أحمد صبري أبو الفتوح: لست نادماً على ترك منصّة القضاء... الأدب وحريتي أثمن من أي منصب

الروائي المصري أكد أن «فن الرواية» يتعرض لمؤامرة

الكاتب أحمد صبري أبو الفتوح
الكاتب أحمد صبري أبو الفتوح
TT

أحمد صبري أبو الفتوح: لست نادماً على ترك منصّة القضاء... الأدب وحريتي أثمن من أي منصب

الكاتب أحمد صبري أبو الفتوح
الكاتب أحمد صبري أبو الفتوح

يعد الكاتب أحمد صبري أبو الفتوح أحد أبرز الأسماء في المشهد الروائي المصري الراهن، نظراً لما تتضمنه أعماله من براعة في السرد وتنوع في الشخصيات وتعدد البيئات الزمانية والمكانية. كما يؤسس مشروعه الأدبي على الانحياز للفقراء والمهمشين وقيم العدالة الاجتماعية. ورغم أنه ارتقى مناصب رفيعة في السلك القضائي، إلا أنه ضحى بكل شيء من أجل التفرغ للأدب والكتابة بحرية. من أبرز أعمالة «ملحمة السراسوة» حصلت على جائزة مؤسسة ساويرس لأفضل عمل روائي فئة كبار الكتاب عام 2010، و«أجندة سيد الأهل»، و«برسكال».

هنا حوار معه حول روايته الجديدة «صاحب العالم» وهموم الكتابة.

* في روايتك الجديدة «صاحب العالم»، ثمة تحذير مكتوب برهافة من سطوة الوسائط التكنولوجية الحديثة، لا سيما مواقع التواصل الاجتماعي، وكيف أصبحت أداة للتجسس على البشر... هل أنت من مؤيدي «نظرية المؤامرة»؟

- إن الأكثر خطورة من تأييد نظرية المؤامرة هو الإقرار بأن العالم خالٍ من المؤامرات، وقد أثيرت على مدى العقود القليلة الماضية الكثير من الأمور المتعلقة بإتاحة البيانات الشخصية للغير من قبل الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي، بل بيعها للشركات وللحكومات وغيرها. وهذا يعني ببساطة أن المعلومات التي يظن المتعاملون مع هذه المنصات أنها سرية هي في الحقيقة ليست كذلك، وهو ما دعا المشرعين في كل أنحاء العالم للتدخل لإقرار تشريعات جنائية تجرم هذا المسلك وتفرض عقوبات مغلظة عليه، والتشريعات لا تجرم أعمالاً تخيلية أو مفترضة، وإنما تواجه واقعاً يتطلب التدخل للحد من الجريمة، الأمر إذن ليس تأييداً أو إنكاراً لنظرية المؤامرة، إنه واقع ملموس ومحسوس ويتقاضى الناس بشأنه أمام المحاكم في جميع أنحاء العالم.

* يهرب البطل في نهاية العمل إلى منطقة نائية بعيداً عن ملاحقات شبكات الهاتف أو الإنترنت حيث الطبيعة والعزلة... هل هذه هي «وصفة السعادة» لإنسان العصر برأيك؟

- لقد اخترت للرواية نهاية مفتوحة يلتم فيها شمل الحب بين حبيبين من نوع خاص جداً، أحدهما مهدد بفضيحة تطيح بكل تاريخه وتدمر سمعته وأسرته، والأخرى امرأة لم تعرف في حياتها الحب، وبعد تجربة زواج مريرة لم تجن منها إلا المال عرفت الحب مع هذا الرجل المهدد بالفضيحة. إنه حب صادق عاقل فيه من معاني الأبوة ومعاني الهيام الكثير، وقد اختارت المرأة أن تذهب إليه حيث يختبئ لتكون معه في محنته، لكن هذا لا يعنى أن الانعزال هو وجهتهما، فالرواية لا تتحدث عن الانعزال إلا بوصفه مؤقتاً، حتى يخرج الرجل المهدد بالفضيحة من دائرة اهتمام وانتقام صاحب العالم وأعوانه، أما كيف سيتعاملان مع الأمر بعد تجنب الفضيحة فهذا أمر متروك للمستقبل، إذ إن هذه الإشكالية المتعلقة بإمكانية إتاحة الأسرار لأي جهة تدفع ثمنها لم تُحل عالمياً برغم القوانين التي تجرمها.

* إلى أي حد استفدت من خلفيتك رئيساً أسبق للنيابة في كتابة عالم السجن بنماذجه البشرية الفريدة التي تعج به هذه الرواية؟

- من حسن حظي أنني لم أكن فقط وكيلاً أول للنيابة الكلية ورئيساً للنيابة فقط، كنت أيضاً أحد أعضاء لجنة العُمد والمشايخ على مستوى محافظة الدقهلية، وكنت - وهذا هو المهم هنا - المختص من أعضاء النيابة العامة بالتفتيش على السجن العمومي. وأتاح لي هذا الاختصاص أن أفاجئ السجن بالزيارة في أي وقت وأتجول في أرجائه وأعاين عنابره وزنازينه وأستمع إلى شكاوى السجناء وأحقق منها ما يحتاج إلى تحقيق. ولهذا أقول بكل أريحية: نعم استفدت من كل ذلك ولم أجد أي صعوبة في تخيل الوضع بالسجن، لا من حيث جغرافيته، ولا من حيث تراتب الرتب فيه، ولا أيضاً من حيث العادات التي يسير وفق مجرياتها المحبوسون بتوافق مع الإدارة في بعض الأحيان.

* ما الذي يميز الأديب حين يكون قادماً من خلفية قضائية، كما في حالتك، وهل ندمت على الاستقالة من المناصب الرفيعة التي بلغتها، هل كان الأدب يستحق تلك التضحية؟

- يتميز الأديب القادم من خلفية قضائية بميزة قد لا توجد إلا لدى الكاتب الموهوب جداً، ألا وهي النظر إلى الموضوع من زوايا مختلفة ومتعددة، وهو ما أسميه «ليبرالية السرد الروائي»، الذي يعني بكل أطياف اللون وليس بالأبيض والأسود فقط. وفي النهاية أنا لم أندم أبداً على تركي العمل في القضاء، فالأدب وحريتي ككاتب أثمن عندي من أي منصب، ثم إن المحاماة التي أمارسها حالياً معنى آخر من معاني القضاء، إنها تجسيد لحق الدفاع وهو أقدس حق من حقوق الإنسان، وكل متهم لا بد أن يتمتع به، حتى لو كان الشيطان نفسه.

* في الجزأين الرابع والخامس من عملك الضخم «ملحمة السراسوة» وكذلك رواية «برسكال»، تتناول ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 بشكل عدّه بعض النقاد منحازاً لها ومدافعاً عنها.. كيف ترى الأمر؟

- لقد اعتاد الناس أن يقولوا هذا، ولا أدرى لماذا، وما الذي زكّى هذا القول، وفي الحقيقة فإن أحداً من النقاد الذين كتبوا عن الملحمة، خصوصاً عن الروايتين الأخيرتين، لم يقل بهذا أبداً، لقد كتب عنها عشرات النقاد، هنا في مصر وفي الوطن العربي، وحتى في المطبوعات العربية في أوروبا، ولم يقل أحد ممن كتبوا هذا. أغلب الظن أن هذا القول منسوب إلى بعض من يريدون تسريب هذا وكأنه واقع، تماماً مثلما يلجأ البعض من باب العداء غير المعروفة أسبابه إلى نشر أكاذيب يجري التأكيد عليها حتى تصبح وكأنها حقيقة.

أما فيما يتعلق بثورة يوليو وانتمائي لها، فهذه تهمة لا أنفيها وشرف لا أدعيه، أنا من أبناء يوليو، وقد عاصرت ورأيت بأم عيني كيف كانت منحازة للفقراء والبسطاء، وكيف انتهجت برامج للتنمية غير مسبوقة، غيرت واقع الناس وحياتهم إلى الأفضل. ورغم ذلك، فإن «ملحمة السراسوة» وجهت نقداً موضوعياً جاداً لتجربة ثورة يوليو، ولو قرأ أصحاب هذا الادعاء العمل لما قالوا هذا، ولهذا أخذت تلك الرواية تحديداً مكانها اللائق في تاريخ الأدب العربي، لست أنا من يقول هذا، الجميع يقولونه.

*هل لا تزال تشعر بأن الآيديولوجية القومية المتعلقة بالعروبة والتي تتبناها جعلت النقاد يتعمدون تجاهلك؟

- لا يمكن إنكار أننا نعيش عصراً من العداء لثورة يوليو وللفكر الاشتراكي بمقارباته كافة، ولا يمكن أيضاً إنكار أن معظم من يمسكون بمقاليد الأمور أو يوجدون في الأماكن المؤثرة هم من الأعداء بالنسبة للفكرة القومية ومن أنصار الفكر اليميني ولديهم في الغالب هوى غربي على نحو أو آخر. ومن أسف فإن انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ألجأت بعض الماركسيين إلى التمنطق ببعض مقولات الفكر الليبرالي وتمويلاته خشية السقوط في الفراغ، وكذلك وقعوا تحت مطرقة أحد أوجه الفكر السلفي الديني، مطرقة التمويل والانحيازات ضد أعدائهم، فأصبح الجميع يقولون الشيء نفسه، كأنه لم يعد هناك فارق بين الماركسي والليبرالى والسلفي في تقييم ما يجري في العالم. لا ينجو من هذا إلا من رحم ربي، ربما لهذا يشكل كوني قومياً اشتراكياً عائقاً كبيراً لدى من يتأثرون بهذا، وفي الحقيقة هم لم يتجاهلوني، لكنهم يقرأونني لمتعتهم كقراء، جميعهم قال لي هذا.

* لماذا تهاجم عموماً النقد بضراوة وترى أنه مات أو على الأقل يحتضر منذ زمن؟

- هناك فارق كبير بين مهاجمة النقد وبين محاولة البحث عن أسباب ضعف دوره في متابعة ومواكبة وتقييم الإبداع. لدينا على المستوى الفردي نقاد عظام، منهم أساتذة في الجامعات وأستطيع أن أضرب عشرات الأمثلة على ذلك، ومنهم من ليسوا كذلك، ولكنهم لم يطوروا مدرسة نقدية عربية على غرار ما يفعلون في الغرب، ولهذا يختلف التقييم من ناقد إلى ناقد، وربما لا يكون الناقد ملماً بصورة الإبداع كاملة. من يريد للمدرسة النقدية العربية الكمال والازدهار لا يمكن عدّه مهاجماً للنقد، بالعكس أنا أحترم النقد والنقاد وأتمنى أن يتبوأ موقعه الصحيح رمزاً لموضوعية وعدالة التقييم الأدبي غير المبني على الشللية أو الهوى أو حتى المحدودية، أو المدرسية النمطية القديمة.

* أليس غريباً أنه في زمن تُرفع فيه شعارات التكثيف وعصر السرعة، تخرج أنت على الناس برواية ملحمية كلاسيكية متعددة الأجزاء... ألا تخشى اتهامك بمعاداة التجريب؟

- هذا ما حدث، الرواية العربية كانت تفتقر إلى كتابة كهذه «الساجا» أو الملحمة الروائية، لقد أدى هذا اللون من الإبداع دوره في فهم ومتابعة تطور المجتمعات الغربية، بل الشرقية أيضاً، في الصين واليابان مثلاً، أما في العالم العربي وفي مصر بالذات لم يكن لـ«الساجا» وجود ملحوظ، اللهم إلا باستثناءات محدودة للغاية. لم يكن الأدب جزءاً من التأريخ في مجتمعاتنا العربية، لقد أسهمت «ساجا» أو ملحمة «السراسوة» بجهد غير منكور في هذا الاتجاه، ولهذا هي التي دافعت عن نفسها، وشقت طريقها فبدأ الجميع يكتب أعمالاً كبيرة، بعضها نجح وبعضها لم ينجح لأنه يفتقر لشروط الأدب الكبير. أما الزعم بأن التاريخ دفن أشكالاً أدبية وأقام على روحها المآتم فهذا أعده نوعاً من التخريف، وهؤلاء الذين يتكلمون عن الكلاسيكية لا يعرفون عما يتحدثون، أيتحدثون عن الرواية البلزاكية مثلاً؟ جيد، بماذا إذن يصفون معظم الروايات الأخرى؟ هل «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني تجريبية؟ هل هي من تيار الرواية الجديدة؟ هل رواية «طيور العنبر» لإبراهيم عبد المجيد تجريبية؟ أنا لا أعادي التجريب، ولكن هذا التجريب يجري منذ خلق الله الإنسان وتكونت المجتمعات، لا أحد يستطيع أن يقاوم التجديد، و«السراسوة» مليئة بالتجريب لمن يقرأها عن وعي.

* تؤكد أن الرواية في محنة وتتعرض إلى مؤامرة كبرى. ما الذي تقصده تحديداً ومن يقف وراء ذلك برأيك؟

- لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال الكبير في عجالة، ولكنني أؤكد على أن الرواية تمر بظروف صعبة بعض الشيء، التجريب يأخذها بعيداً عن مسارها الطبيعي، إلى متاهات لا تمت لعالم الرواية بصلة. فكرة إلغاء الحكاية واحتقار الحبكة ونبذ التراتب وتعظيم وصف الأشياء كما هي وليس من وجهة نظر الإنسان أو بتأثيرها فيه أو تأثرها به وغيرها من الأمور التي لم تستقر على شاطئ حتى الآن تأخذ الفن الروائي بعيداً عن مساره الصحيح، لقد جرى تحديث المدارس الأدبية الروائية بطرق سرد جديدة وأعيد اكتشاف الواقعية مرات ومرات في صور جديدة وبقيت الرواية كما هي مغمورة بسحر الفن، هذا السحر الذي يسعى البعض الآن لتجريدها منه.


مقالات ذات صلة

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي مع توشيكو آبي وزيرة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية في اليابان (الشرق الأوسط)

الرياض وطوكيو نحو تعاون أعمق في مختلف المجالات الفنية والثقافية

تهدف «مذكرة التفاهم» إلى تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين الرياض وطوكيو واليابان في مختلف القطاعات الثقافية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى.

«الشرق الأوسط» (باريس)
شؤون إقليمية أعربت القنصلية الفرنسية في القدس في بيان عن «غضب» باريس من عمليات الهدم الإسرائيلية مشيرة إلى أنها دعمت المركز الثقافي المدمر (مقر جمعية البستان) «بأكثر من نصف مليون يورو» منذ عام 2019 (وفا)

فرنسا تطلب «تفسيراً» من السلطات الإسرائيلية بعد هدم مركز ثقافي في القدس

أكدت الخارجية الفرنسية، الجمعة، أن باريس طلبت «تفسيراً من السلطات الإسرائيلية»، بعد هدم مقر جمعية البستان الذي موّلته فرنسا في حي سلوان بالقدس الشرقية المحتلة.

«الشرق الأوسط» (باريس)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.