كويت الثقافة: من «العربي» إلى الوطن العربي

جاء كثيرون إليها ليجدوا أنهم في بيئة غنية بالفكر والعلم والأدب والفنون

من اليمين د. عائشة المحمود نائبة رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب  ود. محمد الجسار رئيس المجلس، وسعد البازعي،
والكاتب الكويتي طالب الرفاعي.
من اليمين د. عائشة المحمود نائبة رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ود. محمد الجسار رئيس المجلس، وسعد البازعي، والكاتب الكويتي طالب الرفاعي.
TT

كويت الثقافة: من «العربي» إلى الوطن العربي

من اليمين د. عائشة المحمود نائبة رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب  ود. محمد الجسار رئيس المجلس، وسعد البازعي،
والكاتب الكويتي طالب الرفاعي.
من اليمين د. عائشة المحمود نائبة رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ود. محمد الجسار رئيس المجلس، وسعد البازعي، والكاتب الكويتي طالب الرفاعي.

كنتُ في الثالثة الإعدادية على ما أذكر حين وقع بين يدي ذلك العدد من مجلة «العربي». كنتُ في مدينة سكاكا بمنطقة الجوف شمال السعودية، في مكتبة عامة رائدة، أظنها الأولى من نوعها. ومن المؤكد أنها من أولى المكتبات العامة التي تُفتح لعامة القراء على مستوى المملكة. كان ذلك في أواخر السبعينات من القرن الماضي، حين افتتح المكتبة أمير المنطقة آنذاك، عبد الرحمن السديري (رحمه الله)، وكانت أعداد «العربي» من أبرز مقتنيات المكتبة. شاهدتُ كتاب «الأغاني» للمرة الأولى ومعاجم وكتباً أخرى كثيرة، لكن «العربي» شدتني بصورها وألوانها، ووقعت عيني أثناء التصفح على مقالة للكاتب السوري وليد إخلاصي على ما أذكر تناولت «شعراء البحيرة»، وهم الشعراء الإنجليز الذين عاشوا في منطقة البحيرات شمال غربي لندن، واشتهروا بالرومانسيين في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر: وردزورث، كوليرج، وسذي. شدتني ترجمة لإحدى قصائد وردزورث عنوانها «نحن سبعة». علقت بذهني، ثم استبطنتها فيما يبدو، لتعاود الظهور بعد سنوات وأنا أقف حائراً أمام خياري التخصص الجامعي الممكنين بالنسبة لي: اللغة العربية أو الإنجليزية، أدب لغتي أم أدب لغة الأجانب. اخترت الأخير معتقداً أن أدب لغتي سيكون ميسوراً بحكم الانتماء، فكان ما كان وتابعت الدراسة حتى عدت لأدرّس للطلاب وردزورث وكوليرج وغيرهما، وأن أختار باستمرار قصيدة قرأت ترجمتها قبل سنوات في مجلة «العربي»؛ قصيدة «نحن سبعة» لوردزورث.

كانت «العربي» منعطفاً في مطلع ذلك التبلور لاهتمام وحقل تخصص استمرّا حتى اليوم.

ومع «العربي» كانت الكويت التي ثقَّفت مجلتها الرائدة ملايين الشبان والشابات العرب وغيرهم من مختلف الأعمار والاهتمامات. علمت فيما بعد أن للكويت إضافات أخرى كثيرة تتجاوز المجلة العتيدة إلى إنجازات كبرى في تاريخ الثقافة العربية. عرفت أن هناك سلسلة عظيمة، هي «عالم المعرفة»، وأن هناك مجلة فصلية مهمة هي «عالم الفكر» وأن هناك وهناك الكثير غير ذلك. ولم تنقطع الصلة بالكويت منذ الثمانينات لتتوثق أكثر بعد تحرُّر ذلك البلد العربي في التسعينات، وتتواصل حتى يومنا هذا؛ يومنا الذي عدت فيه أحمل امتناناً عميقاً لأهلي وبلدي الثاني حين حللت ضيفاً على «معرض الكويت الدولي للكتاب» بصفتي ضيف المعرض، أو شخصية المعرض، كما جرت التسمية.

شعرت بتواصل المدينية، ليس تواصلها فحسب بل وتعمق الإحساس بها، بما أدين به لبلد تعلمتُ من منتجه الثقافي الكبير، وعاد ليكرمني بما أرجو أن أكون أهلاً له من التكريم والاحتفاء غير المستغرَب، وإن جاء مفاجأة لي.

في إحدى أجمل قصائد الشاعر الإنجليزي الذي ذكرته قبل قليل، وردزورث، وهي المعروفة بـ«تنترن آبي»، إشارة إلى موضوعها، وهو المكان الذي زاره الشاعر في الأعوام الأخيرة من القرن الثامن عشر، يؤكد الشاعر أن زيارة سابقة له لذلك المكان الغارق في جمال الطبيعة تركت أثراً عميقاً في نفسه؛ ليس على مستوى الإحساس الجمالي أو المتعة وإنما، وهنا يبرز جانب أعمق من المذهب الرومانسي، على مستوى روحاني، مستوى الأخلاق والسلوك.

يقول إن الطبيعة التي غادرها آنذاك لم تتركه، وإنما ظلَّت تحيطه برعايتها؛ إذ تتمظهر في صور من السلوك الإنساني الجميل والبسيط: تحية صباحية، مساعدة شخص على عبور الطريق، جعلته الطبيعة التي ترسخت في ذاكرته، أو لا وعيه، كما سيقول فرويد، إنساناً أفضل وأكثر حباً للخير، كما تفعل الصلاة بالنسبة للمؤمن، أو كما يُفترض. ثم يضيف وردزورث أنه يتوقع أن زيارته الحالية ستكون استزادة من تلك الخيرات الطبيعية التي ستواصل الارتقاء به حين تمده بالمزيد من الطيبة والنقاء إلى جانب الإحساس بالجمال.

أستعيد قصيدة وردزورث لأني أجدها على صلة بزياراتي المتكررة لبلد طالما أمدَّني بغزير عطائه؛ ليس الثقافي فحسب، وإنما الإنساني أيضاً، وأظن أن تجربتي ليست غريبة على كثيرين؛ فكثيرون هم الكتّاب المثقفون والعلماء والأدباء الذين مروا على الكويت عاملين في مؤسساتها أو مشاركين في مناشطها العديدة، مثلما أنهم كثيرون، بل أكثر بكثير، أولئك الذين لم يمروا بالكويت، وإنما مرَّت بهم هي في صورة مجلة أو كتاب أو أثر آخر. من بدر شاكر السياب إلى أحمد زكي، أول رئيس تحرير لمجلة «العربي»، إلى فؤاد زكريا، إلى زكي طليمات، إلى عبد الوهاب المسيري، إلى جابر عصفور، إلى فهمي جدعان وغيرهم، فضلاً عن الشعراء والروائيين والمسرحيين الكثر الذين عرفتهم ندواتها ومؤتمراتها وقاعات محاضراتها، تمتد القائمة وتطول، ومع القائمة تشمخ المؤسسات وتتعدد صور العطاء والتكريم. جاء كثيرون إلى الكويت ليجدوا أنهم في بيئة كويتية غنية مسبقاً بالفكر والعلم والأدب والفنون؛ إذ تمثل ذلك في الرواد مثل صقر الشبيب وفهد العسكر وخالد الفرج، امتداداً إلى أحمد مشاري العدواني وخالد سعود الزيد وحمد الرجيب، وصولاً إلى محمد الرميحي وسليمان العسكري وإسماعيل فهد إسماعيل وأحمد الربعي وسعد الفرج وسعدية مفرح ومحمد الجسار وعائشة المحمود وطالب الرفاعي وليلى العثمان وخليفة الوقيان ودخيل الخليفة وسعود السنعوسي وعبد الله البصيص وبثينة العيسى وغيرهم كثير وكثير ممن يجب ألا ينساهم أحد، لكن المساحة تضيق. كل أولئك وغيرهم شاركوا ويشاركون في صياغة الناتج الفكري والإبداعي العربي باقتدار لتغتني بعطائهم أجيال ممن كانوا مثلي ذات يوم يتصفحون مجلة أو يقرأون كتاباً أو يتابعون محاضرة أو ندوة أو يشاهدون مسرحية.

نمر بالأماكن ونتذكرها أملاً في أن تتذكرنا هي، وإن سهل أن تنسانا فليس من السهل أن ننساها. من هنا كان مروري بالكويت ومرورها بي وئيداً وعميقاً، الكويت التي لم تنسني وأنا أغالب الزمن لاستبقاء كثير من مشاهد مروري بها ملحّاً عليها أن تبقى، وقد بقي فعلاً كثير من الكثير. بقي كثير من «مهرجان القرين الثقافي» ومن مؤتمرات «مجلة العربي» و«المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» ومن محاضرات «رابطة الأدباء»، وهو يتجدد اليوم عبر النشر في دور مثل «كلمات» التي انطلقت من الكويت لتنتشر في أرجاء الجزيرة العربية ساعية لتخطي الحدود ومعانقة العالم. تلك الدور وأولئك الأشخاص يجسدون أو يذكّرون بالدور التاريخي الذي لعبته الكويت على مدى يزيد على النصف قرن في نشر المعرفة والإبداع في أرجاء الوطن العربي؛ سواء في الإرسال أو الاستقبال.

في «معرض الكتاب» ذكرتني شاعرة الكويت الكبيرة سعدية مفرح أنه بهذا العام (2023) تكون قد مرت 30 عاماً منذ زرت الكويت بعد تحررها من الاحتلال، بعد عودتها وطناً آمناً ومزدهراً لأهلها وللعرب، حين شاركت في ندوة أقامتها رابطة الأدباء. 30 مرَّت وها هي الكويت وقد عاودت ممارسة دورها التاريخي في النهوض العربي. في معرض الكتاب لهذا العام رأيت تلك الممارسة تتبلور أكثر من أي عام مضى، وقد رأيت القائمين على المؤسسات الثقافية المختلفة، في «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» وفي «المكتبة الوطنية»، يسعون سعياً حثيثاً لتعزيز هذه المسيرة المباركة لا لكي تستعيد الكويت نشاطها السابق، بل لكي تصعد إلى ما هو أعلى منه.



لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي