يوم رأيت العقاد وزرت بيته بعد خمسين سنة من رحيله

ذكريات

يوم رأيت العقاد وزرت بيته بعد خمسين سنة من رحيله
TT

يوم رأيت العقاد وزرت بيته بعد خمسين سنة من رحيله

يوم رأيت العقاد وزرت بيته بعد خمسين سنة من رحيله

رأيت عباس محمود العقاد مرة واحدة. مجرد رؤية، لا لقاء. أظن ذلك كان سنة 1963 حين كنت صبياً في آخر المرحلة الإعدادية أو أول الثانوية. وكان المتبقي للعقاد في الحياة مجرد سنة واحدة. كنت في صحبة صديق وأحد أساتذتي في المدرسة الإعدادية في مكتبة «الأنجلو المصرية» الواقعة في شارع محمد فريد في منطقة وسط البلد في القاهرة. كنا في عمق المكتبة العريقة ذات الأرفف العالية المكتظة بالكتب والأرض الخشبية ذات الصرير وتلك الرائحة الثقافية العبقة من مزيج الورق والتراب والخشب. كنا نتصفح بعض الكتب ونتبادل بعض التعليقات حين همس مدرسي: «انظروا الأستاذ العقاد». لا بد أن وجيف قلبي قد سمعته المكتبة كلها. تسمرت في مكاني وتسمر نظري عليه على مبعدة 6 أو 7 أمتار.

كان هناك جالساً على كرسي إلى جانب مكتب صاحب المكتبة قرب المدخل. هل تتجسد الأساطير وتُرى رأي الواقع؟ هل تهبط آلهة الإغريق وتجلس على كرسي في موضع مما يرتاده البشر الفانون؟ لا بد أني فركت عيني ألف مرة لأتحقق من أني أرى من أرى. لكنه كان هناك لا مراء. جالساً في معطفه الثقيل ومتلفعاً بكوفيته الشهيرة، بين ساقيه عصاه التي فوق مقبضها اجتمعت كلتا يديه، وفوق رأسه كان الطربوش الذي كان اختفى من فوق الرؤوس منذ الخمسينات، لكنه بقي فوق رأس العقاد مؤكداً انفصاله عن الزمن الجديد وحرصه على علامات زمنه الأخص. إلى جانبه على المكتب كان ثمة تلٌّ من الكتب يتنامى. لم يتجاوز العقاد مدخل المكتبة والكرسي المجاور للمكتب الذي جلس إليه.

كان عاملو المكتبة يجولون فيها ويأتون ما بين لحظة وأخرى بما يزيد التل ارتفاعاً. لا أظن أنه أتى بقائمة وإنما بدا الأمر وكأنهم يأتون إليه بأحدث ما وصلهم من كتب في كل المجالات، بما يوافق شهرته كقارئ وكاتب موسوعي. ما زلت لا أدرك كيف لم تندك المكتبة لدى دخوله. كيف رأيته رأي العين ورآه غيرى من الحاضرين ولم تُعشَ أبصارهم أو تزهق أنفاسهم. لا أدري ماذا كنت قرأت له في تلك السن، ولكني كنت على وعي تام بحجمه الأسطوري، ولم أندهش حين مات بعدها في مارس (آذار) 1964 فرثاه لويس عوض في مقالة في الأهرام بعنوان «موت هرقل». فيما تلا من أعوام ازداد شغفي به، ليس فقط كمفكر وكاتب، ولكن أيضاً كمناضل بطولي على المستويين الشخصي والوطني. كنت من وقت لآخر حين أكون في مصر الجديدة أتوجه إلى البيت الذي عاش فيه وأقف أمامه خاشعاً من الذكرى، مبهوراً أن مكاناً عادياً، بيتاً من طوب وحديد وخشب، في شارع يسكنه العشرات أو المئات، كان مأوى لعبقري مثل العقاد.

كنت أتساءل كيف تحمّل الطوب والحديد والخشب ثقل ما كان يحويه رأسه من معارف القرون. كتب العقاد عن بيته كتابه الصغير الأنيق في سلسلة اقرأ «في بيتي». كان البيت رقم 13 يقوم في شارع شفيق غربال (السلطان سليم الأول سابقاً). وفي مفكرتي لعام 1966 وجدت هذا المدخل في شهر يناير (كانون الثاني): «تحدثت إلى زوجة البوّاب. سألتها عن الأستاذ العقاد فقالت إنه كان كريماً للغاية وإن خيره كان يغرق المحتاجين وإنه كان يوزع الأموال الكثيرة على الفقراء وكان يكسي أولادها في العيد وقالت إنها مريضة لا تجد علاجاً منذ مات. قلت لها يقولون إنه كان متكبراً. قالت؛ كذب! كان متواضعاً لكن لا يهمه أحد. يقول للأعور أنت أعور ولا فرق عنده بين ابن بواب وابن وزير. وإنه كان ينادي ابنتها الطفلة فيجالسها ويلاطفها. وقالت إن الحكومة تريد تحويل شقته إلى متحف له، لكن ابن أخيه عامر العقاد يعارض ويطلب تخصيص فيلا يكون دور منها لمكتبة العقاد وآخر يكون متحفاً.

كان الوقت ليلاً فقالت إنني أستطيع أن أعود في وقت آخر لرؤية الشقة ومحادثة ابن أخي العقاد». عدتُ ولكن ربما بعد أكثر من 40 عاماً. كان ذلك في إحدى زياراتي للقاهرة وأثناء وجودي في هليوبوليس حين خطر لي أن أمشي إلى منطقة روكسي وأن أؤدي فريضة الحج القديمة الخاصة بي. استقبلني بواب مختلف بطبيعة الحال. لم يكن من معاصري العقاد في المسكن مثل السيدة التي تحدثت إليها سابقاً. لعله كان سليل نفس الأسرة، لا أدري. إلا أنه أصر أن يأخذني إلى الشقة، أو إحدى الشقتين، فقد كان العقاد يستأجر شقتين متقابلتين، ويبدو أنهما كانتا ما زالتا في يد الأسرة بعد أكثر من 50 سنة من وفاة العقاد وقتها.

صعدت الدرج الذي كتب العقاد أنه كان يصعده ثلاثاً ثلاثاً، ثم اثنتين اثنتين، ثم واحدة واحدة، الذي كان يصعده وبياض شعره يتوارى في سواده، وصار يصعده وسواد شعره يتوارى في بياضه. وأضيف أنا ثم الذي لم يعد يصعده أو ينزله على الإطلاق. وجدت في إحدى الشقتين شاباً هو سليل العائلة، لعله كان في الثلاثينات من عمره، دار بي في إحدى الشقتين التي كانت شبه عارية من الأثاث والحياة. لم يكن عنده ما يحكى، فلم يكن من معاصري العقاد، ولم يبدُ أنه يحفل بمكانة الرجل الكبير إلا من حيث إنه مصدر محتمل للدخل. ألمح في غير كياسة إلى أنه يمكنه أن يبيعني شيئاً من مخلفات العقاد النزرة البسيطة مما تصادف أنه ما زال موجوداً في الشقة.

إلا أني كنت أحمل العقاد بأكمله في قلبي وعلى أرفف كتبي، فما كنت في حاجة إلى زوائل بلا معنى. شعرت بأسف شديد، وتذكرت كيف كان العقاد تجسيداً للعزة والكبرياء، وتمنيت لو أني لم أزر البيت وأشهد تلك الحال.



متى يصبح التاريخ مرجعية للنص الروائي؟

الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
TT

متى يصبح التاريخ مرجعية للنص الروائي؟

الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

أكدت الأكاديمية السعودية، الدكتورة ميساء خواجا، أن الكتابة التاريخية لها حدودها ومداخلها وآلياتها التي تبنى على التوثيق والمطابقة، أما الكتابة الروائية فهي ذاكرة مفتوحة تقوم على التخييل، والغوص في مناطق قد لا يلتفت المؤرخ إليها أو لا يهتم بها.

وكانت الخواجا، تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية»، ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024، أقيمت مساء أمس الخميس. وتحدثت عن طبيعة التعامل مع الشخصيات والمكان والزمان في الرواية التاريخية.

وأكدت الدكتورة الخواجا أن التاريخ – كما يرى أرسطو – يتعلق بالحقائق العامة لا بالجزئي والهامشي. من هنا يختلف حقل التأريخ عن حقل التخيل، من دون أن ينفيه. فالمؤرخ يهتم بصياغة المادة التاريخية بالاستناد إلى وقائع تاريخية محددة وربما قراءتها في إطار الحاضر. أمّا المتخيّل فيقدم مادة سردية ينجزها الروائي من خلال علاقة إبداعية مع أحداث الماضي بصفتها ممتدة في الزمان والمكان. (...) وفي ذلك يصير التاريخ مرجعية أو أرضية للنص الروائي، «ميتا نص» يعود إليه ويتحاور معه في كتابة قد لا تطابق المرجعية التاريخية، أو لا تكتفي بذكر وقائع التاريخ والحرص على مطابقتها، بل تبحث في طياته عن العبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وعن التماثلات الرمزية بينهما، فيتداخل التاريخ الحقيقي مع المتخيل التاريخي.

الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة العمل بمعرض الرياض الدولي للكتاب

الرواية والتاريخ

وقالت الدكتورة الخواجا، إن عدداً من الدارسين التفتوا إلى وجود صلة ما بين الرواية والتاريخ على اختلاف بينهما، إذ يثير مصطلح «الرواية والتاريخ» عدداً من الإشكالات التي يقف في مطلعها الإشكال الأجناسي على اعتبار أن التاريخ خطاب نفعي يسرد الحقيقة في حين أن الرواية خطاب جمالي تخييلي في المقام الأول. والرواية التي هي «خطاب جمالي تقدم فيه الوظيف الإنشائية على الوظيفة المرجعية».

ورغم ربط التاريخ بفكرة النفعية وبفكرة الحقيقة وتناول ما هو حاصل عند عدد من الدارسين، فإن هناك عدداً آخر منهم يربط بين التاريخ والمتخيل، ويلتفت إلى ما يمكن تسميته «سردية التاريخ».

التاريخ مرجعية أو أرضية للنص الروائي أشارت أيضاً إلى أن التاريخ يرتبط في أذهان الكثيرين بالحقيقة في مقابل الخيال الذي تتسم به الرواية، لكن ذلك الربط يتعرض إلى شيء من التشويش عندما يمتلئ التاريخ بأخبار وحكايات قد تبدو متخيلة، لا سيما عندما يتناول الأزمنة السحيقة، وعندما تستند الرواية إلى التاريخ أي إلى ما هو حقيقي.

وتقول: بين التاريخ والرواية صلة ما خفية أو ظاهرة، ويمكن للباحث إقامة عدد من الصلات بينهما، وعلى رأسها أن كليهما خطاب في المقام الأول، ويلي ذلك أنهما خطاب سردي أو يمكن أن يوضع في خانة السرد.

وانطلاقاً مما سبق يمكن للباحث أن يقيم الصلة بين الرواية والتاريخ، وقد عدّ المؤرخ مارك بلوخ أن المؤرخ أقرب ما يكون إلى «روائي ملتزم» بنوع خاص من الحكي، يستمد حكاياته مما يحتمل وقوعه حقيقة، في مقابل روائي يستمدها مما يحتمل وقوعه مجرداً. وبهذا يكتفي المؤرخ بصناعة حكاياته، مستمداً شخوصها وزمانها وفضاءها من مصادر ووثائق تسجيلية، وأما حبكها فمتروك لمقدرة المؤرخ وحذقه على اعتبار أنه لا يصادف حزمة من الوقائع المتراصة في شكل خبر أو حكاية تعكس حدثاً سابقاً. وبذلك تتحقق للتاريخ سماته السردية المرتبطة بمحور الاختيار أولاً وبالحبك والصياغة ثانياً.

المرجعية والتاريخية

المحور الثاني، في ورشة العمل التي أقامتها الدكتورة ميساء الخواجا، حمل عنوان: الشخصية المرجعية والتاريخية، حيث أوضحت أن التاريخ والأدب خطابان سرديان، ويطالب الروائي في الرواية التاريخية بأن ينزل الشخصيات والأحداث في إطار المشاكلة وليس مجرد المطابقة، وبذلك يتيح للقارئ أن يدرك أسباب ما وقع ماضياً وما يترتب عليه من نتائج، لكنه يحتاج أيضاً إلى الأمانة التاريخية وإلى الخضوع لمقتضيات الفن الروائي من قبيل نمط القص والتبئير على شخصية أو أكثر، وإدراج العناصر في منظور واحد مما يحقق للرواية التاريخية شرط الانسجام الداخلي.

وقالت إن المؤرخ يسعى إلى بناء صورة متماسكة ذات معنى وبناء دال للأشياء كما كانت واقعياً، والوقائع كما حدثت فعلاً، أي وضع السرد التاريخي في الزمان والمكان المطابقين، وجعل فكرة الماضي تتفق مع الوثائق، كما هي حالتها المعروفة، أو كما كشف المؤرخون النقاب عنها. الروائي يضعها في إطار الحدث والزمان المتخيلين، غير منضبط بوجود ثابت ومحدد بصورة نهائية، ويعيد تشكيل الأحداث والشخصيات بآلة التخييل وفق منطق اتساق الأحداث ومكوناتها.

ويمكن أن تضمر الأحداث في بعض الروايات التاريخية وتأتي فقط خلفية لتفسر سلوك الشخصيات ومواقفها (مثلاً ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور، الباغ لبشرى خلفان)، ويمكن أن تأتي الشخصية التاريخية لتقوم بدور مرجعي يسند الأحداث والشخصيات المتخيلة ويؤطرها ويوحي بمنطلقاتها ونتائجها.

وأوضحت أنه يمكن للرواية التاريخية أن تزاوج بين الشخصيات التاريخية والشخصيات المتخيلة، ويمكن استحضار شخصيات تاريخية لتساهم في الفعل وفي تحريك المتخيل، أو يخلق الكاتب شخصيات متخيلة من وحي الشخصيات التاريخية لتقوم بعبء حمل المتخيل والتاريخي في الوقت نفسه. كما يمكن أن يسند الروائي أعمالاً غير تاريخية إلى الشخصيات التاريخية، وأعمالاً تاريخية للشخصيات المتخيلة.

ركزّت ورشة عمل على دور التاريخ في الكتابة الروائية

التاريخ والهوية السردية

حمل المحور الثالث عنوان: وظيفة التاريخ وبناء الهوية السردية، وقالت الخواجا إن ما يفعله الروائي في كتابة الرواية التاريخية أن يستحضر روح العصر الذي اختاره لزمن حكايته، وما يهمه ليس ما حدث في ذلك العصر لكن كيف أثر ذلك على ثقافة الناس وحياتهم الاجتماعية التي تمثلها شخصياته، وكيف أثرت الأحداث التاريخية المفصلية على تلك الشخصيات. أي أنه يسعى إلى دفع الظروف التاريخية إلى خلق وضع وجودي جديد للشخصيات يمكّن من فهم التاريخ في حد ذاته وتحليله بوصفه وضعاً إنسانياً ذا مدلول وجودي كي لا يتحول الروائي إلى مؤرخ.

وقالت: يبني الكاتب شخصياته (تاريخية أو متخيلة) ويصنع لها «هوية سردية»، تتطور وتخضع للتحولات، فلا نكاد نجد شخصية روائية مكتملة البناء، بل تنمو وتتطور هويتها وتتكشف تدريجياً، وقد لا تكتمل مع اكتمال الرواية فيلعب الخيال دوراً حاسماً في بلورة صورتها. إن الهوية ضمن الخطاب السردي هي تخييل، وهي ما نتخيله وليست مجرد ما نسترجعه. وما نراه في الرواية عامة والرواية التاريخية هو بناء هوية سردية أي عبارة قصة حياة الشخص الداخلية والمتطورة التي تدمج الماضي المعاد بناؤه والمستقبل المتخيل لتزويد الحياة ببعض الإحساس بالوحدة والهدف.