الأحساء السعودية تعيد شاعرها طرفة بن العبد إلى الواجهة بعد غياب 1450 عاماً

حوار افتراضي مع الشاعر المتمرد يقول فيه إنه وصف الملك عمرو بالنعجة وتغزل في أخته فقتله فصداً

صورة تخيلية للشاعر طرفة بن العبد
صورة تخيلية للشاعر طرفة بن العبد
TT

الأحساء السعودية تعيد شاعرها طرفة بن العبد إلى الواجهة بعد غياب 1450 عاماً

صورة تخيلية للشاعر طرفة بن العبد
صورة تخيلية للشاعر طرفة بن العبد

يعد الشاعر طرفة بن العبد من الشخصيات شبه الأسطورية الذي عبر في شعره، خصوصاً في معلقته الشهيرة، عن هموم إنسانية ووجودية لم يسبقه إليها أحد، بالرغم من أن جمعاً من النقاد، المتقدمين والمتأخرين، يصفونه باللامبالاة والطيش، والمستهتر بمقامات الرجال مهما كانت منزلتهم حتى ولو كانوا ملوكاً أو سادةً أو مشايخ قبائل.

ومع انطلاق المهرجان المخصص عن الشاعر الجاهلي أحد أصحاب المعلقات السبع، الذي ينطلق غداً (الخميس) 16 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 24 من الشهر نفسه، ويأتي ضمن احتفاء وزارة الثقافة السعودية برموز الشعر وبأهمية المعلقات التي جسدت عظمة اللغة العربية وجمالها وأبرزت جودة خصائصها البلاغية، أجرينا حواراً افتراضياً مع الشاعر طرفة، سلّط فيه الضوء على سيرته وأعماله الخالدة وحياته القصيرة المليئة بالقصص والمغامرات الضاجة الصاخبة وشخصيته المتمردة وشاعريته اللافتة، حيث كان بكوراً في اليتم وفي التمرد، معتزاً بكرامته مما مهد لقتله غدراً، عن طريق قطع الكاحل أو ما يسمى بـ«الفصد»، وتناول قبلها الخمر للتخفيف من الألم وسرعة تسييل الدم، وهو دون الثلاثين من عمره.

ملصق المهرجان

هنا نص الحوار:

* هل من الممكن أن تقّدم نفسك للقراء، وشيئاً مختصراً من سيرتك وولادتك وطفولتك؟ وقبل كل شيء، لماذا هذا الاختلاف في نطق اسمك؟

-اسمي طَرَفَة (بفتح الحروف الثلاثة الأولى). ولدت في البحرين التي هي الأحساء، إحدى مناطق بلادكم السعودية اليوم، وليست دولة البحرين التي حاضرتها المنامة، وبالتحديد في هجر التي ما زالت تحتفظ باسمها اليوم في الأحساء، وذلك عام 543 من الميلاد، ونشأت يتيماً من أبي وكفلني أعمامي الذين لم يعوضوني عن فقداني أبي، بل اضطهدوني أيما اضطهاد، مما دفعني إلى الانكفاء على ذاتي، متفرداً ومتحللاً بفطرتي من كل التقاليد السائدة في وقتي.

* أنت من أصحاب المعلقات السبع، من الشعراء الملحميين الكبار، حدثنا عن ظروف ولادة معلقتك التي وصفها النقاد المتأخرون بأنها أعمق ما قاله شاعر جاهلي وكشف فيها عن موقف وجودي أو ما يسمى في عصرنا هذا «ميتافيزيقياً»؟

- نعم إنها ملحمة كما في لغة عصركم اليوم. لقد كشفت في المعلقة من خلال أكثر من 40 بيتاً عن أصالة ناقتي وخصائها الجسدية الكثيرة. وقد علمتُ أن بعض النقاد المتأخرين في عصركم أشاروا إلى أن هذه الأبيات التي خصصتها في الحديث عن الناقة هي وصف يعجز عنه علماء التشريح، ووصل إلى مسامعي أن هناك جراحاً من بلادكم السعودية، اسمه جمال فطاني، نال شهادة الدكتوراه في علم التشريح عن «خف الجمل»، وقد استفاد من معلقتي، خصوصاً في الأبيات الأربعين التي وصفت فيها الناقة، هذا المخلوق الخرافي ورفيق العربي في حله وترحاله وسميتموه «سفينة الصحراء». لقد بدأت بالإشارة إلى أني إذا حل بي الهم أمضي بناقة نشيطة في سيرها وسمّيتها العوجاء، وهي الناقة التي تستقيم في سيرها لفرط نشاطها، وأضفت عليها صفة «مرقال» وهو بين السير والعدو:

وَإِنّي لَأَمضي الهَمَّ عِندَ اِحتِضارِهِ

بِعَوجاءَ مِرقالٍ تَروحُ وَتَغتَدي

* البعض من النقاد ودراسي شعرك أعطوا عنواناً لمعلقتك هو: «ملحمة البطولة واليأس»، هل تتفق معهم على هذا العنوان؟

-لقد وُفّق هؤلاء النقاد ودارسو شعري في اختيار هذا العنوان لمعلقتي، وأرى أن المعلقة أو الملحمة التي وصل عدد أبياتها إلى أكثر من 100 بيت، ومطلعها:

لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ

تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ

هي ملحمة بالفعل، ومع استبعاد وصفي للناقة بـ40 بيتاً منها، فإن المعلقة تستقطب كل قيمتها في مجموعة أبيات توصف عادة بالحكمة، كما أشارت إلى ذلك موسوعة الشعر العربي التي اختارها وشرحها وقدم لها مطاع صفدي وإيليا حاوي، وأشرف عليها الدكتور خليل خاوي، وحققها وصححها نصاً ولغة ورواية أحمد قدامة، وطبعت عام 1974م، ولجمال هذه الموسوعة في عرضها وشروحها فقد استقطعت أكثر إجاباتي عن أسئلتكم من هذه الموسوعة التي تعد من أفضل من تناول شعري في الدراسة والنقد والشرح.

لقد خاطبت لائمي في هذه الأبيات عن التمتع بملذات الحياة، فلا أجد ثمة معنى للعيش إلا بثلاث وسائل وهي: الفروسية، والخمرة، والمرأة، وهنا يبرز موقفي الوجودي مليئاً بتحدي الموت والزوال:

أَلا أَيُّهَذا اللائِمي أَحضُرَ الوَغى

وَأَن أَشهَدَ اللَذّاتِ هَل أَنتَ مُخلِدي

فَإِن كُنتَ لا تَسطيعُ دَفعَ مَنيَّتي

فَدَعني أُبادِرها بِما مَلَكَت يَدي

وَلَولا ثَلاثٌ هُنَّ مِن عيشَةِ الفَتى

وَجَدِّكَ لَم أَحفِل مَتى قامَ عُوَّدي

فَمِنهُنَّ سَبقي العاذِلاتِ بِشَربَةٍ

كُمَيتٍ مَتى ما تُعلَ بِالماءِ تُزبِدِ

وَكَرّي إِذا نادى المُضافُ مُحَنَّباً

كَسيدِ الغَضا نَبَّهتَهُ المُتَوَرِّدِ

وَتَقصيرُ يَومَ الدَجنِ وَالدَجنُ مُعجِبٌ

بِبَهكَنَةٍ تَحتَ الطِرافِ المُعَمَّدِ

كَأَنَّ البُرينَ وَالدَماليجَ عُلِّقَت

عَلى عُشَرٍ أَو خِروَعٍ لَم يُخَضَّدِ

كَريمٌ يُرَوّي نَفسَهُ في حَياتِهِ

سَتَعلَمُ إِن مُتنا غَداً أَيُّنا الصَدي

أَرى قَبرَ نَحّامٍ بَخيلٍ بِمالِهِ

كَقَبرِ غَويٍّ في البَطالَةِ مُفسِدِ

تَرى جُثوَتَينِ مِن تُرابٍ عَلَيهِما

صَفائِحُ صُمٌّ مِن صَفيحٍ مُنَضَّدِ

أَرى المَوتَ يَعتامُ الكِرامَ وَيَصطَفي

عَقيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ

لقد أطلقت هذه الكلمات الكبرى لأوكد للجميع على أنه متى تم لأي شخص الاستفادة من حياته بتلك السبل الثلاث: الفروسية، وتساقي الخمرة، ومعايشة المرأة، فإنه لن يسلّم للقبر إلا العظام والجلد ولن يحفل أبداً متى قام عوّده.

* كيف كانت فلسفتك ونظرتك إلى الحياة؟

- لقد نظرت من خلال هذه القصيدة إلى الحياة، وكأنها الفرصة الوحيدة لتحقيق وجود الإنسان، فهو لذلك لن يمنع نفسه الصادية من الغرف من كل مناهلها وينابيعها، بينما قد يعجز الآخر عن ذلك فيقضي عمره صادياً محروماً.

* كيف ترد على ما ذهب إليه بعض النقاد المتأخرين، بأنه لا يعقل أن تقول هذه الأفكار الناضجة، لتغرق في متابعة التقليد المعروف لأوصاف الناقة وغيرها، من خلال 40 بيتاً تشكل حوالي نصف معلقتك؟

- لقد قلت هذه الأفكار الناضجة كما تفضلت في لحظة إشراق نادرة لم تتكرر، ذلك أنني حاولت عن وعي حاد ومتوتر أن ألخص موقفي الذاتي من الحياة والوجود وأن أطل منه على جذر السلوك الحقيقي الذي كان يفجر الإحساس والبطولة لدي ولدى نخبة فتيان الصحراء.

* لوحظ أن الأبيات التأملية المتوترة قليلة في شعرك، مما جعل البعض يشكك في صحة نسبتها إليك قياساً بأبياتك عن الناقة؟

- من حق أي ناقد أن يقرأ القصيدة بما يراه، ولا حل بذلك إلا بالعودة إلى تكرار قضايا النّحل والضياع والاختلاط التي عاناها تراث الشعر العربي، أنا أجزم أنني شاعر الأبيات القليلة التأملية المتوترة التي توهجت من خلال كومة من جزئيات الأوصاف اللامتناهية إلى الناقة التي نسجت هيكل ملحمتي وجسدها لكنها تركت تجوفاً صغيراً للقلب، وكان الطل هو ذلك المقطع النادر الوهاج الذي تجلى في صرختي: "ألا أيها الزاجر....".

* هجوت الملك عمرو بن هند الذي أمر عامله بالبحرين (الأحساء)، بقتلك، هل تتذكر شيئاً من هجائك للملك ودوافعه؟

- عندما قدمت مع خالي المتلمس من الأحساء (البحرين سابقاً)، إلى الحيرة أُعجب الملك بشعري ونادمته مع المتلمس وأكرمني وبقيت عنده زمناً وكنت وقتها غلاماً معجباً بنفسي تيّاهاً. فبينما كنت أشرب يومياً بين يدي الملك، إذ أشرفت أخته فرأيتها، فقلت فيها هذين البيتين:

ألا يا ثاني الظبي الذي يبرق شنفاه

ولولا الملك القاعد قد ألثمني فاه

ونظر إليّ الملك عمرو نظرة كادت تقتلعني من مجلسه ووقتها قال لي خالي المتلمس: يا طرفة إني أخاف عليك من نظرته إليك، فلم أكترث لكلامه:

فَلَيتَ لَنا مَكانَ المَلكِ عَمروٍ

رَغوثاً حَولَ قُبَّتِنا تَخورُ

مِنَ الزَمِراتِ أَسبَلَ قادِماه

وَضَرَّتُها مُرَكَّنَةٌ دَرورُ

يُشارِكُنا لَنا رَخِلانِ فيه

وَتَعلوها الكِباشُ فَما تَنورُ

لَعَمرُكَ إِنَّ قابوسَ بنَ هِندٍ

لَيَخلِطُ مُلكَهُ نوكٌ كَثيرُ

قَسَمتَ الدَهرَ في زَمَنٍ رَخيٍّ

كَذاكَ الحُكمُ يَقصِدُ أَو يَجورُ

لَنا يَومٌ وَلِلكِروانِ يَومٌ

تَطيرُ البائِساتُ وَلا نَطيرُ

فَأَمّا يَومُهُنَّ فَيَومُ نَحسٍ

تُطارِدُهُنَّ بِالحَدَبِ الصُقورُ

وَأَمّا يَومُنا فَنَظَلُّ رَكباً

وُقوفاً ما نَحُلُّ وَما نَسيرُ

* دون إنكار للذات، ما هي القصيدة التي ترى أن عبقريتك الشعرية تجلّت فيها؟

-نعم إنها المطولة الثانية - بعد المعلقة - ، التي بلغ عدد أبياتها 76 بيتاً، ونجحت من خلالها في تناول موضوع الغزل والفخر ووصف الفرس وتصوير سلوك الرجال وهم وسط حلبة الصراع والوغى من أجل الشرف والكرامة، وقد نظمتها في مرحلة سابقة من عمري، ومن نضجي الفكري، لكنها رغم ذلك أعدها مادة أساسية لاكتشاف المقاييس الفنية والجمالية التي تمتاز بها شاعريتي، وقد قلتها في امرأة اسمها «هرة» التي أحببتها ومنها:

أَصَحَوتَ اليَومَ أَم شاقَتكَ هِر

وَمِنَ الحُبِّ جُنونٌ مُستَعِر

لا يَكُن حُبُّكِ داءً قاتِلاً

لَيسَ هَذا مِنكِ ماوِيَّ بِحُر

كَيفَ أَرجو حُبَّها مِن بَعدِ ما

عَلِقَ القَلبُ بِنُصبٍ مُستَسِر

أَرَّقَ العَينَ خَيالٌ لَم يَقِر

طافَ وَالرَكبُ بِصَحراءِ يُسُر

جازَتِ البيدَ إِلى أَرحُلِنا

آخِرَ اللَيلِ بِيَعفورٍ خَدِر

ثُمَّ زارَتني وَصَحبي هُجَّعٌ

في خَليطٍ بَينَ بُردٍ وَنَمِر

تَخلِسُ الطَرفَ بِعَينَي بَرغَزٍ

وَبِخَدَّي رَشَإٍ آدَمَ غِر

وَلَها كَشحا مَهاةٍ مُطفِلٍ

تَقتَري بِالرَملِ أَفنانَ الزَهَر

وَعَلى المَتنينِ مِنها وارِدٌ

حَسَنُ النَبتِ أَثيثٌ مُسبَطِر

* هل تتذكر رحلتك إلى حتفك مع خالك المتلمس (جرير بن عبد المسيح الضبيعي)، وأنتما تحملان رسالتين إلى عامل الملك عمرو بن هند في الأحساء (البحرين)؟

- نعم كنت أنا وخالي المتلمس غير جديرين بالتبعية المطلقة للملك عمرو بن هند، وقلنا أبيات من الذم والسخرية فيه، وفي طريقنا إلى البحرين (الأحساء حالياً)، خاطبني خالي وأثناني عن الذهاب، عندما فتح رسالته ووجد فيها قتله، فرفضت فتح رسالتي طمعاً في المال والمكافأة وأتذكر أن خالي رمى رسالته في النهر وقال فيها:

مَن مُبلِغُ الشُعَراءِ عَن أَخَوَيهِمَ

خَبَراً فَتَصدُقَهُم بِذاكَ الأَنفُسُ

أَودَى الَّذي عَلِقَ الصَحيفَةَ مِنهُما

وَنَجا حِذارَ حِبائِهِ المُتَلَمِّسُ

أَلقَى صَحيفَتَهُ وَنَجَّت كورَهُ

عَنسٌ مُداخِلَةُ الفَقارَةِ عِرمِسُ

عَنسٌ إِذا ضَمَرَت تَعَزَّزَ لَحمُها

وَإِذا تُشَدُّ بِنِسعِها لا تَنبِسُ

وَجناءُ قد طَبَخَ الهَواجِرُ لَحمَها

وَكَأَنَّ نُقبَتَها أَديمٌ أَملَسُ

وَتَكادُ مِن جَزَعٍ يَطيرُ فؤادُها

إِن صاحَ مُكَّاءُ الضُحى مُتَنَكِّسُ

أَلقِ الصَحيفَةَ لا أبَا لَكَ إِنَّهُ

يُخشى عَلَيكَ مِنَ الحِباءِ النِقرِسُ

وَعَلِمتُ أَنّي قَد مُنِيتُ بِنَيطَلٍ

إِذ قيلَ كانَ مِن آلِ دَوفَنَ قَومَسُ

وَفَرَرتُ خَشيَةَ أَن يَكونَ حِباؤُهُ

عاراً يُسَبُّ بهِ قَبيليَ أَحمَسُ

وَتَرَكتُ حَيَّ بَني ضُبَيعَةَ خَشيَةً

أَن يُوتَروا بِدَمي وَجِلدِيَ أَملَسُ

ثَكِلَتكَ يا اِبنَ العَبدِ أُمُّكَ سادِراً

أَبِساحَةِ المَلِكِ الهُمامِ تَمَرَّسُ


مقالات ذات صلة

لا صوت يعلو على صوت القلب

كتب أريك ماريا ريمارك

لا صوت يعلو على صوت القلب

إحدى الروايات التي سحرتني منذ قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى - على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد

نجم والي
كتب جبران خليل جبران

لماذا وكيف ينبغي أن نقرأ جبران اليوم؟

من قوة إلى قوة تسيرُ سلسلة «دراسات إدنبرة في الأدب العربي الحديث»، التي تصدر باللغة الإنجليزية عن مطبعة جامعة إدنبرة في أسكوتلندا

د. ماهر شفيق فريد
ثقافة وفنون النقش التصويري الذي يظهر على الوجه الجنوبي لحصاة بن صلت، مع رسم توثيقي له

حصاة بن صلت... أهي قبلة بيت الصلاة؟

وصل العالم الجيولوجي الأميركي روبرت كولمان إلى عُمان في خريف 1973 لإنجاز دراسة علمية معمّقة تتناول تكوين طبقات أرض هذه البلاد، وعاد إلى موطنه في شتاء 1974

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «نداء القرنفل» لمصطفى موسى

«نداء القرنفل» لمصطفى موسى

صدر حديثاً عن دار «نوفل- هاشيت أنطوان» رواية «نداء القرنفل» للكاتب المصري مصطفى موسى، التي يطعّمها الكاتب بالأحداث السياسية من دون أن تحضر التواريخ بشكل مباشر.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة
TT

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

وفي الحكاية، فإن الجهل مثل مجموعة من البشر تقطن في ظلام كهف تحت الأرض، مقيدة من الساقين والرقبة حتى تتعذر عليهم الحركة حتى لإدارة رؤوسهم، ولا تتوفر لديهم ذاكرة أخرى للحياة؛ لأنهم سُجنوا بهذه الطريقة منذ الطفولة. أمامهم، لا يرون سوى الظلال المتحركة التي تُلقيها أشياء غير معروفة لهم، مضاءة بنار متراقصة يخبرنا أفلاطون أنها تقع في مكانٍ ما خلفهم لا يمكنهم رؤيته.

هذه المجموعة من البشر التعساء لا تعرف شيئاً عن هذا العالم سوى تلك الظلال، ولا تسمع سوى أصداء من أصوات الحراس، الذين لم يسبق لهم أن رأوهم قط. وعلى هذه الحال يقضون أيامهم.

«الجهل» في هذا التمثيل المروّع ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مأزق شديد ومحنة تامة عدّها أفلاطون أسوأ من السجن، وأبشع من العبودية، وأقرب إلى الموت، فيقول، مستعيراً من «الأوديسة» لهوميروس عند إشارته إلى الموتى الذين يقطنون في جحيم الآخرة، حيث يظلّ «من الأفضل أن تكون خادماً متواضعاً لسيد فقير، وأن تتحمل أي شيء في هذه الدنيا، بدلاً من أن تعيش وترى ما يرون». وبينما نتأمل هذا المأزق الأفلاطونيّ المحكم، ندرك أن غياب الحريّة - وفي الصورة هنا حجز الحركة الجسديّة - يحصر عالم تجربة البشر في لُجة الجهل العميق، ويمنع عنهم خوض تجارب جديدة تتيح لهم التعلم وتفتح أمامهم آفاقاً مغايرة لما عهدوه، فيعجزون عن فهم الأشياء، أو الانشغال بأمور ذات قيمة، أو تذوق أي قيمة من قيم الجمال.

إن الجهل يبدو، وفق أفلاطون، وكأنه نتاج العجز، على أن الجهلة، في حكايته، لا يدركون ولا يمكنهم أن يستوعبوا طبيعة محنتهم التي فيها يرزحون، إذ سيؤمنون في كل وقت بأن الحقيقة ليست سوى تلك الظلال المتراقصة أمامهم على جدار الكهف، وستكون تجارب حياتهم مزيجاً من خيالات مختلطة برجع صدى أصوات حرّاسهم.

كهف أفلاطون بالطبع محض خيال، وسرعان ما يشعر قارئ «الجمهوريّة» بالامتنان، لبُعدنا عن ذلك المكان القاسي والخانق بسجنائه المساكين، لكن بعد ذلك، وبشكل مرتجل تقريباً، يأتي بيان أفلاطون الصارخ والمخيف: «إنهم مثلنا، وتلك صورتنا». ومن هذه النقطة تحديداً ينطلق دانيال دينيكولا، أستاذ الفلسفة في كلية جيتيسبيرغ بولاية بنسلفانيا، في كتابه الصادر عن مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ «فهم للجهل: التأثير الصادم لما قد لا نعرفه»، في رحلة لاكتشاف أبعاد بحر الجهل، والتدليل على أنّه أبعد ما يكون عن مجرّد نقص في المعرفة.

المؤلف دانيال دينيكولا

يأتي هذا الكتاب في وقت من تاريخ العالم يُعرَف بعصر المعلومات، حيث لم تعد المعارف نخبوية الطابع بعيدة عن متناول الأكثرية، كما ظلّت عبر آلاف السنين، ومع ذلك يرى دينيكولا أننا قد لا نكون في كثير من الأحايين على دراية كافية، ناهيك عن تفشي المعارف الخاطئة، والاعتقادات الباطلة، والتعامي الاختياريّ، والأخبار المزيفة.

يبدو هدف دينيكولا هنا أبعد من تقديم مطارحة فلسفيّة في الأبستمولوجيا (علم المعرفة)، إذ يصرّ، في غالب الوقت على الأقل، أن يُبقي الجدل قريباً من خبرة القارئ غير المتخصص، فيبدّد من أمامه المفاهيم الخاطئة الشائعة فيما يتعلق بظاهرة الجهل بوصفه أكثر من مجرد نقص أو غياب للمعلومات، بل نتاج تفاعلات ديناميكية ومعقدة مع المعرفة، مستعيداً التمييز - الشهير الآن بفضل خطاب لدونالد رامسفيلد (وزير دفاع الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش) - بين معلوم معلوم، ومجهول معلوم، ومجهول مجهول وكذلك معلوم مجهول، مستعيناً باستعارات مجازية لمقاربة الجهل: بصفته مكاناً، وحدوداً، وسدّاً، وتوجهاً.

يمكن للجهل أن يصوّر أقرب ما يكون إلى مكان/ زمان نسكن فيه: كهف أفلاطون - حيث الجهلة لا يدركون جهلهم ويركنون إلى اعتيادهم إياه ويعادون مَن قد يحاول لفت انتباههم إلى ما سواه فيحسبونه مُهَرطِقاً أو ضحية نظرية مؤامرة عليهم، مقابل فردوس «دانتي» مثلاً، نقيض الجحيم، حيث الجهل حالة سعادة يكتنفها انعدام للوعي.

الجهل ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مأزق شديد ومحنة تامة عدّها أفلاطون أسوأ من السجن

أيضاً يمكن تصوّر الجهل بوصفه حدوداً فاصلة تُوقف تمدد معرفتنا، سواء الفرديّة أم الجماعيّة، لكن المساحة خارج تلك الحدود هائلة ومليئة بالوعود، والحدود نفسها ليست نهائيّة، ويمكن دائماً تحريكها من خلال التعلّم، لكن المسافة التي يمكن لبشريٍّ قطعها يومياً في استكشاف المعرفة؛ دونها سقوف، إذ لو قرأ المرء كتاباً في كل يوم من حياته فإن ذلك يبقى أقل من مجموع الكتب التي تُنشر سنوياً في الولايات المتحدة وحدها.

يمكن فهم الجهل كذلك بوصفه سداً نُشيّده باختيارنا عندما ننتخب ألا نعرف شيئاً، لاعتقادنا أنّه لا يستحق تكلفة المعرفة، أو لأنه لا يتناسب مع يقينياتنا الأيديولوجيّة، أو دوافعنا السيكولوجيّة العميقة.

وأخيراً، تخلق هذه الأماكن/ الحالات التي نخلد إليها، والحدود التي نقف أمامها، والسدود التي نختار تعليتها ما يمكن عدُّه أفقاً وتوجهاً لمقاربة الإنسان - والمجتمع - أيضاً علاقته بالعالم.

ومع توضيحه أشكال الجهل، يستعرض دينيكولا عدداً من مظاهره في مجتمعاتنا المعاصرة، ويطرح أيضاً تناقضات أخلاقية تتعلق به، إذ بينما يجري التعامل مع تجريد الجهل على أنه شيء مريع ينبغي القضاء عليه، يرى أيضاً أن بناء الثقة يتطلب أحياناً تقبُّل درجة معينة من الجهل، ثم يقترح منهجيات ممكنة لإدارة جهلنا من خلال الفضول، والسعي للمعرفة، وإلزامية التعليم، وتوظيف علوم الإحصاء والاحتمالات، وكذلك تنظيم العلاقات الاجتماعيّة من خلال الوعود، والعقود، والاتفاقيات، والالتزامات المتبادلة.

ولعلَّ أثمن ما ينتهي إليه دينيكولا في محاولته هذه القبض على الجهل هو تحذيره من الهدر على المستويين الفردي والجماعيّ الملازم للثقافة المجتمعية التي يصبح فيها الجهل مكوناً من التوجه الأيديولوجيّ، ومن ثمّ زعمه أن «الاعتراف بإمكانية جهلنا - حيث قد لا ندرك حدود فهمنا - هو باب الحكمة الذي وحده يفضي إلى مجال معرفي يسمح لنا بأن ندَع عنّا المعارف الخاطئة، ونقلل مساحة جهلنا العنيد بطلب المعارف؛ ولو بتعب وألم يرافق عملية التعلم».