استئناس الغرابة وصناعتها سرديّاً

محمد رفيع يبني عليها مفارقات عالمه القصصي في «أساطير لم تحدث بعد»

استئناس الغرابة وصناعتها سرديّاً
TT

استئناس الغرابة وصناعتها سرديّاً

استئناس الغرابة وصناعتها سرديّاً

مغامرة قصصية شيقة ومغوية، محفوفة بالمخاطر وبعناية معرفية ضافية، يطرحها الكاتب محمد رفيع في مجموعته «أساطير لم تحدث بعد». فنحن أمام نص قصصي يبدو وكأنه يدور في عالم افتراضي، حيث تعكس قصص المجموعة نفسها سردياً، على نظريات علمية لكوكبة من العلماء المعروفين، على مدار حقب زمنية مختلفة، وتبدو وكأنها هامش على متن، أو سرد على حكاية بنَت منطقها وفق قوانين العلم ورؤيته المحددة التي يشكل الواقع وعاءً لصيرورتها ومصداقيتها في الوقت نفسه. لذلك يظل القارئ يراوح ما بين الـ«مع» والـ«ضد»، في دائرة تعلو فيها نبرة الشك وعلامات الاستفهام، كما أن فعل الحكي يبدو همه الأساسي هو تفتيت نمطية الحكاية والتحرر من أطرها التقليدية. فالشيء هو نفسه ولا نفسه معاً، عارياً وهارباً من أي معنى يؤكد من خلاله حضوره أو غيابه.

يعي الكاتب ذلك ويقصده، بل إنه ينسج قماشته السردية وصراعات عالمه القصصي، ويدفعها دائماً لتبدو وكأنها الصوت الآخر المنسي، المسكوت عنه لما خلفته نظريات هؤلاء العلماء وقوانينهم في تفسير الكون وتقصي حركة الزمن في مفاصل الطبيعة واللغة والوجود كوعاء للعواطف والمشاعر الإنسانية، واصفاً العالم والحياة في إحدى القصص بأنها «العبث الأعظم»، وما دام العلماء لا يكفون عن اللعب داخل دوائر هذا العبث، فلِم لا يعبث هو الآخر، ويضع هذا العالم بحاضره وماضيه ومستقبله على طاولة تشريح أدبية، يحاول النص من خلالها، بقوة الأسطورة أن يصل هو الآخر إلى تفسير يخصه وحده، في تأويل هذا العالم وتفكيك أواصر الحياة وعلائقها المباشرة الملموسة، والقضية الكامنة فيما وراء النص وحركة الزمن واللغة والعناصر والأشياء.

ومن ثم، يبني الكاتب محمد رفيع عالمه القصصي على فكرة «استئناس الغرابة»، وما ينجم عنها من صراع مخاتل ما بين الخيال والواقع، من ناحية والعلم والأسطورة من ناحية أخرى. في غبار كل هذا تراوح شخصية (آدم) البطل المهيمن على مناخات قصص المجموعة الأربعة عشرة، ما بين الوهم والحقيقة، مسكوناً بوجود مادي واقعي، وممسوساً بمراياه التي تنداح في سراب الميتافيزيقا، يموت ويحترق لكنه ينهض من رماد موته في حياة أخرى، تجدد نفسها بالأسطورة، كأنه طائر الفينيق كما في الميثولوجيا الإغريقية.

اختناق مروري

يطالعنا هذا العالم منذ القصة الأولى في المجموعة «اختناق مروري نحو السماء»، حيث يوظف المؤلف أجواء جائحة «كورونا» المأساوية التي ضربت العالم منذ سنوات، ويتخذها ركيزة أساسية في تنمية الصراع درامياً، وخلق وشائج تبدو واقعية في التماهي ما بين الأسطورة والواقع، فمشهد الموتى المتلاحق من شتى أنحاء العالم واكتظاظهم المتصاعد في السماء، لم يخلق فقط اختناقاً مرورياً على الأرض، إنما في السماء أيضاً، حيث تصعد أراوحهم بالآلاف وتتلاحق، في إيقاع يصعب السيطرة عليه، وضع العلماء في اختبار مباغت ولاهث للوصول إلى مصل للوقاية والحماية من خطر هذا الوباء. في خضم هذا المشهد يطل الدكتور آدم، ويبدو مشغولاً بشفرة ما يمكن فكها، تتلخص في ذبذبات بكاء المواليد الجدد فهو بحسب النص «مؤمن بأن الأطفال الرضّع لهم لغة، ويريدون أن يقولوا لنا شيئاً».

طيلة خمس سنوات وهو يزور مستشفيات الولادة، ويسجل بكاء الوليد الجديد، ثم يعود إلى المنزل، ليحلل الأصوات ويحولها إلى رسم بياني، ويبحث في كتب الشفرات، ويملأ حوائط المكتب بصور الأطفال وبجوارها التحليل الصوتي لبكائها الأول. بيد أنه لم يستطع خلال هذه السنوات أن يتوصل أو يستند إلى نظرية حقيقية عن لغة مشتركة تفسر ذلك. فظل الأمر معلقاً ما بين الإمكانية والاحتمال، «فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يبكي بهذا الشكل حين يولد، أما باقي الحيوانات فلا وقت لديها، فالبرية لا تمنحها وقتاً كافياً».

نفس سردي رائق

تحافظ المجموعة علي توهجها وتدفع ما يهجس به إلى النمو والصعود في نفس سردي رائق، يبرز على نحو لافت في القصص الأولى، لكن هذا الصعود يخفت تدريجياً، ويختلط بتقريرية مباشرة مشوبة أحياناً بنظرة وعظية، بداية من صفحة «87» بخاصة في قصص (عيش وحلاوة - نرسيس الأعلى - نرسيس الجديد - موسيقى الفحيح - العنقاء تضرب من جديد - كيمياء الحب)، ففي هذه القصص، تتراجع إلى - حدٍ كبير - تلقائية الغرابة، وتصبح مجرد اصطناع لاصطياد دهشة ذابلة، تتحول إلى محض عبث بلعبة، كانت من قبل محببة وشيقة، ومحفزة للخيال، وجعل القارئ المتلقي يحس بأنه جزء منها، مشغوفاً بمتنها وهوامشها، وما ستؤول إليه حبكتها الدرامية، المفتوحة على نوافذ الحياة وأشواق الإنسان، بخاصة في الإمساك بخيوطها غير المرئية. حيث ينتقل الصراع من منطق القبول والمشاركة إلى منطق المتاهة والمباعدة. وهو ما يطالعنا على نحو لافت في قصة «نرسيس الأعلى»، التي يذيلها الكاتب بمقولة لنيتشة على لسان زرادشت تقول: «إنهم لا يفهمونني، لست الفمَ المناسب لهذه الآذان». وكأن المؤلف من دون أن يقصد يبرر من خلالها هذا الفتور والتراجع الذي اعترى هذه القصص.

تبرز المتاهة حين يقرر (آدم) البطل التلاعب بالنوع البشري، فالرجل وهو العالم الحاذق بعد أن تماهى مع شتى أساطير الأرض، من أوزوريس وإيزيس، حتى زرادشت قرر أن يبحث عن الحب والتماهي مع أسطورته الخالدة «روميو وجولييت»، فيلجأ إلى هذه التلاعب، مقرراً أن يحوِّل الكثير من الرجال إلى نساء والكثير من النساء إلى رجال، بل إنه أعاد المتحولين إلى نوعهم الأول حين طلبوا ذلك. يلجأ آدم - بحسب النص - إلى هذا التلاعب عن طريق الحقن المجهري للخلايا الجذعية والهرمونات وبعض الإشعاعات، ولم ينجُ هو نفسه من هذا التلاعب، فحول نفسه إلى أنثى، وأصبح هناك آدم الأول والثاني حتى العاشر، وكذلك حبيبته ليليت... وفي النهاية يجمعهما الموت، وتكتب فيروز سكرتيرته الوفية الغيورة المحبّة له على قبرهما «هنا يرقد آدم وليليت» تمسحاً بأسطورة العشق الخالدة «روميو وجولييت». يعلق الكاتب على كل هذا في نهاية قصة «العنقاء تضرب من جديد»، قائلاً في نبرة لا تخلو من التعالي: «عادت الأشباح تهمس من جديد، غير أنها هذه المرة تهمس في عقلك أنت. نعم أنت يا قارئ القصة: هل لو كنت أنت فيروز. هل تحمل ليليت في أحشائك؟ فكر. فكر. فبالله لم يكتبنا رفيع إلا لكي نفكر».

منطق الإنسان الكامل

يبقى من الأشياء المهمة في الفضاء السردي الشائك لهذه المجموعة أنه ثمة مواجهة صريحة تصل إلى نوع من التحدي ما بين منطق القصة القصيرة الذي يتوخى الدقة والوجازة والتكثيف، ومنطق العلم الذي يتوخى اليقين الصارم والحاسم. وكأننا أمام ميزان مشرّب بنوازع من أدب الخيال العلمي، في كفتيه يتسابق الخيال والواقع، ويتبادلان الأدوار والأقنعة؛ حول من يصل أو يشارف منطق الإنسان الكامل والمتكامل، الإنسان الأعلى، على غرار إنسان نيتشة «السوبرمان» الجامح الذي يمجد إرادة القوة، في صيرورة تبدو أعلى من منطق الوجود والعدم، تخترق الحياة وتكسر ترهلها الميتافيزيقي الضارب في المثالية الأفلاطونية، محققاً «العود الأبدي» الجذر الأساس في فلسفة نيتشة. حيث يرى أنه «ما دام كل موجود يتحرك داخل وعاء العالم، والعالم محكوم بحركة دائمة، فإن الإنسان نفسه منجرف في دورة لا نهائية».

هذه الدينامية النيتشوية التي تسعى لانتزاع الإنسان من تقوقعه وجموده ليلحق بعالم التحول والصيرورة، تنعكس بقوة في فضاء المجموعة، وتضمر نوعاً من التماهي الخفي بين شخصية آدم المركبة متعددة التناص، وشخصية زرادشت بخاصة في كتاب نيتشة الشهير «هكذا تحدث زرادشت»، الذي كشف فيه عن أبعاد هذه النظرية الفلسفية.

في الختام، نحن أمام بطل أحادي، يحركه المؤلف كما يشاء، وفق قوانين لعبة سردية برغم غرائبيتها، فإنها لعبة متفق عليها سلفاً وفق أطر وعلامات وإشارات محددة، لكنها مع ذلك قادرة على أن توحد الداخل بالخارج وفق نموها الدارمي الخاص، وفي رؤية تجعلك تختلف معها بحب.


مقالات ذات صلة

أربعة أيام في محبة الشعر

ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.