قناة ثقافية سعودية أمام التحديات

تنطلق قريباً بإدارة شابة ورؤية تجمع بين العمق والمتعة

قناة ثقافية سعودية أمام التحديات
TT

قناة ثقافية سعودية أمام التحديات

قناة ثقافية سعودية أمام التحديات

لأنها تسعى إلى تقديم الثقافة بصورة جذابة؛ فإن أمامها تحديات؛ بالفعل ليس تحدياً واحداً وإنما جملة تحديات... قناة ثقافية سعودية سوف تنطلق قريباً بإدارة شابة ورؤية تجمع بين العمق والمتعة، ومن التحديات أنها تسعى إلى تقديم الثقافة بصورة جذابة. القناة الثقافية السعودية القادمة في 23 سبتمبر (أيلول) الحالي، الموافق لليوم الوطني للمملكة، كما أعلن وزير الثقافة السعودي الأمير بدر الفرحان والأستاذ وليد الإبراهيم، رئيس مجموعة «إم بي سي»، ستواجه توقعات غير متفائلة إن لم نقل محبطة لدى الكثير من المعنيين بالشأن الثقافي سواء في السعودية أو غيرها. تلك التوقعات تعود إلى سببين، أحدهما مباشر والآخر غير مباشر. غير المباشر هو أن «تسويق» الثقافة – والتسويق هو لغة العصر كما يبدو – ليس بالأمر السهل، لا سيما حين تتراكم التوقعات التي ترى أن من الصعب أن ينجح مشروع إعلامي لا يعتمد في حياته على شرايين السياسة أو الاقتصاد أو الترفيه. هذه الأقانيم الثلاثة هي التي تهيمن على عالم الإعلام، بل حياة الناس وهي التي تجذب المشاهد والمستمع والقارئ، تجذبه على نطاق واسع. العلوم والفكر والأدب والفنون (غير الترفيهية) تجذب فئة من الناس يسمون المثقفين أو محبي هذه المجالات أو المختصين فيها، لكنها ليست معشوقة الجماهير. يكفي أن ننظر إلى السينما وما يسيطر على شاشات العرض في دوره الكثيرة: هي بالتأكيد سينما «الأكشن» والإثارة والكوميديا السطحية والبطولات الخارقة. لن تمتلئ القاعات لمشاهدة أفلام جادة لإنغمار بيرغمان أو كيروساوا أو يوسف شاهين، أو من يسير على خطاهم اليوم. قد تمتلئ القاعات لموسيقى كلاسيكية كما امتلأت لحفلات أم كلثوم، لكن لا مقارنة بين عدد الحضور هنا وعددهم في حفلات الروك وما يعرف بالبوب أو حفلات الترفيه الراقصة والغناء الشعبي الجماهيري، حيث العدد ليس بالآلاف وإنما بعشرات الآلاف.

الثقافة بحد ذاتها ليست جاذبة. هي هكذا ببساطة. ليست بلغة السوق، لغة عصرنا، سلعة جاذبة. وللسعوديين تجربة سابقة في قناة دعمتها وبثتها وزارة الإعلام السعودية حين كانت أيضاً وزارة للثقافة. وهنا ندخل في السبب المباشر وراء التوقعات غير المتفائلة. لقد كانت التجربة السابقة لبث قناة ثقافية محبطة فعلاً، بل إن غير المتفائلين بنجاح القناة القادمة يجدون تلك التجربة التي أوقفت منذ سنوات عدة مثالاً فاقعاً على فشل أي قناة ثقافية في المستقبل. ولذلك حين أخبرني الأستاذ مالك الروقي، مدير عام القناة الثقافية الجديدة والشاب المتقد حماسة والممتلئ رؤية، بالمشروع الجديد كان من المحتم أن تقفز إلى ذهني صورة القناة الثقافية السعودية السابقة. ولأن مالك ألَّف تلك الرؤية القاتمة التي ربما طالعها بها كل من حدثه عن المشروع قبلي وبعدي، سارع لتذكيري بما ستملك القناة القادمة من سمات تجعلها قادرة على تخييب التوقعات الخائبة، أي نفي النفي الذي يعني الإثبات أو نجاح المشروع.

كان مالك يعرف أنني طالبت كثيراً بعودة القناة الثقافية. والحق أنني فعلاً طالبت بذلك، لكن مطالبتي تضمنت في الوقت نفسه اعترافاً بأن القناة السعودية التي ظلت تبث سنوات عدة تحت اسم «القناة الثقافية» لم تكن مؤهلة للنجاح بالطريقة التي كانت تدار بها. كنت وما زلت أؤمن بإمكانية نجاح المشروع لو أدير بطريقة مغايرة لا تركن إلى العروض المملة والبرامج الثقافية الجامدة والبائتة، لكني لم أمتلك الحل، لم أعرف – حتى اللحظة التي حدثني فيها مالك – ما هو البديل المناسب.

ثم كانت المفاجأة.

كانت المفاجأة حين أخبرني المدير الشاب الذي عرفه الناس متألقاً في برامج ثقافية على «إم بي سي» (برنامج «مالك بالطويلة» وبرامج حوارية أخرى)، حين أخبرني بأن القناة القادمة ستكون نتاج تعاون بين وزارة الثقافة السعودية و«إم بي سي» الإعلامية. الخبرة الكامنة وراء إدارة قنوات «إم بي سي» التي حققت نجاحات ضخمة على مستوى العالم العربي منذ انطلقت في أوائل التسعينات ستضمن النجاح للقناة الثقافية الجديدة. وحين اطلعت على بعض التفاصيل اقتنعت بأن احتمالات النجاح ستكون عالية فعلاً؛ ذلك أن القناة الثقافية حشدت فعلاً مجموعة من البرامج الكفيلة بشد انتباه المشاهد دون السير في أي من الاتجاهين المحتملين: البرامج التقليدية (أفلام، سيمفونيات، برامج توعوية... إلخ مما هو إما نخبوي وإما ممل) أو البرامج الشعبوية التي تقوم على الترفيه السهل والجاذب للجماهير. الخط الوسط، أو الخط الصعب، سيجمع بين ما اعتدنا أن يكون من المتناقضات: الجدية والعمق إلى جانب الترفيه: تقديم الجاد والعميق على أطباق من الفنون المختلفة والمقدمة بطريقة مبتكرة غير مملة وغنية بالمتعة. معادلة بالغة الصعوبة، لكنها ممكنة التحقيق. ربما ليس على نحو مثالي وخالٍ من النقص، فكل جهد بشري مهدد بذلك، بل محتم عليه، لكن الوصول إلى تسعين بل ثمانين بالمائة من المزيج الناجح من تلك العناصر سيكون نجاحاً مدوياً.

هذه الوصفة هي كما نعرف جميعاً التحدي الذي يواجه المنتج الثقافي حيث كان، فهو إما يخاطب النخب ولا يأبه بغيرهم فيكون فلسفياً أو تجريبياً، يضيف ويثري لكن في إطار محدود، أو يستسلم لمغريات الجماهيرية أو الشعبوية فينتشر لكن بعد أن يخسر رهان الجدية والعمق. في المسرح، في السينما، في الرواية، في الشعر، في التشكيل، في الموسيقى، يظل هذا التحدي قائماً، لكننا نعرف جميعاً أيضاً أن قصة نجاحه تحققت في كل اللغات والثقافات والأزمنة، مثلما تحققت إخفاقاته أيضاً وربما بصورة أكبر. المواجهة التاريخية بين شاعر كبير مثل أبي تمام المجدد ومنتقديه من المحافظين هي التي تتكرر باستمرار: لم لا تقول ما يفهم/ لم لا تفهم ما يقال؟ ذلك الطريق الذي لا يفضي إلى شيء هو ما استطاعت أعمال كثيرة تجاوزه في الجمع بين المقول الجميل والقابل للاستيعاب في الوقت نفسه، أي بين العميق والممتع، وهو سر عظمة شعر المتنبي ودرويش، وسبب القيمة الكبرى لمسرحيات شكسبير وقصص تشيخوف ولوحات رمبرانت وفان غوخ، هو الذي جعل ثلاثية محفوظ و«آنا كاريننا» و«دون كيخوته» روايات لكل الأزمنة واللغات إلى جانب كثير مما لا يحصى من الأمثلة.

حين تنطلق القناة الثقافية سيرى الجميع قناة تفيض بالثقافة فعلاً، بصورها المتعددة والمُعدة على نحو غني بالمتعة والفائدة، وسيجدون التعريف بالكتب المهمة من مختلف اللغات والحوار حولها وحول قضايا فكرية مختلفة، وسيجدون أخبار المشهد الثقافي وتطوراته، كما سيجدون الأفلام المنتقاة والمسرح إلى جانب الفنون الشعبية والآثار من حيث هي متصلة بالآداب والفنون، إضافة إلى الشعر العربي قديمه وحديثه. كما سيجدون الفنون التشكيلية بألوانها المختلفة. وفي هذا كله ستنعكس ألوان الثقافة الأخرى المتمثلة بالهيئات الإحدى عشرة التي تتشكل منها وزارة الثقافة السعودية والمؤسسة على تصنيف «اليونسكو» لقطاعات الثقافة.

كل مشروع فكري أو إبداعي ينام حالماً بتحقيق تلك المعادلة البالغة الصعوبة التي تجمع الجاد والممتع. وإذا كان الكثير منها يفشل والقليل ينجح، فإن استمرار ذلك القليل هو ما يعبئ الحلم بإمكانيات النجاح، وهو بالضبط ما يتكئ عليه حلم وزير الثقافة السعودي والشبان والشابات السعوديين الذين تعج بهم أروقة استديوهات الرياض وهم يحفرون باتجاه قناة ثقافية غنية بالجدية والمتعة، قناة تضيف لحياتنا منفذاً إعلامياً ينشر الوعي والرؤية عبر المعرفة والمتعة، الهدف الذي ينشده كل الذين لا يملون من النظر إلى النصف المملوء من الكأس.


مقالات ذات صلة

 «موديز» ترفع التصنيف الائتماني للسعودية بفضل جهود تنويع الاقتصاد

الاقتصاد مشهد من العاصمة السعودية وتظهر فيه ناطحات السحاب في مركز الملك عبد الله المالي (كافد) (رويترز)

 «موديز» ترفع التصنيف الائتماني للسعودية بفضل جهود تنويع الاقتصاد

رفعت وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني تصنيف السعودية إلى «إيه إيه 3» (Aa3) من «إيه 1»، مشيرة إلى جهودها لتنويع اقتصادها بعيداً عن النفط.

«الشرق الأوسط» (نيويورك) «الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
خاص الدكتور بلو محمد متولي وزير الدولة لشؤون الدفاع النيجيري (فيسبوك)

خاص نيجيريا تقترب من توقيع اتفاقيات عسكرية مع السعودية لتعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب

كشف مسؤول نيجيري رفيع المستوى عن اقتراب بلاده من توقيع اتفاقيات عسكرية مع السعودية.

فتح الرحمن يوسف (الرياض) فتح الرحمن يوسف (الرياض)
عالم الاعمال «بلاك هات» تعود إلى الرياض بنسختها الثالثة

«بلاك هات» تعود إلى الرياض بنسختها الثالثة

تعود فعالية الأمن السيبراني الأبرز عالمياً «بلاك هات» في نسختها الثالثة إلى «مركز الرياض للمعارض والمؤتمرات» ببلدة ملهم شمال العاصمة السعودية الرياض.

الخليج الأمير عبد العزيز بن سعود خلال مشاركته في الاجتماع الـ41 لوزراء الداخلية بدول الخليج في قطر (واس)

تأكيد سعودي على التكامل الأمني الخليجي

أكد الأمير عبد العزيز بن سعود وزير الداخلية السعودي، الأربعاء، موقف بلاده الراسخ في تعزيز التواصل والتنسيق والتكامل بين دول الخليج، خصوصاً في الشأن الأمني.

«الشرق الأوسط» (الدوحة)

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي