تمثال لازوردي سومري من جزيرة تاروت

أثار فضول كبار المختصّين نحو فنون ما بين النهرين

تمثال من جزيرة «تاروت» السعودية وتمثال مشابه من جزيرة «فيلكا» الكويتية
تمثال من جزيرة «تاروت» السعودية وتمثال مشابه من جزيرة «فيلكا» الكويتية
TT

تمثال لازوردي سومري من جزيرة تاروت

تمثال من جزيرة «تاروت» السعودية وتمثال مشابه من جزيرة «فيلكا» الكويتية
تمثال من جزيرة «تاروت» السعودية وتمثال مشابه من جزيرة «فيلكا» الكويتية

من جزيرة تاروت التي تتبع محافظة القطيف في المنطقة الشرقية، خرجت مجموعة من اللقى الأثرية تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، منها تمثال صغير الحجم صُنع من حجر اللازورد، يتبع، بشكل لا لبس فيه، النسق السومري الذي ساد في تلك الحقبة في نواحٍ عدة من بلاد ما بين النهرين، وأشهر شواهده مجموعة من التماثيل تُعرف بـ«كنز تل أسمر»، يعود اكتشافها إلى عام 1933.

عُثر على هذا التمثال الصغير ضمن مجموعة متعدّدة من القطع الأثرية في أثناء عمليات التنقيب التي أجريت في جزيرة تاروت لشق طريق فيها في نهاية ستينات القرن الماضي، وكان الباحث الآثاري العراقي الراحل صبحي أنور رشيد أوّل من عرّف به في مقالة بالألمانية نُشرت في 1972، بعدما قُدمت في مؤتمر جامعي علمي عُقد في ميونيخ خلال صيف 1970. أثار هذا التمثال فضول كبار المختصين بفنون بلاد ما بين النهرين ومحيطها، وأولهم الباحث الأميركي دانيال بوت الذي ذكره في الجزء الأول من كتابه المرجعي «الخليج العربي في العالم القديم» الصادر في أكسفورد عام 1990، ثم الكاتب البريطاني مايكل رايس الذي ذكره كذلك في كتابه «علم الآثار في الخليج العربي» الصادر في لندن سنة 1994.

عُرض هذا التمثال المحفوظ في المتحف الوطني بالرياض ضمن معرض ضخم حمل عنوان «فن المدن الأولى»، أُقيم في متحف متروبوليتان في نيويورك عام 2003، وعُرض ثانية ضمن معرض «طرق الجزيرة العربية» الذي انطلق من متحف «اللوفر» في باريس صيف 2010، وجال بعدها سلسلة من العواصم العالمية. لم يصل هذا التمثال بشكله الأصلي الكامل للأسف، وما تبقّى منه هو الجزء الأعلى، وطوله لا يتعدّى 5 سنتيمترات، ويمثّل رأساً آدمياً يعلو قامة بقي منها صدر عريض فقد ذراعيه. الوجه دائري، وهو في وضعية المواجهة، تعلوه مساحة مسطّحة من الشعر، وتحدّ خديه لحية طويلة تزيّنها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. عيناه عملاقتان، وهما على شكل لوزتين فارغتين غائرتين عمقاً، ممّا يوحي بأنّهما كانتا مطعّمتين في الأصل بأحجار مستقلّة أضيفت إلى القالب اللازوردي الذي صُنع منه التمثال. الأنف مستقيم، حجمه صغير؛ قياساً إلى حجم العينين الطاغيتين. الفم مُطبق مكوّن من شفتين عريضتين يفصل بينهما شقّ رفيع غائر.

يبدو هذا الرأس من غير رقبة، ويستقرّ مباشرة فوق صدر أملس تحدّه عند الطرف الأيمن سلسلة من الخطوط الأفقية، ممّا يوحي بأن صاحبه يرتدي معطفاً يكسو قامته في الأصل. حافظ ظهر التمثال على نقوشه، وتتمثل هذه النقوش في خصل طويلة من الشعر تشكل شبكة من الخطوط المستطيلة تنسدل من قمة الرأس إلى أعلى ظهر القامة. في الجزء الأسفل، تظهر مساحة ناتئة تماثل في شكلها ظهر مقعد ضاع أثره، ممّا يوحي بأن صاحب التمثال كان حاضراً في وضعية الجالس على هذا المقعد. يتبع هذا التمثال بشكل جليّ تقليداً فنياً ساد في العالم السومري، تتجلّى ملامحه في كثير من الشواهد الأثرية، أشهرها من دون أي شك مجموعة من التماثيل تُعرف بـ«كنز تل أسمر»، نسبة إلى التل الذي يقع في محافظة ديالى (العراق)، شمال شرقي بلاد سومر، قرب مدينة بعقوبة، وهو موقع مدينة أشنونة التي شُيّدت في الألف الثالث قبل الميلاد خلال فترة حكم نبوخذ نصر.

في عام 1929، حصل «معهد الدراسات الشرقية» بجامعة شيكاغو على امتياز للتنقيب في المواقع الممتدة في شرق نهر ديالى، وكُلف عالم الآثار الهولندي هنري فرنكفورت قيادة هذه الحملة، فأجرى مع فريقه سلسلة من عمليات التنقيب بين عامي 1930 و1937 في 4 نواح، منها تل أسمر. عُثر على «كنز تل أسمر» في عام 1933، وحوى هذا الكنز مجموعة مؤلفة من 12 تمثالاً نذرياً خرجت من تحت أرضية معبد شُيّد لمعبود يُدعى «أبو»، دخلت منها 7 تماثيل المتحف العراقي في بغداد، وتوزعت القطع الأخرى على متحف «متروبوليتان» في نيويورك، ومتحف «المعهد الشرقي» في شيكاغو. تتألف هذه المجموعة من 10 قامات تمثّل رجالاً في وضعية واحدة جامعة، وقامتين أنثويتين في وضعية مماثلة، وتتميز سائر وجوه هؤلاء المتعبدين بعيونها العملاقة المطعمة بالصدف الأبيض والحجر الجيري الأسود، واللافت أن بؤبؤ عين أحد التماثيل مطعّم باللازورد.

يشابه تمثال «تاروت»، في تأليفه كما في سمات وجهه، تماثيل «كنز تل أسمر» التي تجسّد متعبدين ملتحين، لهم شعور طويلة مقسمة إلى نصفين متماثلين، تحيط بسطوح خدودهم وجبهاتهم الناعمة. تجسّد هذه التماثيل الطراز السومري الذي برز في زمن الأسرتين الأولى والثانية اللتين حكمتا بين عام 2990 و2550 قبل الميلاد، ممّا يوحي بأن تمثال «تاروت» يعود إلى النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، ولا ندري إن كان من نتاج هذه الجزيرة أم إنه وصل إليها من الخارج؟ إذ إننا لا نجد ما يماثله في هذا الموقع من ساحل الجزيرة العربية.

في المقابل، نقع على تمثال منمنم يتبع هذا النسق عُثر عليه في جزيرة فيلكا التي تقع في الركن الشمالي من الخليج العربي، وتتبع اليوم محافظة العاصمة في دولة الكويت. عُثر على هذا التمثال في جنوب شرقي الجزيرة، في الموقع الذي يُعرف باسم «تل سعيد»، وهو من الحجر الصابوني الأسود المعروف بالكلوريت، ويمثّل وجهاً له لحية طويلة تعلوها شبكة من الخطوط الغائرة المتقاطعة.

أنف هذا الوجه صغير ومهشّم، وعيناه عملاقتان، وهما مجوّفتان، وتماثلان في حجمهما، مثلما في تجويفهما، عيني تمثال «تاروت»، ممّا يوحي بأنهما كانتا مطعّمتين في الأصل، وفقاً للطراز السومري الذي تجسّده تماثيل «كنز تل أسمر»، وتماثيل رافدية أخرى تتبع هذا التقليد الفني البديع.


مقالات ذات صلة

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

العالم العربي الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني خلال كلمته (سبأ)

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

في لحظة وصفت بـ«التاريخية»، أعلنت الحكومة اليمنية استرداد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية، ووضعها بمتحف المتروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك بشكل مؤقت…

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق دهشة الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي «نجم» رسوم عمرها 2000 عام في بيرو

تُعدّ خطوط نازكا، التي تعود إلى 2000 عام مضت، رسوم لنباتات وحيوانات، يمكن رؤيتها فقط من السماء. وقد أُعلنت ضمن مواقع التراث العالمي لـ«يونيسكو» عام 1994.

«الشرق الأوسط» (بوينس آيرس)
يوميات الشرق إطلالة على مدينة طرابلس اللبنانية من أعلى قلعتها الأثرية (الشرق الأوسط)

«جارة القلعة» تروي حكاية طرابلس ذات الألقاب البرّاقة والواقع الباهت

لا يعرف معظم أهالي طرابلس أنها اختيرت عاصمة الثقافة العربية لهذا العام، لكنهم يحفظون عنها لقب «المدينة الأفقر على حوض المتوسط».

كريستين حبيب (طرابلس)
شمال افريقيا مبنى المتحف القومي السوداني في الخرطوم (متداول)

الحكومة السودانية تقود جهوداً لاستعادة آثارها المنهوبة

الحكومة السودانية عملت على اتخاذ التدابير اللازمة لحماية وتأمين 76 موقعاً وصرحاً أثرياً تاريخياً في ولايات نهر النيل والشمالية، وجزء من ولاية الخرطوم.

وجدان طلحة (بورتسودان)
يوميات الشرق من أعمال التنقيب في موقع زبالا التاريخي المهمّ على درب زبيدة (واس)

السعودية... آمالٌ تُفعّلها المساعي لالتحاق مواقع بقائمة التراث العالمي

العمل قائم على تسجيل مواقع جديدة في القائمة الدولية للتراث العالمي، من أهمها دروب الحج القديمة، لا سيما درب زبيدة، بالإضافة إلى ملفات أخرى تشمل الأنظمة المائية.

عمر البدوي (الرياض)

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر
TT

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

عن دار «العربي» للنشر في القاهرة، صدرت طبعة جديدة من رواية «المغفلون» للكاتب الفرنسي إريك نويوف، ترجمة لطفي السيد منصور. ويشير المترجم في تقديمه لها إلى أنه في أحد حوارات ميلان كونديرا الذي يعدِّد فيه أشكال الرواية في القرن الثامن عشر، أكد أن «رواية الرسائل»، التي تعتمد في بنيتها على الرسالة، أتاحت حرية شكلية كبيرة للغاية لأن الرسالة يمكنها استيعاب كل شيء بشكل طبيعي جداً مثل التأملات والاعترافات والذكريات والتحليلات السياسية والأدبية. ويعتقد المترجم أنه من أجل هذه الحرية واستيعاب موجة غضب الراوي الذي سُرقت منه حبيبته وذاكرته الغاضبة المرتبكة، اختار المؤلف شكل الرسالة ليبني عليها معمار روايته.

وتعد الرواية رسالة طويلة يوجهها بطلها الراوي الشاب ذو الأعوام الثلاثين ويعمل في وكالة للدعاية والإعلان، إلى الرجل الذي سرق حبيبته المثيرة والمتقلبة «مود» والذي قابله في أثناء قضاء الأخير عطلة في جزيرة قبالة مدينة روما. في البداية لم يكشف الرجل عن هويته الحقيقية لكن فيما بعد اكتشف أنه سيباستيان بروكينجر (كاتب أمريكي شهير، منسحب من الحياة العامة و قرر الاختفاء من العالم والإقامة في غابة ليعيش حياة وديعة بعيدة عن صخب الشهرة).

تبدو القصة العامة هنا مجرد حيلة فنية استخدمها المؤلف ليطرح وجهة نظره وتساؤلاته حول العالم وهل نعيش عصراً يتآمر علينا، وكيف أصبحت الحياة بمثابة شريط لا نمثل فيه سوى لقطة مما لا يمكّننا ولا يمكّن الآخرين من التأمل فيها وفهمها. والرواية إجمالاً قصيرة، كُتبت برشاقة وتكثيف، تتخللها أقوال مأثورة فاتنة ومخيِّبة للآمال، كما تختلط فيها المشاعر باللامبالاة، في إيقاع سردي لاهث حاد اللهجة، يتسم أحياناً بالتشنج والعصبية؛ فتأتي الأحداث في غير ترتيبها ولكن حسب صعود وهبوط الحالة النفسية للراوي وذاكرته وما يتوارد إليها.

نجح الكاتب في اختيار وظائف شخصياته؛ فالحبيب يعمل في الدعاية والإعلان، تلك المهنة التي تعرض كل شيء وتبيع كل شيء حتى الشيء وضده، وتُقنعك بأن تشتري ما لا تحتاج إليه. والحبيبة التي سُرقت منه تعمل في تسويق العقارات، وهو مجال مشابه يقوم على مبدأ البيع بأي طريقة. أما الكاتب الأمريكي الغني، فقد استطاع بحكم مهنته أن يبهر «مود» بماله وممتلكاته وهالته الملغزة، هو أيضاً يستلهم مهنة البيع أو التسويق حتى يُغري الفتاة بشراء رجل عجوز وترك شاب ثلاثيني.

وإريك نويوف، كاتب وصحفي فرنسي وُلد 1956، بدأ مشواره الأدبي 1980 وكتب نحو 20 عملاً أدبياً منها هذه الرواية التي نُشرت للمرة الأولى في 2001 و فازت بالجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«عندما أفكر ثانيةً في مود أتذكر شارع ميزيير، أرى سيارتها الصغيرة في جراج السكان بملصقها الأصفر على الزجاج الأمامي وساعتها التي كانت تؤخِّرها ساعةً كل صيف. أفكر في الأطفال الذين لم نلدهم والذين كانوا سيلعبون في حديقة لوكسمبورغ القريبة جداً. مود، لو سمحتِ توقفي عن النظر من فوق كتف سيباستيان، أعرفك... اتركينا لو سمحتِ، نحن في جلسة تقتصر على الرجال فقط. سيحكي لكِ سيباستيان كل هذا بالتفصيل بمجرد الانتهاء منها. قلْ لها يا سيباستيان، فلتذهبي لتُنزِّهي الكلب العجوز الذي ينام عند قدميكِ وأنتِ تكتبين على الآلة الكاتبة.

أعرف أنكَ ولدتَ يا عزيزي عام 1929، شيء من هذا القبيل. تلاعبت بكل سجلاتك في مدرسة الليسيه التي كنت ترتادها. رفض المدير أن يزوِّدنا بأي معلومات تخصك، سجلك العسكري أيضاً يتعذر الوصول إليه على نحو غامض. احترق المكتب الذي كان يحويه، لم يعد هناك أي أثر لملفك الجامعي. نشرت أولى قصصك في صحيفة الطلبة، فيما كنت بالكاد في العشرين من العمر، قصة عن الانتحار وعن سمك القراميط. في فترة ما كنت تعمل على مركب يُبحر في عرض الكاريبي، كانت الكبائن ممتلئة بالمتقاعدين الذين يرتدون شورتات قصيرة ولا يغادر نصفهم حافة المرسى. كان من المفترض أن تكون المرشد الخاص بهم، هناك لغز ما في ذلك في رأيي، من الواضح جداً أنك تمسكت بهذه الوظيفة لتحقق بسببها نتائج جيدة في سيرتك الذاتية».