اللغة العربية لا تعرف الخوف

لا بد من الانفتاح على اللغات الأخرى ضمن قواعد وضوابط واضحة

مخطوطة للفنان التونسي كريم جباري
مخطوطة للفنان التونسي كريم جباري
TT

اللغة العربية لا تعرف الخوف

مخطوطة للفنان التونسي كريم جباري
مخطوطة للفنان التونسي كريم جباري

كان الانفتاح القرآني مثالاً يُحْتذى من كل اللغويين الذين جمعوا الكلمات والتعابير والمصطلحات في المعاجم

من المعروف لدى جميع العاملين والمشتغلين في حقل اللغات، أن أي لغة لا يستخدمها الناطقون بها، وتفتح أبوابها ونوافذها على اللغات الأخرى، هي لغة تدخل إلى مستنقع الجمود، وبالتالي إلى غرف الموت والاندثار. وأن اللغة التي تخاف هي لغة حكمت على نفسها بالموت. ومما لا يخفى على أحد، أن اللغة العربية كانت عبر تاريخها وما زالت من أكثر اللغات انفتاحاً على كل لغات العالم، وذلك بحكم الموقع الجغرافي للبلاد العربية كمركز محوري أساس بين الشرق والغرب اقتصادياً واستراتيجياً، ولما منحه لها الإسلام من مكانة، وإلا ما كان ليتجاوز عدد كلمات قاموس العربية اثني عشرة مليون كلمة.

وليس أدل على ذلك الانفتاح من أن القرآن الكريم الذي وصفه الباري سبحانه بقوله: (قرآناً عربياً غير ذي عوج). قد حوت سوره عبارات غير عربية في الأساس، ولكنها تعربت بفضل ذلك، ودخلت معجم العربية، بينما هي في الأساس يونانية وأمهرية وسريانية وآرامية وعبرية وفارسية وغيرها من اللغات القديمة التي كانت معروفة في فترة نزول القرآن الكريم، وهذا مما لا يخفى على أحد من الباحثين في مجال اللغويات، ولا يشكّل ضيراً بالنسبة لأي عربي، أو مسلم على الإطلاق. بل هو مجال فخر واعتزاز، وخير دليل على انفتاح اللغة العربية وعالميتها كلغة تواصل وتخاطب وعلم وثقافة...

وقد كان هذا الانفتاح القرآني مثالا يُحْتذى من كل اللغويين الذين جمعوا الكلمات والتعابير والمصطلحات في المعاجم، وضمُّوا إليها غيرها، فكان القاموس العربي وعلى مر العصور يتطور شيئاً فشيئاً، ويزداد رصيده، وتعاد كتابته في كل مرة، بعد أن تضاف إليه مجموعة من العبارات والكلمات التي كان يجري تعريبها، إمّا بزيادة أو نقصان في المبنى، أو أنها تبقى كما هي، ولكن تُكتب بأحرف عربية مع اختلاف في النطق... وهكذا دخل القاموس العربي كثير من الألفاظ والعبارات الفارسية والهندية ومن بعدها مفردات أيوبية ومملوكية، أفرد لها بعض اللغويين قاموساً خاصاً بكلماتها وتعابيرها. وها نحن أولاء اليوم، نرى أن لغتنا العربية الفصحى والعامية، ما زالت مشبعة بكلمات وعبارات تركية، إن كان في مجتمعات المشرق العربي، أو في مغربه...

فالقاموس العربي اليوم مليء بكلمات ومصطلحات غير عربية، ومع ذلك لم نرَ لغوياً واحداً ممن سبقونا، رفض استخدامها، ولكن أشار إليها في كتبه، ووضّح معانيها، واستخداماتها، وأحوالها، وقد تتابع ذلك من دون انقطاع. ومن وقت غير بعيد أوجد الأديب اللغوي أحمد فارس الشدياق مرادفاً عربياً أصيلاً لكثير من المصطلحات، منها على سبيل المثال مصطلح Socialisme فترجمه إلى «الاشتراكية»، وذلك من قبل أن يعرف بعض الأنظمة العربية الاشتراكية وتتبناها، ومن ثم تمّت ترجمة مصطلح Laïcité إلى «العلمانية»، بينما عرَّبه بعض دول المغرب العربي بـ«اللائكية». إلا أن بعضهم قد توقف عند بعض المفردات مثل «برميل»، الدخيلة على العربية وقاموسها، والتي كَثُر استخدامها في الصحف ووسائل الإعلام، بعد أن غدت وحدة قياس عالمية للنفط وأسعاره، وهو ما لم يعجب كثيرين من الباحثين في حقل اللغة الذين تخطاهم الزمن، فاعترضوا على ذلك في حينه، مقترحين الإبقاء على استخدام لفظة «الدَّن» بدلاً من برميل. غير أن هذا المصطلح ما لبث أن أخذ مكانه في اللغة العربية والشعر العربي، بعد أن استخدمه الشاعر نزار قباني وآخرون من معاصريه، وشاع استخدامه على كل الأصعدة...

نحن اليوم أمام مجتمعات عربية، ووسائل إعلام مختلفة بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي... تختار مصطلحاتها وتعابيرها بحرّية، من دون أي تحفظ ولا قواعد، بينما تعيش مجموعة من اللغويين في غرف مغلقة، يراوحون في أماكنهم، ويكررون نفس البحوث والدراسات، ويتمسكون بالماضي وبما يسمونها «أصالة»، ويدّعون خوفاً على لغة، هي نفسها ما كانت يوماً لتخاف، وما كانت لتعرف الانغلاق على نفسها. لغة عربية كانت عبر تاريخها تفتح نوافذها على كل اللغات المحيطة بها، والبعيدة عنها، وبلا أي تحفظ، فلقّحت وتلاقحت مع اللغات الأخرى، فأخذت منها، وأعطتها، وأثّرت، وتأثّرت، وهو مما لا يحتاج إلى برهان... لأن أي لغة من اللغات الحية، ليست عبارة عن قوالب باطون جامدة صمّاء، بل هي مليئة بالحياة، تشبه الناطقين بها، وتسكن تعابيرها وألفاظها أرواح مستخدميها. إننا اليوم أمام فريقين من علماء اللغة، فريق يكتب وينادي بتطوير اللغة العربية، وإلباسها ثوباً جديداً، ولكن من دون أن يحدد الكيفية والسبل والخطط للوصول إلى ذلك التطوير المنشود، وعندما يكتب عن ذلك، فإنه يكتب من منظور غربي استشراقي، مع العلم أن مدرسة الاستشراق قد أغلقت أبواب مدارسها منذ زمن. وآخر يتباكى على ضياع اللغة العربية واندثارها، من دون أن يقدم مشروعاً واضح المعالم في كيفية المحافظة عليها. وفي النتيجة، فإن معظم الذين يكتبون عن اللغة العربية من الفريقين، لم يقدموا لهذه اللغة خدمات تُذكر في صحائف التاريخ اللغوي، وعلى كل المستويات. هذا في الوقت الذي تسير فيه قافلة تطور اللغة بسرعة كبيرة، ومن دون ضوابط واضحة، وبالأخص بعد عصر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي. ومن هنا، فإن على علماء اللغة اليوم اللحاق بذلك القطار وبنفس السرعة، لأن الزمن لا ولن ينتظر المتخلفين عن اللحاق بالركب. وأنه لا بد من الانفتاح على اللغات المختلفة الأخرى، ضمن قواعد وأسس وضوابط واضحة، وإعادة كتابة القاموس العربي، الذي أصبح بحاجة حتماً إلى التجديد، لكي يستوعب في صفحاته الجديد من المصطلحات والتعابير.

* باحث لبناني



شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
TT

شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

كتابان صدرا حديثاً – أحدهما في هذا العام - عن وليم شكسبير (1616 - 1564) ومتى كان الحديث ينقطع عن شاعر الإنجليزية – بل شاعر الإنسانية - الأكبر؟ كلا الكتابين من تأليف امرأة، وكلاهما عن شكسبير والنساء. ولكن الطرق تنشعب بهما بعد ذلك. فأحد الكتابين – على إسهابه - لا يكاد يقول شيئاً مقنعاً. والكتاب الآخر - على إيجازه - يضيف جديداً إلى موضوعه. الأول أقرب إلى الإثارة الصحافية والآخر بحث أكاديمي رصين.

أمّا الكتاب الصادر في هذا العام 2024 فهو «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

Shakespeare was a woman and other Heresies

من تأليف إليزابيث وينكلر

Elizabeth Winkler

وهي ناقدة وصحافية أميركية. والكتاب صادر عن دار نشر «سيمون شوستر» في نيويورك في أكثر من 400 صفحة.

ترمي المؤلفة - بحسب قولها - إلى «إماطة اللثام عن بعض الأساطير المتعلقة باسم شكسبير وإدانة مَن يقبلون نسبة أعمال شكسبير إليه دون فحص ولا تدقيق ورفض لعبادة الشاعر في الأوساط الأكاديمية وكأنه وثن مقدس لا يمس».

ودعوى المؤلفة - كما هو واضح من عنوان الكتاب - أن شكسبير ليس مؤلف المسرحيات والقصائد القصصية والسوناتات (154 سوناتة) التي تنسب إليه وإنما مؤلفها امرأة جرت التغطية على هويتها الأنثوية لأسباب مختلفة. قديماً أنكر البعض أن يكون لشكسبير ذاته وجود تاريخي، والآن تنكر وينكلر عليه أن يكون مؤلف المآسي والملاهي والمسرحيات التاريخية التي ارتبطت باسمه منذ القرن السادس عشر.

ما البراهين التي تستند إليها إليزابيث وينكلر تأييداً لدعواها؟ يمكن تلخيص حججها فيما يلي: (أولاً) لم تصل إلينا أي مسرحية بخط شكسبير (ثانياً) كان العصر بقيمه الأبوية لا يسيغ أن تكون المرأة كاتبة أو أن تخرج إلى الفضاء العام ومن ثم كان كثير من النساء الموهوبات ينشرن أعمالهن بلا توقيع أو تحت اسم ذكري مستعار (ثالثاً) نحن نعرف أن شكسبير لم يغادر حدود بلده إنجلترا قط فمن أين تسنى له أن يدير أحداث مسرحياته في بلدان ومدن أجنبية مثل أثينا وروما والبندقية وفيرونا والدنمارك وصور والإسكندرية (رابعاً) لم تثر وفاة شكسبير في 1616 اهتماماً يذكر بين معاصريه مما يبعث على الشك في أنه كان مؤلفاً مرموقاً.

غلاف «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

والواقع أن وينكلر ليست أول مَن يشكك في نسبة مسرحيات شكسبير إليه فقد عبّر عن هذه الشكوك قبلها آخرون. ويتذكر المرء في هذا المقام أن الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتابها المسمى «غرفة خاصة» (1929) – وهو مثل كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» (1949) من الأعمال المؤسسة للنقد النسوي في القرن الماضي - راحت تتخيل أنه ربما كانت لوليم شكسبير شقيقة تعادله نبوغاً وعبقرية. ولكن ظروف عصرها واستبداد الرجال بالنساء لم تتح لموهبتها النمو والازدهار وتركتها ملقاة في منطقة الظل على حين حظي أخوها وليم – لأنه ذكر - بالنجاح المادي وذيوع الصيت عبر الأجيال.

على أن وينكلر تكتفي بإثارة الشكوك حول تأليف شكسبير لأعماله دون أن تقدم أي بديل واضح معزز بالأسانيد الموثقة لمؤلفها الحقيقي. وتذكر على سبيل التخمين لا الجزم أن أعمال شكسبير ربما كانت من تأليف إميليا باسانو وهي معاصرة لشكسبير ومؤلفة ديوان شعري واحد ظهر أثناء حياتها.

وخلاصة ما تقوله وينكلر أن مسرحيات شكسبير «ثقب أسود» مجهول وأن اعتبارات شتى - قومية وإمبراطورية ودينية وأسطورية وجنوسية وطبقية - تكمن وراء نسبة هذه المسرحيات إليه.

وقد قوبلت آراء وينكلر هذه بالرفض من كبار دارسي شكسبير في عصرنا مثل ستانلي ويلز وجوناثان بيت وجيمس شابيرو.

وعلى النقيض من كتاب وينكلر يقف كتاب «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

Shakespeare's Visionary Women

من تأليف لورا جين رايت

Laura Jayne Wright

وهو كتيب صغير الحجم (86 صفحة) صدر عن مطبعة جامعة كمبردج يستوفي جميع شرائط البحث العلمي المتزن الرصين.

موضوع الكتاب شخصيات شكسبير النسائية التي تملك بصيرة نافذة وتستطيع أن تتنبأ بالمستقبل وما هو آتٍ (مثل زرقاء اليمامة في تراثنا). من هذه الشخصيات كاسندرا في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» وهي امرأة إغريقية (ابنة بريام ملك طروادة) منحها الرب أبولو ملكة القدرة على التنبؤ. وحين رفضت أن تستجيب لمحاولات أبولو الغرامية عاقبها بأن جعل كل الناس لا يصدقون نبوءاتها. وقد لقيت مصرعها بعد سقوط طروادة في أيدي الإغريق.

وهناك كالبورنيا في مسرحية «يوليوس قيصر» وقد رأت فيما يرى النائم حلماً منذراً بالشؤم وحاولت ثني قيصر عن التوجه إلى مجلس الشيوخ في منتصف مارس (آذار) 44 ق. م. ولكنه استخف بكلامها «إفراطاً في الثقة بنفسه» ومن ثم كان مصرعه على سلالم الكابيتول في روما بخناجر كاسيوس وبروتس وسائر المتآمرين.

وهناك الليدي مكبث التي تولاها شعور غامر بالذنب بعد أن حرضت زوجها القائد مكبث على قتل الملك دنكان واغتصاب عرشه فاضطربت قواها العقلية وصارت تسير في نومها وتهذي. ولكن مكبث لا يعير هذه المخاوف اهتماماً ويمضي في طريقه الدموي حتى النهاية المحتومة فيلقى مصرعه في مبارزة مع ماكدوف.

وهناك جان دارك «عذراء أورليان» في الجزء الأول من مسرحية «هنري السادس». وكانت في نظر الفرنسيين بطلة أشبه بـ«نبية من أنبياء الكتاب المقدس» وفي نظر الإنجليز أشبه بـ«الشياطين والساحرات» مستوجبات الحرق وقد كان.

وتبقى حقيقة مؤداها أن كتاب رايت إبراز للدور المهم الذي تلعبه المرأة في مسرحيات شكسبير (لرجاء النقاش كتاب سطحي متواضع القيمة عن بطلات شكسبير). إن كتاب وينكلر – مهما يكن من مآخذنا عليه - دعوة إلى إعادة النظر في المسلمات. والكتابان - من هذه الزاوية – عملان مفيدان يحثان القارئ على فحص أفكاره المسبقة وعلى رؤية الأمور من منظور جديد.