره لإنجاز المهمة، بوصفه كيمائياً ضالعاً في صناعة الدواء.
لكنه يفقد الثقة في كل شيء حوله، في «مها» المرأة المكلفة رعايته وإطعامه، وتأكيدها له أن شقيقيه أحياء، ومحتجزان في مكان قريب، وهو ما أصبح حقيقة بالفعل، على عكس رواية ابنتها «ريم» التي وقعت في حبه لأنه يشبه شقيقه زياد حبيبها المغدور. في داخل دوائر هذه الحيرة يفكر في صناعة قنبلة ونسف البيت: «سأحضر كل شيء بنفسي، سأنسف هذا البيت المغتصب من دعاماته الإسمنتية الصلبة، لأجعله يخر في ضربة واحدة، فلا حاجة لي به بعد اليوم. أما أخواي، فسأبحث أمرهما في وقت لاحق»، ثم تأتي لحظة التنوير في الرواية، لتصنع بتراتب منطقي نوعاً من التصالح المتوقع بين كل هذه العناصر المتصارعة، يتوج هذا التصالح بمواجهة صريحة، حيث يخلع إبراهيم أغا قناعه، ويكتشف البطل الكيميائي أنه معاذ ابن خالته، وأنه هو الذي خطَّط لهذه الرحلة ليجبره على التنازل عن البيت ليستولي عليه بشكل قانوني، وظل متخفياً عنه تجنباً لهذه المواجهة.
لقد صنع المؤلف في هذه الرواية بطلاً إشكالياً بامتياز، لكنه أحكم قبضته عليه، ووضعه في سياقات سردية يغلب عليها الطابع النمطي التقليدي، اتسعت فيها المسافة بين السارد (الكاتب) والمسرود عنه (البطل)، فأصبحنا إزاء شخصية قلما تنمو درامياً بشكل طبيعي، بقدر ما تجتر أحزانها، وتتخيل الحياة مجرد سراب ووهم، ورغم ما مرَّ به من وقائع وأحداث قاسية وصادمة، فإن الوعي بالصدمة لم يبرح منطقة الوهم، وينتج وعياً مفارقاً لها على مستوى اللغة والحكي، وطرائق التشكيل... يبقى للكاتب أنه رأى وكتب ما رآه وعاشه بالفعل، قبل أن يغادر وطنه قسراً، وينتهي به الحال للإقامة في النمسا.