هل يجوز لنا أن نسوّغ العنف فلسفيّاً؟

صراعات الناس لا سيّما الحضاريّة منها لم تنبعث من الخواء

مانديلا
مانديلا
TT

هل يجوز لنا أن نسوّغ العنف فلسفيّاً؟

مانديلا
مانديلا

في أغلب الحروب التي أدمت وعيَ البشريّة في القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين يدّعي المتحاربون أنّهم يحاربون من أجل أسمى القضايا وأشرف القيَم. أشدُّ الحجج تأثيراً تلك التي تقترن بالهويّة الجماعيّة، وفي طليعتها صونُ الأرض، وحمايةُ العرض، والدفاعُ عن وجود الجماعة، والذودُ عن الدِّين. أمّا الحجج الأضعف فتلك التي تتعلّق بشرعيّة المصالح، وضرورات التوسّع، ومقتضيات الازدهار. ليس غريباً عن وضعيّتنا البشريّة الاقتتالُ في سبيل إعلاء الذات الجماعيّة، سواء على مستوى القضايا المقترنة بالهويّة الجماعيّة، أو على مستوى المسائل المرتبطة بشرعيّة المصالح. غير أنّ السؤال الذي ينبغي أن نطرحه في مثل الأوضاع المأسَويّة هذه ينبثق من ضرورة التفكّر الهادئ في مسألة العنف: هل يجوز لنا أن نسوّغ العنف تسويغاً فلسفيّاً يجعلنا نرضى به سبيلاً وحيداً إلى فضّ الخلافات ومعالجة الاختلالات وتقويم الاعوجاجات وتهذيب أهواء النفس الغضبيّة الفرديّة والجماعيّة؟

تقاتل الناسُ في القديم من الأزمنة، وما برحوا يتقاتلون حتّى اليوم، وفي ظنّهم أنّ الاحتراب السبيلُ الوحيدُ الذي يُنقذ الكرامة الإنسانيّة ويفرض العدالة الكونيّة فرضاً مطلقاً. بيد أنّنا ندرك جميعاً في قرارة أنفسنا أنّ العنف لا يولّد سوى العنف. إن بعض الفلاسفة، وفي طليعتهم الفيلسوف الإغريقيّ هيراقليطُس الأفسُسيّ (القرن السادس قبل المسيح) عاينوا الاحترابيّة (polemos) في جميع مظاهر الحياة. فتصوّروا الوجودَ كلَّه مفطوراً على التصارع، وعاينوا في التناقض المضطرم انبعاثاً جديداً وبركةً كونيّةً تُعزّز فينا النموّ والابتكار والازدهار. كذلك سار على هذا النهج فلاسفةٌ معاصرون من أبرزهم هيغل (1770-1831) الذي جدل الواقعَ كلَّه جدلاً تشابكيّاً حيويّاً، فتَصوّر الكائنات كلَّها في تقابلٍ وتعارضٍ وتواجهٍ يُفضي إلى استيلاد أعظم الأمور فرادةً وتألّقاً وسموّاً.

لا أعتقد أنّ العنف الذي تناوله الفلاسفة على هذا النحو يشبه العنف الذي يرتكبه أهلُ الأرض حين يتقاتلون تقاتلَ الإفناء العبثيّ المقيت. بين عنف التناقض الخلّاق وعنف الاحتراب المهلِك بونٌ شاسعٌ أو مسافةٌ ضوئيّةٌ لا يجوز الاستخفاف بها. ذلك أنّ الاختلاف الشرعيّ بين الكائنات الإنسانيّة قد يُفضي إلى بعضٍ من التكامليّة المثمِرة. أمّا الخلافات الجسيمة التي تنبثق من تشنّجات الهويّة الجماعيّة وتضارب المصالح المنفعيّة، فتعيث في الأرض فساداً وإهلاكاً. لذلك آن الأوان لكي نتدبّر مظاهر العنف الاحترابيّ هذا تدبّراً عاقلاً يتيح لنا أن نستدلّ على مناهجَ أخرى من معالجة الخلافات الحادّة التي تنجم عن الواقع الجيوثقافيّ والجيوسياسيّ والجيواقتصاديّ الراهن.

لن أدخل في متاهات التنظير الآيديولوجيّ الذي يرسم خريطة الأرض رسماً استبداديّاً يعزّز لكلّ ذاتٍ جماعيّةٍ منعتَها وحقوقَها ومصالحَها الخاصّة، ويحرم الذات الجماعيّة الأخرى من أدنى مقوِّمات العيش الكريم. أصابتنا مثل هذه المحَن في القديم من الزمان، وما برحت تُصيبنا اليوم في جميع بقاع الأرض. قد يكون الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ من أخطر الأدلّة على انعدام سبيل المباحثة العقلانيّة الهادئة واستفحال النهج العنفيّ الإباديّ. ولكن إذا نظرنا في مسار الصراعات العالميّة، تَبيَّن لنا أنّ العنف غالباً ما يسبق التحاور والتفاوض والتسالم الرزين المبنيّ على الحكمة والعدالة. ومن ثمّ، يجدر بنا أن نناصر طريق الحكمة العقلانيّة قبل أن نؤيّد العنف الإهلاكيّ. حين يبلغ الظلم أشدّه في بعض الأوضاع، يُزيَّن لبعض الناس أنّ الحلّ الوحيد الاحترابُ الإفنائيُّ حتّى يخضع الظالمون، ويرتدع المعتدون، ويتوب الضالّون.

غاندي

غير أنّ صراعات الناس، لا سيّما الحضاريّة منها، لم تنبعث من الخواء الزمنيّ والصفاء التاريخيّ. ثمّة أخطاء جسيمة وارتكابات مشينة وانتهاكات مقزّزة تغاضى عنها حكماءُ المسكونة، فأفضت بنا إلى الانحرافات والمظالم والأوبئة الأخلاقيّة المستشرية. إذا ثَبت أنّ الحروب لم تحلّ المشكلات العالقة، وأنّ العنف أذلَّ الناس المتحاربين إذلالاً كيانيّاً، وأنّ كلَّ صراعٍ سيُفضي عاجلاً أم آجلاً إلى الاسترخاء والتهادن والتفاوض والتبادل والتسالم، ولو في حدود المقدار التفاعليّ الحضاريّ الأدنى، فلماذا يستميت الناسُ في الاقتتال العبثيّ؟ ولماذا يهيّجون النفوس من أجل معاداة الآخرين وتكفيرهم وإسقاط كرامتهم الإنسانيّة اللصيقة بماهيّتهم الأصليّة؟ ولماذا نواظب على تسويغ شرعيّتنا الاستبداديّة بواسطة تأجيج التناقض المميت وإدامة الصراع المهلك وتأبيد الحقد الحضاريّ؟

أعتصم بالاستفسارات الفلسفيّة الجذريّة هذه، وأنا على يقينٍ من أنّ الأجوبة عسيرةُ المنال، إذ إنّنا نُتقن فنَّ التقيّة والتورية والحجب والإخفاء حتّى نُظهر ما لا نُضمر، ونُعلن ما لسنا به مقتنعين. أقولها بصراحةٍ وشفافيّةٍ: ما الأفضل والأجدى والأرقى؟ أن نكافح كفاحَ المقاومة اللاعنفيّة التي تستلهم قيَم الروح الإنسانيّ السامية، على طريقة غاندي ونيلسون مانديلا وأطفال انتفاضة الحجارة الفلسطينيّين؟ أم أن يَفني بعضنا بعضاً على نهج الإبادة العبثيّة التي تُزهق الكيان الإنسانيّ وتُفسد الحياة وتُعدم الرجاء الحضاريّ الكونيّ؟ هل يعتقد الناسُ حقّاً أنّ الرصاصة أشدُّ وقعاً في مسار التوبة الروحيّة الإنسانيّة من وداعة الاعتصام السلميّ وعزيمة الاحتجاج الفكريّ وحكمة المقاومة الثقافيّة الصابرة؟

لستُ على البراءة الساذجة التي تجعلني أنتظر ثمارَ النهج الاعتراضيّ السلميّ منذ المظاهرة الاحتجاجيّة الشارعيّة الجماعيّة الأولى. ولكنّ خبرة الحياة علّمتنا جميعاً أنّ ضحايا الاقتتال العبثيّ يُدفنون في تربة العقم الحضاريّ، في حين أنّ شهداء المقاومة السلميّة يُزرعون زرعاً في وعي البشريّة ويُثمرون رقيّاً بهيّاً في تضاعيف الزمن الآتي. ما دام الناس سيموتون موتاً من أجل الدفاع عن قضاياهم العادلة، فلماذا الموت العبثيّ؟ ولماذا الاقتتال الإفنائيّ الذي يُفسد الحسَّ الإنسانيَّ الحضاريَّ في المعسكرَين معاً؟ إذا كان لا بدّ من الموت بسببٍ من تعنّت الظالم، فليَمت الإنسانُ شهيدَ المقاومة السلميّة التي تهيّئ للناس أرقى سبُل التسالم الكونيّ المقبِل. أمّا موتُ الاقتتال الحاقد فلا يُفضي إلّا إلى تفاقم الاحتراب الإهلاكيّ.

لا سبيل إلى الانعتاق من حروب الهويّات المتشنّجة والمصالح المتضاربة إلّا بواسطة الارتداد الكيانيّ إلى فلسفة اللاعنف التي نادى بها عقلاءُ الأرض وحكماؤها، ومنهم الفيلسوف الفرنسيّ جان-ماري مُلِر (1939-2021) الذي ناصر نهج غاندي السلميّ، وبنى نظريّةً فلسفيّةً متناسقةً متكاملةً في تأصيل اللاعنف على جميع مستويات الحياة الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة، وأنشأ معهد البحث في حلّ الصراعات اللاعنفيّ (Institut de recherche sur la résolution non-violente des conflits)، وشارك في إنشاء المجلس العالميّ المشرف على أوّل جامعةٍ تُعنى بتدريس اللاعنف في العالم، ومركزها الأساسيّ في لبنان. في عرفه أنّ حكمة الحضارات الإنسانيّة تختزن كنوزاً لا ثمن لها من المبادئ والقيَم والمناهج والسبُل والخطط التي نستطيع أن نستثمرها في فضِّ أعتى الخلافات الكونيّة استعصاءً على الحلّ السلميّ.

وعليه، أعتقد أنّه من واجبنا أن نبحث بحثاً هادئاً عن الطريق السلميّ اللاعنفيّ الأمثل الذي يُفضي بنا إلى التفاوض الحازم من أجل فكّ عقَد التاريخ، وشفاء الوعي الجماعيّ الشقيّ من أسقامه الآيديولوجيّة المتراكمة. في مطلق الأحوال، يبقى التسالم الودود والتفاوض المستمرّ والتعاون الصادق من أفضل السبُل التي تتيح لنا أن نتوب عن معاصينا، ونهذّب أخلاقيّاتنا، ونصيب خصمنا بالعدوى الروحيّة الصالحة، ونرتقي معاً في معارج النضج الفرديّ والجماعيّ. حتّى لو لم نحصل كلُّنا على جميع المطالب التي نَعدّها من صميم حقّنا الحضاريّ الأسمى، فإنّ التسالم الراقي الذي نختبره مع خصمنا يفعل فيه فعلَه الاختماريّ البطيء حتّى يرتدّ ارتداداً جميلاً إلى سبيل المعيّة الحضاريّة البهيّة. ليس الزمن المتباطئ بالمعثرة المانعة، إذ إنّه من الأفضل لنا أن نطوي الأيّام مقاومين مقاومةً سلميّةً في سبيل ارتداد خصمنا الظالم، عوضاً عن ضياع الزمن عينه في احترابٍ إفنائيٍّ عبثيٍّ يُفسِد فينا جوهرَ إنسانيّتنا.



آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
TT

آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)

كشف المستشار تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية، الأربعاء، عن أعضاء لجنة «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، والتي تهدف إلى إثراء صناعة السينما بالمنطقة، ودعم المواهب الإبداعية في كتابة الرواية من جميع الجنسيات والأعمار.
وتَشكَّلت لجنة الجائزة من أعضاء يملكون خبرات واسعة في مجالات الأدب، والكتابة السينمائية، والإنتاج والإخراج السينمائي، حيث جاءت برئاسة الأديب والروائي السعودي الدكتور سعد البازعي، والروائي والمترجم والسيناريست السعودي عبد الله بن بخيت نائباً له.

وتضم اللجنة في عضويتها كلاً من الكاتب والروائي السعودي عبده خال، والروائي الكويتي سعود السنعوسي، والروائي المصري أحمد مراد، والروائية السعودية الدكتورة بدرية البشر، والكاتب والسيناريست السعودي مفرج المجفل، والكاتب والسيناريست المصري صلاح الجهيني، والناقد السينمائي المصري طارق الشناوي، والسيناريست المصري شريف نجيب، والخبير عدنان كيال مستشار مجلس إدارة هيئة الترفيه، وكاتبة السيناريو المصرية مريم نعوم، والمخرج المصري محمد خضير، والمنتج السينمائي المصري أحمد بدوي، والمخرج المصري خيري بشارة، والمنتج اللبناني صادق الصباح، والمخرج السينمائي المصري مروان حامد، والمخرج والمنتج السينمائي السعودي عبد الإله القرشي، والكاتب والسيناريست المسرحي السعودي ياسر مدخلي، والكاتب والروائي المصري تامر إبراهيم.

وتركز الجائزة على الروايات الأكثر جماهيرية وقابلية لتحويلها إلى أعمال سينمائية، مقسمة على مجموعة مسارات؛ أبرزها مسار «الجوائز الكبرى»، حيث ستُحوَّل الروايتان الفائزتان بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين، ويُمْنح صاحب المركز الأول مبلغ 100 ألف دولار، والثاني 50 ألف دولار، والثالث 30 ألف دولار.

ويشمل مسار «الرواية» فئات عدة، هي أفضل روايات «تشويق وإثارة» و«كوميدية» و«غموض وجريمة»، و«فانتازيا» و«رعب» و«تاريخية»، و«رومانسية» و«واقعية»، حيث يحصل المركز الأول على مبلغ 25 ألف دولار عن كل فئة بإجمالي 200 ألف دولار لكل الفئات.
وسيحوّل مسار «أفضل سيناريو مقدم من عمل أدبي» العملين الفائزين بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين سينمائيين مع مبلغ 100 ألف دولار للأول، و50 ألف دولار للثاني، و30 ألف دولار للثالث.
وتتضمن المسابقة جوائز إضافية أخرى، حيث سيحصل أفضل عمل روائي مترجم على جائزة قدرها 100 ألف دولار، وأفضل ناشر عربي 50 ألف دولار، بينما يُمنح الفائز «جائزة الجمهور» مبلغ 30 ألف دولار، وذلك بالتصويت عبر المنصة الإلكترونية المخصصة.