ثور تاروت من الفصيلة الدربانية ويُعرَف بـ«الزابو»

يتبنى قاموساً تشكيلياً يتكوّن من عناصر تصويرية ثابتة

ثور تاروت من الفصيلة الدربانية ويُعرَف بـ«الزابو»
TT

ثور تاروت من الفصيلة الدربانية ويُعرَف بـ«الزابو»

ثور تاروت من الفصيلة الدربانية ويُعرَف بـ«الزابو»

يحتفظ متحف «متروبوليتان» في نيويورك بإناء من حجر الكلوريت الداكن، مصدره جزيرة تاروت، التابعة لمحافظة الشرقية بالمملكة العربية السعودية. يعود هذا الإناء إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، ويزيّنه نقش تصويري متقن يمثّل ثوراً من الفصيلة التي تُعرَف، اليوم، عالمياً باسم الزابو، وعربياً بالبقر الدرباني، وهي من الماشية المستأنسة، وتتميّز بسنام يعلو كتفيها.

وصل هذا الإناء بشكل شِبه كامل، ولم يفقد سوى جزء من طرفه الأعلى. يبلغ طوله 11.4 سنتيمتر، وعرضه 7 سنتيمترات، وتحمل مساحته الخارجية نقشاً ناتئاً يمثّل ثوراً يتميز بكتلة ضخمة من الشحم مُحدَّبة على ظهره. يظهر هذا الثور في صورة تتكرّر مرّتين في تأليف واحد جامع، حيث يحضر في شكل جانبي، ويعلو رأسه قرنان هلاليان عاليان على شكل هلالين متقابلين. سمات الوجه محدّدة بدقّة، وتتمثّل في عين لوزية عملاقة مجوّفة، يحدّها عظم الحاجب الذي يشكّل إطاراً لها، وأنف بارز يعلو أقصاه منخران على شكل قرصين منمنمين، وفم يرتسم في شق أفقي يفصل بين الأنف البارز والحنك المستدير، وأذنين عموديتين طويلتين تظهران عند الطرف الأسفل للقرن الأيسر.

أعضاء الجسم محدّدة كذلك بمتانة مماثلة، وتظهر هذه المتانة في تصوير العمود الفقري والأرداف والمفاصل التي يتكوّن منها البدن. يستقر السنام عند أعلى الظهر فوق الكتفين، وتزيّنه شبكة من الدوائر المجوّفة تمتّد حتى أسفل البطن، وتمثّل هذه الشبكة كتلة من الصوف تغطّي هذا الجزء من جلد الثور. تحوي ثلاث من هذه الدوائر قطعاً من الحجارة البيضاء، ممّا يشير إلى أن المساحات المجوَّفة كانت في الأصل مرصَّعة بهذا النسق. على العكس، يبدو ما تبقّى من هذا الجلد خالياً من أي نقش، وهو هنا على شكل مساحة مصقولة، ملساء ومجردة. القوائم مصوَّرة برهافة، وتتكون من أفخاذ وسيقان ورُكب وحوافر متناسقة. من طرف المؤخرة، يتدلّى الذيل عمودياً بثبات، وتحدّ طرفه الأسفل كتلة بيضاوية. في هذه الصورة المزدوجة، يقف الثور بثبات، مع حركة خفية تظهر في تقدّم القائمة اليمنى نحو الأمام.

تحيط بهذه الصورة المزدوجة شبكتان من النقوش تحدّدان معالم المكان الذي يقف فيه الثوران المتجاوران. تحتل الشبكة الأولى القسم الأسفل من التأليف، وهي على شكل سلسلة من الخطوط المتوازية، تعلوها خطوط مشابهة متموّجة ومقوَّسة ترتسم فوق الثورين، وتشكّل هذه الشبكة صورة تشكيلية مبتكرة لجداول من المياه. في المقابل، تحتل الشبكة الثانية القسم الأسفل، وهي على شكل كتلة متراصة من الحراشف البيضاوية، تمثّل صورة تشكيلية مبتكرة لحلّة نباتية مورقة تمتدّ فوق جداول المياه المتموّجة.

يُعرَف الثور ذو السنام، اليوم، بـ«الزابو»، وهو الثور الدرباني، كما يُستدلّ من قول ابن منظور: «ومن أجناس البقر، الدراب، ممّا رقّت أظلافه، وكانت له أسنمة، ورقّت جلوده، واحدها درباني». هذه الفصيلة البقرية معروفة في العالم القديم، كما في زمننا، وهي تتكيف بشكل جيد مع درجات الحرارة المرتفعة، وتجري تربيتها في جميع أنحاء البلدان الاستوائية. والشائع أن أصلها يعود إلى شبه القارة الهندية، غير أن الأدلة الأثرية تشير إلى وجودها في الشرق الأوسط، كما في الجزيرة العربية في زمن موغل في القدم.

في كتابه المرجعي، الصادر عام 1991، تحت عنوان «التحريم والتقديس، نشوء الثقافات والدول»، ذكر العالِم الأنثروبولوجي الأميركي مارفن هاريس، هذه الفصيلة البقرية المستأنسة، وكتب في وصفها: «تُقاس المقدرة البشرية بمدى التحمل الهائل وقدرات التعافي لسلالات البقر الدرباني. وكما الجمال، تخزّن الأبقار الهندية الطاقة في سنامها، ويمكنها العيش أسابيع دون طعام أو شراب، وتنتعش عندما يُتاح لها أقل قدر من الغذاء. بعد تفوق سلالات أخرى بسبب المرض والجوع والعطش، تستمر أبقار الدرباني بجرّ المحراث وإنجاب العجول وإنتاج الحليب. وخلافاً لسلالات أوروبية أخرى، اختير الدرباني؛ لا لقوته واكتناز لحمه أو غزارة حليبه، بل لقدرته على البقاء حياً في مواسم جفاف وقحط قاسية».

يظهر الثور الدرباني على إناء تاروت، كما يظهر على مجموعة كبيرة من قطع مشابهة من الكلوريت، تتبع تقليداً فنياً جامعاً سادَ في نواح عدة من بلاد الرافدين، كما في جزر الخليج العربي، وازدهر في نواح من جنوب غربي إيران توصف بـ«بلاد ما بين النهرين الصغرى». يتبنى هذا التقليد قاموساً تشكيلياً يتكوّن من مجموعة عناصر تصويرية ثابتة تمثّل العالم الحيواني والعالم الطبيعي. يحضر الثور الدرباني في هذه المجموعة بشكل أساسي، إلى جانب الوعل والأسد والفهد والعقرب والنسر والأفعى، ويظهر إمّا واقفاً على قوائمه، وإما رابضاً على قوائمه المطوية من تحت بطنه. واللافت أنه يحضر بشكل دائم أمام جداول المياه، كما على إناء تاروت.

وسط هذا العالم الحيواني الغرائبي، يظهر الإنسان في صورة ثابتة، ويلعب دور «سيّد الوحوش»، حيث يمسك بيديه المرفوعتين حيواناً من الحيوانات المتوحشة التي تشكّل مادة هذه النقوش.

وحده الثور الدرباني يظهر بصورة الحيوان المستأنس إلى جوار «سيّد الوحوش»، وكأنّه صورة مختزلة للحيوان الأليف. تتجلّى هذه الصورة الاستثنائية بشكل خاص في إناء محفوظ بالمتحف البريطاني في لندن، مصدره موقع خفاجة الأثري، على نهر ديالى، شرق العراق. يبلغ طول هذا الإناء 11.4 سنتيمتر، وعرضه 17.8 سنتيمتر، ويختزل نقشُه الجمالية التي جسّدتها أواني الكلوريت التي تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.

يجمع هذا النقش بين ثلاثة مشاهد لا يفصل بينها أي إطار. في المشهد الأول، يظهر سيّد هذا العالم الغرائبي جاثياً على ركبتيه، ممسكاً جدولين من المياه، فوق ثورين من الفصيلة الدربانية. وفي المشهد الثاني، يعود ويظهر منتصباً على قدميه بين فهدين، ممسكاً ثعبانين مرقطين متواجهين. يغيب «سيد الوحوش» عن المشهد الثالث، حيث يظهر أسد ونسر ينقضّان على ثور عادي ليس له سنام.

في قراءة تأويلية لهذه اللوحة الثلاثية، ترى الباحثة البلجيكية دومينيك كولون أن الحيوانات المفترسة ترمز إلى شواش الطبيعة واضطرابها وفوضاها، في حين يعبّر الإنسان عن السيطرة على هذه الشواش، وتتمثّل هذه السيادة في جرّ المياه التي تهبُ الخصوبة والازدهار.

كلام الصورة

آنية من جزيرة تاروت السعودية محفوظة في متحف «متروبوليتان»، وآنية من موقع خفاجة العراقي محفوظة في المتحف البريطاني.



الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

عيسى مخلوف
عيسى مخلوف
TT

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

عيسى مخلوف
عيسى مخلوف

لعلني لا أجافي الحقيقة في شيء إذا نوهت في بداية هذه المقالة بأن مسارعتي لقراءة إصدار عيسى مخلوف الجديد «باريس التي عشت» لا تعود إلى جاذبية المدينة المعنية بالكتابة وسحرها الاستثنائي، أو إلى اهتمامي المزمن بكل ما يمت لأدبي الرحلة والسيرة بصلة أو نسب فحسب، بل كان دافعي الأهم للقراءة هو قدرة صاحب «رسالة إلى الأختين» العالية على أن يوائم في كتاباته بين عمق المعرفة وجماليات السرد وإشراقة اللغة والأسلوب.

وإذا كان مخلوف لا يتوانى عن تحويل العديد من إصداراته إلى «معرض» شديد الثراء لثقافته الواسعة وعلاقاته المباشرة برموز الثقافة العالمية المعاصرة، فإن ما يبدو عند بعض الكتاب نوعاً من التبجح المعرفي، يتخذ عند عيسى طابعه التلقائي، ويبدو جزءاً لا يتجزأ من الموضوع المتناول بالمقاربة والبحث، بعيداً عن الادعاء والاستعراض المتعسف للكتب المقروءة.

ولا بد من التنويه إضافة إلى ما تقدم بأن تعامل مخلوف مع الكتابة بوصفها مولّداً للمتعة، إضافة إلى شغفه المفرط بالحرية، هو ما جعله يخرج عن فكرة التجنيس الأدبي النمطي. فهو إذ جانب في كتابه السابق «ضفاف أخرى» الامتثال لمفاهيم السيرة الشخصية المألوفة، لم يتقيد في عمله الأخير بالمفهوم السائد لأدب الرحلات. فبدلاً من التنزه في جغرافيا العاصمة الفرنسية وأماكنه، آثر مخلوف القادم إلى باريس من كاراكاس لمتابعة تحصيله العلمي، أن يحتفي بروح المدينة الكوزموبوليتية التي تحوّلت عبر الزمن إلى مساحة نادرة للتنوير والتجريب الحداثي، وإلى منصة مفتوحة للاندماج الثقافي الكوني.

يتحدث مخلوف في مقدمته المسهبة لكتابه عن أن تصوره لباريس قبل القدوم إليها، كان بالدرجة الأولى ذا منشأ ثقافي وإبداعي. وإذا كان ذلك التصور منقسماً بين الرومانسية والواقعية، فلأن قراءاته الأولى كانت هي الأخرى مزيجاً من كتابات فيكتور هيغو وموباسان ولامارتين وبلزاك وإميل زولا، وصولاً إلى بودلير الذي انقلب على التقاليد السائدة في عصره. وقد جهد صاحب «أزهار الشر» في البحث عن صورة للمدينة تتعدى جمالها الهندسي الخلاب، لتتصل بالأبعاد الروحية والشهوانية للمدينة الغامضة، وصولاً إلى مخاطبته لها بالقول «لقد أعطيتِني طينكِ فصنعتُ منه الذهب».

وإذ يشير المؤلف إلى الدور الرائد الذي لعبه نابليون الثالث في تغيير ملامح باريس وإنارتها وشق طرقاتها وتزيينها بالحدائق، وتأهيلها بالمكتبات والمقاهي والمسارح وقاعات الأدب والفن، يشير في الوقت نفسه إلى أن المدينة لم تكن في القرنين الفائتين صناعة فرنسية صرفة، بل هي ثمرة التفاعل الخلاق بين مبدعيها المحليين من أمثال رامبو ومالارميه وسارتر وأراغون وبونفوا وبارت وفوكو، وبين القادمين إليها من أربع رياح الأرض ليعثروا في كنفها على ما ينقصهم من نيران الشغف أو هواء الحرية. ومن بين هؤلاء كتّاب وفنانون عالميون من أمثال بورخيس وماركيز وبيكاسو ودالي، وعرب ولبنانيون من أمثال جبران وآسيا جبار وصليبا الدويهي وشفيق عبود والطاهر بن جلون وصلاح ستيتية وإيتيل عدنان وفاروق مردم بك وغيرهم.

على أن احتفاء مخلوف بالمدينة التي كانت قبل عقود، الحاضنة الأمثل لمغامرة الكتابة والفن، التي شكلت الملجأ والكنف والملاذ لكل الهاربين من وطأة التخلف والجهل والاستبداد في بلدانهم الأم، لم يمنعه من الإقرار بتقهقرها المأساوي إزاء ما سماه إريك أورسينا، عضو الأكاديمية الفرنسية، غول الرأسمالية المفترس، الذي عمل بنهم مرَضي على افتراس كل إبداع خلاق وتفريغه من مضمونه، وإخضاعه لسوق الشراء والبيع ومنطق العرض والطلب. وقد عبّر بيار بورديو من جهته عن هذه الظاهرة بالقول «إن المنتج الثقافي أصبح يُعامل اليوم بوصفه سلعة وأداة لهو وتسلية، فيما بات أصحاب المال والنفوذ هم رعاة الثقافة وأسيادها وراسمي القواعد الجديدة للاجتماع البشري وقوانينه».

وفي تلك البورتريهات الملتقطة للكتاب الباريسيين، مقيمين ووافدين، ثمة ما يبدأ من لحظة اللقاء الختامي ثم يعود على طريقة «الفلاش باك» إلى لحظة البدايات، كما في الفصل المتعلق بإيتيل عدنان، الشاعرة والرسامة اللبنانية المعروفة. فالمؤلف يستهل الفصل بالحديث عن اللقاء الأخير الذي جمعه بإيتيل قائلاً: كانت إيتيل جالسة في قاعة الاستقبال، حيث نلتقي عادة، وكانت متعبة ومتألمة. لقد توقفت عن تناول الدواء الذي سبّب لها الدوار. قلت لها سنتصل بالطبيب، ونطلب منه أن يصف لك دواء آخر. وكان ردها حاسماً ما من أدوية للشيخوخة. إلا أنه ما يلبث، إثر عرض مكثف لأبرز محطات حياتها ووجوه تميزها الإبداعي، أن يقول لا أدري متى التقينا، إيتيل وأنا، أول مرة. فبعض اللقاءات سابقة لأوان حدوثها، وموجودة حتى قبل أن توجد.

ومن بين ما يلفتنا في الكتاب حرص صاحبه على المواءمة بين فكرة المثقف المتخصص التي لازمت الحداثة في بعض حقبها الأخيرة، وفكرة المثقف الموسوعي الذي لا تحول هويته الشعرية الأساسية، دون اهتمامه بشؤون الفكر والفلسفة والأدب والتاريخ، وتفاعله النقدي العميق مع فنون الشعر والرواية والموسيقى وفنون التشكيل. على أن المعرفة هنا لا تظل أسيرة التنظير الممل واللغة الباردة، بل ثمة على الدوام تيار من العاطفة الدافئة والحماس المكتوم، يسري في شرايين الكتابة، بعيداً عن الإنشاء الرخو والمبالغة الميلودرامية.

أما الأمر الآخر اللافت، فيتعلق بحرص مخلوف على تقديم الثقافة والإبداع بوصفهما جسور التواصل الأهم بين طرفي العالم اللذين باعدت بينهما الضغائن السياسية وتضارب المصالح والعصبيات العرقية والدينية المختلفة. فحيث تطلع الكثير من المبدعين المشرقيين والعرب إلى الغرب، باعتباره موئل الحرية الأرحب، والكنف الأمثل لصقل التجارب الأدبية والفنية، كان كتاب وفنانون غربيون يتطلعون بالمقابل إلى الشرق، بوصفه الظهير الأكثر صلابة لنداءات الروح، والينبوع الأولي للبراءة الملهِمة.

وفيما يتقاسم المؤلف مع الكتاب والفنانين الذين تناولهم في كتابه، الكثير من شؤون الإبداع وشجونه، وصولاً إلى الأسئلة الممضة المتعلقة بالحياة والفن والزمن والموت، يحرص على أن يقدم لقارئه أعمق ما لدى محاوريه من الكنوز المعرفية التي يملكونها، عبر برقيات ولقىً وحدوس إنسانية شديدة التكثيف، بحيث نقرأ لإيف بونفوا قوله «إن القرن الحادي والعشرين هو على الأرجح القرن الذي سيشهد على اختناق الشعر تحت الأنقاض التي تغطي العالم». ونقرأ لبورخيس، الذي تمكن مخلوف أن يلتقيه لدقائق معدودة في باريس، قوله: «أعمى أنا ولا أعرف شيئاً ولكنني أتوقع أدَقّ المسالك»، ولجان جينيه «الجرح وحده أصل الجمال». كما نقرأ لشفيق عبود، الفنان التشكيلي اللبناني: «الهواة يلعبون، يتسلّون، يركضون وراء الواجهات. وحده الفنان الحقيقي ينتحر في صناعة المستقبل».

تعامل مخلوف مع الكتابة بوصفها مولّداً للمتعة هو ما جعله يخرج عن فكرة التجنيس الأدبي النمطي

وإذا لم يكن بالأمر السهل التوقف عند المحطات المختلفة للكتاب، الذي شاءه مخلوف أن يأخذ شكل المقاربات النقدية والشخصية لمن احتضنه وإياهم كنف المدينة العريقة، فإن ما يلفتنا في الكتاب، الذي يقع بين اليوميات والسيرة الشخصية وأدب الرحلة، هو إبعاد السرد عن البرودة والتقعر والنمذجة الجامدة، ومهره بقدر غير قليل من الحب، وبلمسة إنسانية متأتية عن علاقة المؤلف المباشرة بمن كتب عنهم. وسواء أخذت تلك العلاقة شكل الصداقة الحميمة أو اللقاء الصحافي البحت، فثمة في الحالين ما يعطي الكتابة عند صاحب «عزلة الذهب» سمات الصور والرسوم، التي تحاول تأبيد اللحظات العابرة ومنعها من الإمَحاء.

والواقع أن الشعور الذي يمنحه كتاب «باريس التي عشت» لقارئه، هو مزيج من الانتشاء بلغة مخلوف التي تشع نضارة وعذوبة، وبين لسعة الأسى الشجي المتأتية عن كون معظم لقاءات المؤلف مع المبدعين المعنيين، كانت تتم في المراحل الأخيرة من أعمارهم، أو في اللحظات القاسية التي تسبق الموت. ففي حين كان مرض السرطان قد فتك بأجساد البعض، كما في حالة إدوار سعيد وسعد الله ونوس وأمجد ناصر، كان البعض الآخر منهكاً ومهيضاً تحت مطرقة الشيخوخة، كما في حالة خورخي بورخيس وصلاح ستيتية وإيتيل عدنان.

وثمة، أخيراً، ما يُخرج الكتاب من الخانة المتعلقة بأدب الرحلة التقليدي، ليجعله تقصياً لمسالك الذات الإنسانية، شبيهاً بما قصده خليل حاوي في قصيدته المعروفة «رحلة السندباد الثامنة». كما يبدو من بعض وجوهه نوعاً من أدب «الرحيل»، والرثاء التأبيني المضمر لمن رحل من المبدعين، وضرباً من ضروب التلفت بالقلب نحو نوعين من السحر متلازمين: سحر المدينة المنقضي وسحر الحياة الآفل.