«المُراجعات» لشرف الدِّين العاملي... حوار مُتخيل

ظل الأزهر متغافلاً لعقود طويلة كان الكتاب خلالها يُطبع بغزارة

 غلاف الطبعة الأولى من المراجعات (1936)
غلاف الطبعة الأولى من المراجعات (1936)
TT

«المُراجعات» لشرف الدِّين العاملي... حوار مُتخيل

 غلاف الطبعة الأولى من المراجعات (1936)
غلاف الطبعة الأولى من المراجعات (1936)

في البدء، أود الإشارة إلى أنَّ مَن يتناول مثل هذه المواضيع عليه تلقي الغضب؛ والاستحسان أيضاً، والفريقان الغاضب والمستحسن يتبادلان المواقع، بين موضوع وآخر، وفق قناعات كلٍّ منهما، فيكونان يوماً معك وآخر عليك. عندما كتبتُ عن عدم صحة تلمذة الإمام أبي حنيفة النُّعمان (ت: 150 هـ) على يد الإمام جعفر الصّادق (ت: 148 هـ)، واختلاق مقولة: «لولا السنتان لهلك النّعمان» (الدَّهلويّ، التُّحفة الاثني عشريّة)، غضب عليّ مَن غضب واستحسن مَن استحسن؛ وفق اختلاف العقائد، وعندما أكدتُ براءة الوزير ابن العلقمي (ت: 656 هـ) من خيانة الخلافة العباسيّة لصالح المغول، تبادل الغاضبون والمستحسنون المواقع، وفق العقائد أيضاً، ولما بينتُ عظمة هارون الرّشيد (ت: 193 هـ) ونجله الخليفة المثقف عبد الله المأمون (ت: 218 هـ) وفضلهما على ازدهار بغداد، تبدلت المواقع، ضدي ومعي، وفق العقائد أيضاً. وعندما نفيت أن يكون للشيعة قرآن غير ما بأيدي المسلمين كافة، غضب فريق واستحسن فريق آخر. هذا الموضوع سيجلب الغضب عليّ، ومَن يستحسن أيضاً، مع أنّه لا شأن للعقائد بما كتبتُ، إنما هذا تاريخ، ومَن يتغافل عمّا يراه حقيقةً، خشيةً مِن غضب أو طمعاً باستحسان، فعليه كسر القلم وغلق الفم.

عودة إلى العنوان، اشتهر كتاب «المُراجعات» لرجل الدّين اللُّبنانيّ العامليّ عبد الحسين شرف الدّين الموسويّ (1873-1957)، قلما يشتهر كتابٌ مثله، خصوصاً بين أتباع المذهب الشّيعي الإماميّ، حتَّى يمكن وصفه بـ«المانفيستو»، لأنّه كان حواراً مع ممثل المذهب السّنيّ والعقيدة الأشعريّة الأكبر، وهو إمام الأزهر الشّيخ سليم البِشِريّ (1832-1916).

صدر الكتاب بطبعته الأولى (1936)، نشرته مطبعة العرفان بصيدا، ثم ظل يُطبع، وبلغ عدد الطَّبعات حتَّى 1983 خمساً وعشرين طبعةً، وأمامي طبعة الكتاب الأولى والخامسة والعشرون، وما زال يُطبع، فالكتاب صار مِن الشّهرة والموثوقيّة ما إن يجري نقاشٌ في العقائد إلا ويُنصح بمراجعته بين المذهبين.

لكن، هل كان الكتاب فعلاً هو زبدة حوار بين إمام الأزهر؛ وكان عمره آنذاك 79 عاماً (عام الحوارات ذو القعدة 1329 إلى جمادى الأولى 1330 هـ/ نوفمبر، تشرين الثاني، 1911 إلى أبريل، نيسان، 1912)، بينما كان عُمر شرف الدّين 38 عاماً، وحينها لم يكن مرجعاً بلبنان ولا خارجه، فالمرجع المعروف بالنَّجف كان السّيد محمَّد كاظم اليزديّ (ت: 1919)، فهل يمكن أن يجري حوارٌ عقائديٌّ، ويتنازل فيه الإمام المالكيّ الأشعري، وهو إمام الأزهر، عن عقيدته الأشعريّة ومذهبه السُّنيّ المالكيّ، ويُهزم عقائدياً أمام شابٍ، ينتظره مشوارٌ طويلٌ كي يكون مجتهداً ومرجعاً، مثلما صار إليه شرف الدّين فيما بعد؟!

جاء في تنازل إمام الأزهر، المنشور في «المراجعات» في ختام الكتاب، الآتي: «أشهد أنكم في الفروع والأصول على ما كان عليه الأئمة من آل الرَّسول، وقد أوضحتَ هذا الأمر فجعلتَه جلياً، وأظهرتَ مِن مكنونه ما كان خفياً، فالشّك فيه خبالٌ، والتَّشكيكُ تضليلٌ، وقد استشففته فراقني إلى الغاية، وتمخرت ريحه الطَّيبة، فأنعشني قدسيٌ مهبها بشذاه الفياح، وكنت ـ قبل أن أتصل بسببك ـ على لبسٍ فيكم؛ لما كنت أسمعه من إرجاف المرجفين، وإجحاف المجحفين، فلما يسر الله اجتماعنا آويت منك إلى علمِ هدى، ومصباح دجى، وانصرفتُ عنك مفلحاً منجحاً، فما أعظم نعمة الله بك عليَّ، وما أحسنُ عائدتك لدي، والحمد لله رب العالمين» (المراجعات/ المراجعة قبل الأخيرة: 111).

يتألف الكتاب مِن 112 مراجعة، كانت مناصفةً بينهما، والأولى كانت للبشري، وفيها اقترح قائلاً: «سيكون توقيعي في أسفل مراجعاتي كاخا (س)، فليكن توقيعك (ش)». وكانت الأخيرة لشرف الدّين، التي يعلن فيها تصريح البشري بالحق: «حتّى برح الخفاء وصرح الحقّ عن محضهِ». اللافت للنّظر أنّ الكتاب اشتهر على أنه مناظرات بينهما، ولم نجد أثراً لاسم البشريّ ولا موقعه كإمام الأزهر، إنما المراجعات كافة ذُيلت بحرفي «س» و«ش»، وهنا لنا تفسيرها بالسُّني والشِّيعي، مع أنّ الشّائع لـ«سليم» و«شرف الدّين». فإذا كان الحرفان رمزين للشخصيتين، فمثلما كان «س» الحرف الأول لسليم البِشريّ، يكون حرف «ع» لعبد الحُسين شرف الدّين، وإذا كانا يرمزان للقبين فيكون حرف «الباء» للبشري، مثلما الشّين لصاحب الكتاب، فالقصد من الحرفين كان بين سني وشيعي، أي حوار بين السّنة والشّيعة.

تأتي البينة الأخرى مِن أنّ الحوار كان متخيلاً، وليس مثلما شاع أنه مناظرات حصلت بين إمام الأزهر والسَّيد شرف الدِّين، أنَّ الأسلوبَ واحدٌ تماماً بين المراجعات (س وش)، وأنّ كاتبها واحد، فكان التَّعبير متطابقاً تماماً، والواضح أنَّ السَّيد شرف الدّين كان يحاور نفسه، بما في داخله مِن رغبةِ التَّأثير في الخلاف المذهبيّ، وبالأخير أراد أنّ يكون مذهبه هو السّائد، فقدم محاوره المتخيل متنازلاً عن مذهبه. لكنَّ السّؤال: هل يُعقل أنَّ إمام الأزهر، صاحب المؤلفات والباع في المذهب المالكيّ والعقيدة الأشعريّة، يوافق على كلّ ما يطرحه الشّاب شرف الدّين، وبهذه السّهولة، حتّى تنتهي المحاورات بهزيمته عقائدياً، وباعترافه؟!

هذا، وختم شرف الدّين «المراجعات» بسطرين، يلفت بهما نظر القارئ إلى أنّ الكتاب كتابه، عندما يقول: «تم الكتاب بمعونة الله عز وجلّ، وحسن توفيقه تعالى بقلم مؤلفه عبد الحُسين شرف الدِّين الموسويّ العامليّ، عامله الله بفضله، وعفا عنه بكرمه، إنه أرحم الرّاحمين» (المراجعات).

لم يكن الأزهر مؤسسة ثانويّة وحديثة التّأسيس، إنما تاريخه يعود إلى أكثر مِن ألف عام، ولا إمامه البشريّ كان شخصاً مجهولاً، كي يتم التّنازل عن عقيدةٍ مؤسسةٍ، ومذهب تتدين به الملايين، بالشّرق والغرب، مثل المذهب المالكيّ، ولو حدث لما خفي الأمر في تاريخ الأزهر نفسه، ولسُجلت تلك الحوارات، ولعُزل إمامه عن المشيخة، مثلما حدث مع كثيرين نزعت عنهم جبة الأزهر وعمامته. إضافة إلى ما تقدم من أنّ شرف الدّين في ذلك الوقت كان شاباً، يصعب أنه حاور إمام الأزهر، وانتصر عليه بالضَّربة القاضية، مثلما ورد في «المراجعات»... اعترف بها في آخر مراجعة سجلها مع شرف الدِّين.

ظل الأزهر صامتاً أو متغافلاً عن كتاب «المراجعات»، فهو مثلما تقدم لم يُذكر فيه اسم شيخ الأزهر سليم البّشريّ، إنما أشير إليه بالإيماء. قال شرف الدّين: «هبطتُّ مصراً أواخر 1329 مؤملاً في نيله، نيل الأمنية التي أنشدها، وكنتُ ألهمتُ أني موفق لبعض ما أريد، ومتصل بالذي أداور معه الرّأي (إلى قوله) كذلك كان عَلم مصر وإمامها، وهكذا كانت مجالسنا، التي شكرناها، شكراً لا انقضاء له، لا حد» (مقدمة مؤلف المراجعات). فلو ذكر شرف الدّين إمام الأزهر باسمه، أو لقبه، أو منصبه لربّما تنبهت مشيخة الأزهر، وقالت كلمتها في الكتاب. مع العِلم بأنَّ الكتابَ طُبع بعد عشرين عاماً من وفاة المحاور، المتخيل، إمام الأزهر سليم البّشري عام 1916، والكتاب طُبع 1936.

قلتُ ظل الأزهر متغافلاً، لعقود طويلة، خلالها كان الكتاب يُطبع بغزارة، حتّى جاءت إمامة الشَّيخ جاد الحقّ علي جاد الحقَ للأزهر (1982)، فبدأ الانتباه للكتاب المذكور، وزج اسم سليم البشريّ فيه، وتخليه عن عقيدته الأزهريّة، وهذا أمر خطير، فكلف جاد الحقّ من يرد على الكتاب، ولم يرض عن الرُّدود، حتى ردّ على الكتاب، بتكليف مِنه، الشّيخ عليّ أحمد السَّالوس (ت: 2023)، وظهرت نقائض كثيرة للكتاب فيما بعد، وطرق القضية «مركز المسبار للدراسات والبحوث» في اثنين مِن كتبه الشّهريَّة «التّشيع في مصر»، الكتاب 77، و«الأزهر مرجعيّة التّقليد السُّنيّ في أزمنة التّغير»، الكتاب 88.

اتصل السَّالوس بالشَّيخ محمَّد بن سليم البشريّ، واستفسره عن هذا الحوار مع والده، فأجابه: «قرأت الحديث على أبي ثلاثين سنةً، فما ذَكر لي شيئاً عن الشّيعة، وما كان يخفي عني شيئاً» (السّالوس، نقض المراجعات: المقدمة)، ثم أصدرت أسرة البِّشري بياناً أشارت فيه إلى عدم صحة ما نُسب للبشريّ الأب.

كان يمكن للشيخ السّالوس أنْ يرد بغير هذا الأسلوب، فكان الحقّ العلميّ معه، لكنه انشغل عن ذلك بتخوين طائفة كاملة، والسَّب والقذف، ولم يبق بحدود مؤلف الكتاب وكتابه، فصحيح أنَّ الكتاب اشتهر على أنه حوار بين البشريّ وشرف الدِّين، لكنَّ الحجَّة التي على السّالوس التَّمسك بها أنَّ شرف الدين لم يدون اسم البشريّ صريحاً، ولم ينظر بما رمز له الحرفان، في ذيول المراجعات، فأنت عندما ترد لا تحتاج إلى إقناع أهل طائفتك، فهم لا تعوزهم القناعة، بأنّ إمام الأزهر لا يمكن أن يعلن تنازله عن عقيدته، وهو إمامها في عصره، إنما تحتاج إقناع الطائفة التي شاع الكتاب بين أتباعها كـ«مانفيستو»، مثلما تقدم، وبيانها الأول، فإذا ملأت ردك بالسّبّ والتَّكفير عزف عن قراءة كتابك مَن تريد توضيح الأمر لهم، هنا يجب العمل في التّاريخ لا في نزاع العقائد، وهو: هل كان الكتاب واقعاً أم مزوراً أم متخيلاً؟

أرى أنَّ هذا النّوع، أو الضَّرب مِن التَّصانيف أو المؤلفات، كان معروفاً، عندما تريد تقديم فكرة أو نقض أخرى تتخيل محاوراً، وأنت تسأل وتُجيب، وبالأخير تنتصر لعقيدتك، فعلها الطَّبيب مصطفى محمود في كتابه «حوار مع صديقي الملحد»، وهو ادعى أنه كان شيوعياً وانقلب وصار يعظ ضد عقيدته الأولى، وهذا الكتاب المتخيل أسهم في تكريس الصَّحوة الدِّينية ثقافياً، وقبله كان كتاب العلامة محمد جواد البلاغي (ت: 1936)، أدار حواراً مع نفسه متخيلاً، مع شخص سماه «عمانوئيل»، فكان كتابه «الرّحلة المدرسيّة بحوث في التّوراة والإنجيل» (صدر 1928)، وظهر انتصاره كمسلم على الآخرين، ومنه فصل كبير في الحوار عن نظرية داروين، لنقضها، والأمثلة كثيرة، على هذا النّوع مِن التَّأليف، بين الأقدمين والمتأخرين.

ما أعتقده أنَّ تأليف السّيد شرف الدِّين لهذا الكتاب كان متخيلاً، دفعه ما بين السّنة والشّيعة من جدل وخلاف، وهذا ما وضحه في مقدمة «المراجعات»، وأراد «إسلام بلا مذهبية»، ولكن كيف يكون شكل هذا الإسلام، بالنِّسبة لرجل دين شيعيّ، لا بد أنْ يكون شيعياً في تصوره؛ واختار محاورة شخصية كبرى، مثل إمام الأزهر البشريّ، وأن ينتصر عليه في مخيلته، وكان مِن نقاط الحوار سؤال البشري لشرف الدّين: لماذا لا تعتقدون بمذهب الأشعري؟ فكان الحوار، فالكتاب (المراجعات) المتخيل، على أنّ إمام الأزهر راجع نفسه، فسميت الحوارات بالمراجعات. أقول، وأحسب نفسي متخيلاً، فيما أدعيه، وهو أنّ الجماعات الإسلاميَّة التي ناقشت فكرها، وأعادت النّظر في ممارستها العقائديّة، نظرت العنوان، فسمت كتبها بالمراجعات.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.