متلازمةُ الحنين إلى عصر النهضة

عصرنا الحالي محكومٌ بثلاث قوى تقنية صارت المعالم الأساسية لثقافته

متلازمةُ الحنين إلى عصر النهضة
TT

متلازمةُ الحنين إلى عصر النهضة

متلازمةُ الحنين إلى عصر النهضة

لو طلبْنا إلى جمهرة منتخبة من الناس - مختلفة المشارب المهنية والتوجهات الثقافية - توصيفَ إنسان العصر الحالي، فأظنُّ أنهم سيتفقون على وصفه بـ«الإنسان الرقمي».

سيُسهِبُ بعضهم في كيل الخواص المستحسنة لمن غادر عصر الأمية الرقمية وامتلك شيئاً من القدرة التقنية المقبولة والكافية لكي يبحر في لُجّة المحيط الرقمي بكلّ تفاصيله التي تستعصي على إتقان فرد واحد حتى لو جعل عمره كلّه منحة مجانية لهذا التدريب الساعي للإتقان.

يحقُّ لهؤلاء إعلاءُ شأن الانتماء ونيل شرف عضوية الإمبراطورية الرقمية المتغوّلة والباسطة سطوتَها على كلّ مناحي الحياة المعاصرة. لو ساءلْنا هؤلاء: إتقانُ بعض جوانب العالم الرقمي ليس ثقافة، أو لنقُلْ إنه ثقافة منقوصة لأنه معرفة تقنية تقوم على تنميط المعرفة البشرية في نطاق خوارزمي صارم، فسيجيبك بعضهم: لا شأن لي بتعريفات الثقافة وخواصها الإجرائية. ألا ترى معالم السطوة الرقمية شائعة في كلّ مكان؟ لن يفيدك شكسبير أو دانتي أو لايبنز بشيء لو كنت أمياً رقمياً؛ أما لو امتلكت بعض أسرار العالم الرقمي، فحينذاك سيكون شكسبير أو دانتي أو لايبنز أقرب لإكسسوارات ثقافية. أقول هذا على افتراض أنّ هؤلاء المسكونين بسحر العالم الرقمي من الأجيال الشابة سمعوا أو عرفوا شيئاً عن رموز ثقافية وأدبية وفلسفية من أمثال شكسبير ودانتي ولايبنز.

لايبنز

مِثْلُ هذا الكلام أحسبُهُ باعثاً على شجون كبرى؛ لأنه يخلطُ حوابل الأمور بنوابلها حتى لتتيه علينا الرؤية الدقيقة في عصر ملتبس ومشتبك. سأحاول توصيف حالنا الثقافية الحاضرة في متتالية منطقية خطية مُسبّبة كما يفعل المناطقة:

- عصرنا الحالي محكومٌ بثلاث قوى تقنية صارت المعالم الأساسية لثقافته: سطوة تقنية رقمية، تغوّلٌ خوارزمي، استعمار بياناتي. أنت اليوم لستَ سوى بصمة بياناتية مرصودة ومُتابَعة من قبل كبرى الشركات التقنية (خصوصاً الستّ الكبار المعروفة التي تتحكمُ في مفاتيح عوالمنا الرقمية).

- تميل الأجيال الشابة إلى إبداء مرونة دماغية عظمى في التعامل مع المعطيات الرقمية وعالم الأعمال المرتبطة بها (تصميم المواقع الرقمية مثلاً)؛ ولمّا كانت هذه الأعمال هي المفضّلة حالياً فهذا يمثّلُ مصدر دافعية أعظم لخوض تجربة التطوّر والارتقاء الرقمي. من الطبيعي أن تتعاظم مناسيب الدافعية عندما يرتبط العائد المالي مع نمط الثقافة السائدة بدلاً من أن تُطْلَبَ الثقافةُ لذاتها ولمفاعيلها الجمالية والفلسفية الخالصة. أحسبُ أنّ الشاب المعاصر في كلّ العالم يسعى لنيل مكافآت فورية عن أي جهد يبذله، ولم يعُد يرتضي بالعوائد المؤجلة التي كانت المثاقفة القديمة ترتضيها. الثقافة من غير عوائد مالية تبدو موضة متقادمة عند كثيرين.

- ثمّة إشكالية تنشأ مع الأجيال ما قبل الشابة، وتتعاظم مقادير هذه الإشكالية كلّما تقادمت أعمارُ الناس. يكمنُ جوهرُ هذه الإشكالية في «الهجنة الثقافية (Cultural Hybridity)» التي عاشوها واختبروها بين الأنماط الثقافية ما قبل الرقمية ونظيراتها الرقمية. لا يعوز هؤلاء (أو دعونا لا نعمّم. لِنَقُلْ في أقلّ تقدير بعضاً من هؤلاء هجناء الثقافة) العزيمةُ والاصطبارُ على مكابدة متطلبات الهجنة الثقافية. كثيرون منهم أتقنوا وسائل العالم الرقمي وأدواته وطوّعوها، وأفادوا فائدة كبرى برهنت أحياناً أنها كانت أفضل من حيث النتائج ممّا انتهى إليه بعض الشباب من متغوّلي القدرة على الأداءات الرقمية والتفاعلات الخوارزمية والانغماس حتى قيعان البيانات السحيقة. لم يعُدْ مناسباً أن يخدعنا أحدٌ بالقول القاطع إنّ الدماغ الشاب أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع مستلزمات السيولة الرقمية من أدمغة الأكبر سنّاً. براهين تجريبية كثيرة أثبتت أنّ الشغف الروحي والانجذاب العقلي والتدريب العزوم على فاعلية معرفية هي فواعل تتقدّمُ أحياناً على سطوة المرونة الدماغية لدى الشباب. دعونا لا ننسى أنّ المرونة الدماغية لدى الشباب ليست أعْطية مجانية. كلّ خصيصة لا يتعهّدُها المرء بالرعاية والتدريب ستذوي وتنطفئ.

- كثيراً ما يحصلُ أن ترى طفلاً أو يافعاً يلاعب جهازه الجوال أو عصا التحكّم في لعبته الإلكترونية بسرعة فائقة فنتوهّمُ فيه معرفةً. الأداء شيء والمعرفة شيء آخر، وقبل هذا وذاك الثقافة شيء ثالث مختلف ومتمايز تماماً. قد يتفوّق طفل في السادسة من عمره من حيث سرعة أدائه على أستاذ في قسم هندسة الكومبيوتر في معهد «MIT» قضى كلّ عمره المهني في تصميم الألعاب الإلكترونية. هذا ليس مثالاً غريباً، وكثيرة هي الأمثلة المناظرة له. المثير في الأمر أنّ كلاً من الطفل وبروفسور «MIT» قد لا يعرفان «كلكامش»!!!. قد يصلح «كلكامش» مثالاً لقياس الفوارق الثقافية بين الناس مثلما يصلح برنامج «Office» معياراً لقياس الأمية الرقمية بينهم.

- يميل المرء ذو النزوع الفلسفي غالب الأحيان لتخليق فلسفة توفيقية بين القديم والجديد؛ بين متطلّبات الحاضر ونزوعات الماضي (النوستالجية)؛ لكنّ الأمر لا ينجح دوماً، وقد يبدو أحياناً كأنّه مزاوجة قسرية فاشلة قد تقود إلى الإحباط والاكتئاب.

لم يعُدْ مناسباً أن يخدعنا أحدٌ بالقول القاطع إنّ الدماغ الشاب أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع مستلزمات السيولة الرقمية من أدمغة الأكبر سنّاً

يحصلُ أحياناً أن ينتاب المرءَ من ذوي الهجنة الثقافية الضجرُ من التقنيات الرقمية، والسطوة الخوارزمية والبياناتية المتغوّلة؛ فيسوقه خياله النوستالجي إلى عصور سابقة خلت من هذه السيولة الرقمية المتفشّية. قد يبلغ هذا التوق النوستالجي أحياناً حدّ «الاكتئاب الأبستمولوجي» المتمظهر في شكل «متلازمة (Syndrome)». لا أخفي أحياناً أنني أصابُ بهذا الاكتئاب الذي لم يجد طريقه بعدُ إلى الأدبيات المعتمدة في «علم النفس السريري (Psychiatry)»، خصوصاً في الدليل التشخيصي الأميركي المسمّى «DSM». أعترفُ بأنني أستخدمُ «متلازمة التوق لإنسان عصر النهضة» بوصفها ابتكاراً شخصياً من غير أن تكون شائعة أو مشخّصة أو مستخدمة في المصادر الطبية.

لماذا التوق النوستالجي لإنسان عصر النهضة بالتحديد؟ لأنه العصر الذي شهد فورة غير مسبوقة من عقلياتٍ عبقرية لمعت في غير حقل معرفي (دافنشي، وغاليليو، وأنجيلو، لايبنز...) فضلاً عن تعزيز النزعة الإنسانية المتعالية على كلّ انحيازات دينية أو لاهوتية مقفلة. يبدو عصرنا بكلّ تقنياته المتقدّمة ظلّاً باهتاً لعصر النهضة؛ إذن لن يكون الأمر غريباً عندما يتوق أحدنا لذلك العصر حتى لو بلغ توقه تخوم الاضطراب النفسي.

معروفٌ في الأدبيات الطبية أنّ كلّ متلازمة تعني طائفة من الأعراض لو تحقق بعضها (وليس كلها) فقد يصحُّ التشخيص بهذه المتلازمة. أظنُّ من خبرتي الشخصية أنّ بعضاً من أعراض «متلازمة التوق لإنسان عصر النهضة» هي التالية:

- نفور شامل من السيولة الرقمية بين حين وآخر.

- محاولة الابتعاد عن الأجهزة الرقمية بين حين وآخر (لن تنجح محاولات الابتعاد الكامل لفترات طويلة لأسباب مسوّغة).

- النفور من فرط التخصّص (Hyperspecialization) المعرفي و/ أو المهني.

- الانغماس المفاجئ في قراءات مطوّلة تنتمي لأساطين عصر النهضة.

- الشعور بالضيق من التفاصيل التقنية حتى لو كانت تفاصيل صغيرة لا تعدو تحميل تطبيق جديد لا يستلزم أكثر من دقيقة أو دقيقتين.

- مقاطعة القراءة الإلكترونية، والاقتصار على قراءات ورقية حتى لو كان الأمر أكثر تكلفة ولا يمتلك مسوّغاته الكافية.

- الشعور بالفتور الذهني، وتهافت الرغبة، وخفوت الدافعية لدى التعامل مع كلّ منتج رقمي.

كيف السبيل إلى التعامل مع هذا الاكتئاب الأبستمولوجي؟ أولاً: لا داعي للهلع. جرّبْ أن تقرأ قوائم الكتب المنشورة حديثاً، فستجد أعداداً ليست بالقليلة منها تحمل عناوين نوستالجية (أو من مشتقات النوستالجيا) إلى عصور مضت. لن يعني الأمر اختلالاً كبيراً لو نما داخل أحدنا توقٌ حنيني لسنوات الثمانينات أو السبعينات أو الستينات من القرن الماضي، وليست مثلبة ثقافية أو نكوصاً معرفياً أو رجعية مفاهيمية لو تملّكنا توقٌ إلى مثال «إنسان عصر النهضة الأوروبية» الذي كتب المنظّر الثقافي ماثيو آرنولد مُسْهِباً في توصيفه، والحال ذاتها تصحُّ لو دفعَنا عقلُنا بحثاً عن نمط العقلانية الرفيعة في كتابات أبي حيان التوحيدي والجاحظ ونظرائهما من أعاظم الناثرين العرب.

كلّ عصر تسود فيه تقنية محدّدة ستكون له منعكساته السلوكية والذهنية على الكائن البشري: ستخفت فيه مهارات محدّدة لمصلحة تعزيز مهارات مستجدّة، وستذوي ذائقة فلسفية لمصلحة ذائقة فلسفية جديدة مطبوعة بتوقيع التقنية المستجدّة. يبدو لي أنّ جذر «الاكتئاب الأبستمولوجي» عند بعض البشر يكمن في حجم القطيعة المعرفية بين «المهارات التقنية والذائقة الفلسفية» السائدة في كلّ عصر. المعادلة واضحة: كلّما تعاظمت القطيعة المعرفية زادت احتمالية الاضطراب الذهني والاكتئاب الأبستمولوجي، ونمت بواعث التوق النوستالجي إلى ثقافة عصر سابق قريب أو بعيد.

يبدو لي من طبيعة التأسيسات الثقافية المستجدّة في عصرنا هذا أنّ توقنا الحالي إلى مثال «إنسان عصر النهضة» سيكون أيسر في التحقق بكثير من توق الإنسان إلى حالنا نحنُ، التي نشكو منها، بعد عشر سنوات أو عشرين سنة!

القطائع المعرفية والثقافية تمضي بوتيرة أسرع بكثير ممّا نحسب أو نتخيل.


مقالات ذات صلة

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

ثقافة وفنون سانت إكزوبيري

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

سيمون فتال: السومريون أنتجوا أجمل الفنون وهي الأساس

سيمون فتال
سيمون فتال
TT

سيمون فتال: السومريون أنتجوا أجمل الفنون وهي الأساس

سيمون فتال
سيمون فتال

تستضيف مؤسسة «Secession» النمساوية في فيينا، وهي أقدم قاعة مستقلة مخصصة للفن المعاصر في العالم، مجموعة مختارة من أعمال الفنانة والكاتبة والسينمائية سيمون فتّال تحت عنوان metaphors (استعارات)، أبرزها منحوتات من الصلصال تعرض للمرة الأولى خارج لبنان حيث تحفظ غالبية أعمالها ضمن مجموعة سارادار الخاصة التي تضمّ أكثر من 400 عمل فني حديث ومعاصر بهدف صونها ودراستها.

شهدت سيمون فتّال النور في دمشق عام 1942، ومنها انتقلت طفلة إلى بيروت حيث أكملت تعليمها الجامعي وتخرجت مجازة في الفلسفة من معهد الآداب، قبل أن تنتقل إلى باريس حيث تابعت تخصصها في جامعة السوربون.

عادت إلى بيروت وانصرفت لفترة إلى الرسم، تعرفت خلالها إلى الشاعرة والفنانة المعروفة إيتيل عدنان، ونشأت بين الاثنتين صداقة متينة امتدت حتى وفاة الأخيرة في خريف عام 2021. بعد مرحلة الرسم انتقلت إلى النحت بالصلصال ثم انصرفت إلى الأعمال الخزفية، وعندما «أصبحت الحياة مستحيلة في بيروت بسبب الحرب الأهلية» كما تقول، قررت الذهاب إلى الولايات المتحدة عام 1980، واستقرت في كاليفورنيا حيث أسست دار النشر المعروفة «بوست أبولو برس» المتخصصة في الأعمال الأدبية الرائدة والتجريبية.

من أعمالها

في عام 1988 التحقت بمعهد الفنون في سان فرنسيسكو واستأنفت نشاطها الفني في الرسم والنحت والكولاج. وفي عام 2006 انتقلت إلى فرنسا وانضمّت إلى محترف هانز سبينّر الشهير في غراس حيث أنتجت أهم أعمالها الفنية. وخلال إقامتها في فرنسا أخرجت شريطاً سينمائياً بعنوان «Autoportrait» عُرض في معظم المهرجانات العالمية ولاقى نجاحاً كبيراً. في عام 2019 نظّم متحف الفن الحديث النيويوركي معرضاً استرجاعياً لأعمالها التي استضافتها متاحف عالمية عديدة مثل متحف دبي للفنون ومتحف لوكسمبورغ وبينال البندقية ومتحف إيف سان لوران في مراكش ومؤسسة الشارقة للفنون، ومتحف فرنكفورت، وبينال ليون، وبينال برلين، ثم المؤسسة النمساوية التي كرّست عدداً كبيراً من الفنانين المعاصرين.

التاريخ والحنين (نوستالجيا) هما المصدران الأساسيان اللذان تستلهم فتّال أعمالها منهما، وتقول: «أشعر بالحنين إلى الماضي القريب... إلى سنواتي الأولى التي عشتها في هذه القطعة الرائعة والآمنة من الأرض التي اسمها دمشق وليس إلى التاريخ بحد ذاته. وعندما أتحدث عن التاريخ الذي أستحضره في أعمالي، أعني به التاريخ الذي ينبغي أن يذكّرنا بهويتنا، التاريخ الذي نحن جزء منه وعلينا أن نعرفه»، وتضيف: «التاريخ بالنسبة لي بدأ مع السومريين الذين أنتجوا أجمل الفنون. تاريخهم يثير عندي أعمق المشاعر، ليس فحسب لأني أنتمي إلى تلك المنطقة من العالم، فأنا بطبيعة الحال وليدة العصر الحديث، والفنون الحديثة والمعاصرة هي جزء أساسي مني، لكن تلك الفنون هي التربة الأساسية التي يمكن للفن الحديث أن يضرب جذوره فيها».

تقول فتّال إن الإنسان، والفنان بشكل خاص، في سعي دائم لدراسة الماضي ومعرفة جذوره، «وأنا من منطقة غنية بهذا الماضي الذي تشهد عليه أماكن عديدة دأبت على زيارتها، مثل تدمر وجبيل وبعلبك وصور وجرش حيث ما زالت تدور حياتنا اليومية إلى الآن». وتبتسم السيدة التي تجاوزت الثمانين من عمرها وما زالت في حيوية لافتة حين تقول: «يهمني جداً الحفاظ على هذا التاريخ وتسليط الأضواء عليه. أنا أنتمي إلى منطقة اخترعت الأبجدية الأولى وأنتجت أول الفنون. الفن في ذلك الوقت كان له معنى وهدف، وأنا أريد أن يكون فني تعبيراً عن تلك المنطقة، وما عاشته، وكيف هي اليوم، حتى يتسنى للأجيال المقبلة أن تتعرف عليها».

وعن الصداقة المديدة التي ربطتها بالفنانة والشاعرة والكاتبة إيتيل عدنان تقول: «أولى ثمار تلك الصداقة كان التعاون في دار النشر (بوست أبولو برس)، وقد تأثرت كثيراً بنتاجها الشعري. أما بالنسبة للفن البصري، فثمة اختلاف كبير بيننا ولم تتأثر إحدانا بالأخرى».

تفاخر فتّال بمصادر إلهامها من معالم أثرية شاهدة على حضارات سحيقة، وتشعر بحزن عميق لما آلت إليه اليوم تلك المصادر، وتقول إن الفنون الحقيقية غالباً ما تولد خارج الأطر الرسمية، وهي التي تنقل الناظر إلى «مطارح تاريخية» تتحدث بلغات عديدة ولها معتقدات متعددة، لكنها موجودة الآن بيننا. ولعل هذا الالتصاق بالأرض والمواقع الأثرية هو الذي دفعها إلى اختيار مادة الصلصال لإنتاج أهم أعمالها التي تعرضها المؤسسة النمساوية، وهي على شكل رجال محاربين، وملائكة، وفاكهة، وأطعمة، وحيوانات تستحضر ذلك الفردوس الضائع بعد دمار المواقع التاريخية في حلب وتدمر وبعلبك وجبيل.