تحديات الطفولة وتراجع النقد

أحكام القيمة توارت إما لأنها اضمحلت تماماً أو لأنها صارت ضمنية

تحديات الطفولة وتراجع النقد
TT
20

تحديات الطفولة وتراجع النقد

تحديات الطفولة وتراجع النقد

وقفتا أمامي تمسكان بورقتيهما المليئتين بالخطوط والألوان، رسمتين لم أتبين ما فيهما إلا بعد التدقيق. قالت لمى ذات الخمسة أعوام: أي رسمتينا أفضل، رسمتي أم رسمة نوف، تشير إلى أختها الأصغر (3 سنوات). كانت كل واحدة من حفيدتيَّ الصغيرتين قد رفعت لوحتها الورقية أمامي باعتزاز واضح. ثم أضافت لمى: «عليك أن تختار واحدة وتحدد أيهما أفضل». كنتُ منهمكاً في العمل على طاولة قريبة وبعض أفراد الأسرة يجلسون بالقرب مشغولين عنا. انتبهت إلى السؤال، وأفقت إلى ما فيه من حرج، كنت كمن يصحو من غفوة.

ومع إلحاح لمى أن أختار واحدة فقط من الرسمتين كان الحرج يزداد والوضع يتأزم. عيناي تتنقلان ما بين اللوحتين ثم ما بين الوجهين الطفوليين. أنظر إلى جدية لمى وأسمع إصرارها، وأنقل بصري إلى وجه نوف الأصغر وقامتها الأقصر والبراءة الآسرة في ملامحها وهي ترفع لوحتها تنتظر النطق بالحكم، وإن دون إلحاح.

أُسقط في يدي.

رحتُ أستجمع ما أعرفه من نظريات في النقد وأساليب الحكم على الأعمال، فلم يسعفني شيء، ثم توجهت إلى ذكائي وقدرتي على التخلص من المأزق للخروج سليماً معافى من هذه الورطة النقدية الجمالية الكبرى فلم أجد الكثير من الذكاء. لم أجد سوى إجابات مرفوضة بتاتاً من قبل لمى.

«كلتا الرسمتين جميلة».

«لا... لازم تختار».

«صعبة يا ابنتي، لأن كل واحدة منكما رسامة ممتازة».

تطلعت إلى مَن حولي أستغيث، متطلعاً إلى مَن يخرجني من المأزق فلم يكن لدى أحد سوى نفس الإجابات المستهلكة. لمى تريد حسماً نقدياً لمسألة جمالية بحتة: أي الرسمتين أجمل، ولن تقبل بالإجابات الدبلوماسية لإرضاء كل الأطراف، لا، لأنصاف الحلول التي من الواضح أنها تهرب من الأمر الواقع.

كانت رسمة لمى أفضل من حيث هي تمثيل للواقع: أشجار على شكل زهور وسماء وشمس بألوان واقعية جداً، لوحة واقعية ومتقنة مِن طفلة في سنها. بينما كانت رسمة نوف أقرب إلى السريالية الطفولية، إن وُجد شيء من ذلك القبيل: خطوط متقاطعة بألوان متداخلة لا تستطيع تبيّن شيء من عالمها المتشابك.

كان الحكم واضحاً: رسمة لمى أفضل أو أجمل، لكن مَن يستطيع الوقوف أمام سطوة البراءة في وجه نوف وهي ترفع لوحتها؟ أي نقد جمالي أو فني يستطيع تجاوز تلك الطيبة في عينين غارقتين في طفولة 3 سنوات وتنتظران حكماً سيكون قاسياً برفض لوحتها؟

لم أكن ذلك الناقد، ولا ذلك الشجاع.

كنت أتراجع، وأرى كل أحكام القيمة تتراجع معي.

تذكرت النابغة الذبياني وهو يحكم بين الأعشى والخنساء في عكاظ: «لولا أن أبا بصير أنشدني قبلك لقلتُ إنك أشعر مَن أنشد اليوم»، أو كما قال.

لم أكن النابغة، بل كان النبوغ أبعد ما يكون عني في تلك اللحظة، وأمام عيني لمى الغاضبتين وإصرارها البريء أيضاً على شجاعة الحكم.

نشأت لدينا، أنا ومَن اشترك معي في الورطة، رغبة في كسر حدة الإصرار لدى لمى، رغبة لا تخلو من مكر، فقلنا: «قد تغضبين لو قلنا رأيَنا». قالت: «لا، لن أغضب». مع أننا كنا متأكدين أن غضبها السريع المعروف سيكون جاهزاً لو غامرنا بحكم لا يرضيها.

توصلت والدتهما إلى رأي أدهشني وذكرني إلى حد ما بمحاولة الذبياني التخلص من غضب الخنساء: «لوحتك يا لمى أجمل من حيث هي واضحة ودقيقة، ولوحة نوف أجمل لأن فيها الكثير من الخيال». قالت ذلك بلغة أكثر مباشرة وتبسيطاً، لكن لمى وصلت الآن إلى درجة الغليان، لأنها بدأت تدرك أن هناك تهرباً من قول الحقيقة وهي أن لوحتها أفضل. وكانت محقة في توقعها، ليس لأن لوحتها أفضل فعلاً، وإنما لأنها سمعت ثناء كثيراً في الماضي ورأَتْ لوحةً لها في صفحتي على «إنستغرام» ثم في اختيار أحد المطاعم مؤخراً لوحتها لتوضع على المنصة التي يراها الداخلون إلى المطعم.

بكت لمى، ونظرتُ إلى نوف فلم أجدها مكترثة كثيراً لما يحدث. براءة حقيقية.

أردت مواساة لمى، فقلت: «سأضع لوحتك هذي على صفحتي في (إنستغرام)»، وفعلتُ وأريتُها إياها، وبدا أنها رضيت بذلك التفضيل الضمني. لم أختر لوحة نوف، وأظن أن ذلك طمأن أختها إلى مواهبها وتفوقها في الرسم.

ذكرني ذلك الموقف بوضع النقد الأدبي والجمالي في مشهدنا المعاصر، بأحكام القيمة التي توارت إما لأنها اضمحلت تماماً، أو لأنها صارت ضمنية لا تسفر عن نفسها، وإن فعلَتْ فعلى استحياء. صار من الصعب أن يقول أحد لشاعر إن عمله ضعيف، أو لروائي إن روايته ليست جديرة بالنشر. كنتُ مع أحد الأصدقاء المعنيين بالأدب ونقده نستمع إلى شاعر على المنصة، شاعر كان له شأن في يوم ما، لكنه تحول إلى شبه شاعر في سنواته الأخيرة، ناظم أكثر منه شاعراً. وكلانا تربطه به معرفه وثيقة على المستوى الشخصي وعلى مستوى أعماله وحضوره الذي كان مدوياً ذات يوم. لكن أحداً منا لم يجرؤ أن يقول له رأياً صريحاً بعد أن تواضع نتاجه وصار إلى ما صار إليه. وواضح أنني حتى هذه اللحظة لا أجرؤ على ذكر اسمه.

كان الدكتور شكري عياد يقول إنه يتجنب الكتابة عن الأعمال الرديئة، ويرى أن في ذلك تعويضاً عن الحكم عليها أو هو بمثابة حكم عليها، وصرتُ لسنوات أردد رأيه لأنني رأيت فيه مخرجاً من أحكام القيمة حين تضعنا أمام أعمال ليست جديرة بأن تنشر على الناس ونشعر بالحرج في الحديث حولها. لكني حين تأملت ذلك الرأي وجدته إشكالياً على أبعد تقدير، لأنه يعني ببساطة وضمنياً أن كل ما لا يتناوله الناقد ضعيف أو غير جدير بالكتابة عنه، وهذا غير صحيح طبعاً؛ فمَن الذي يدعي معرفة كل ما ينشر وله رأي فيه. بل إن فيه تجنياً على كثير من الأعمال المهمة التي لم نطلع عليها وقد لا نستطيع الاطلاع عليها لكثرتها وقصور قدرتنا على الإحاطة بكل ما يصدر.

لقد عرف النقد العربي القديم الكثير من أحكام القيمة في طبقات للشعراء وفي مختارات مفضلية وأصمعية وحماسات وغيرها بل لعل ذلك النمط من النظر كان المهيمن على رؤية النقاد وهم الذين عرف أحدهم النقد بأنه تمييز جيد العملة من رديئها، ومع أن المختارات لم تغب تماماً في عصرنا، فإن من الواضح لي أنها توارت ضمن آراء تنحو منحى منهجياً أو نظرياً؛ كأن يختار الناقد الشكلاني ما يراه مناسباً لرؤيته التي ترفع من شأن الشكل وتبعده عن الواقع، وينتقي الماركسي لدراسته ما يراه أصدق تمثيلاً للواقع أو للواقعية الاشتراكية، والنفسي لما يتصل بالوعي واللاوعي وهكذا. وحين أقدم البعض على عمل مختارات، فإن نظرتهم ذهبت إلى التراث الشعري والنثري، أكثر منه إلى المعاصر، بل إن المعاصر يكاد يغيب تماماً. فمن الملاحظ قلة أو ندرة المختارات في الأدب العربي الحديث وكثرتها في المقابل في أقسام اللغة العربية والدراسات الشرق أوسطية في الغرب، ربما لأسباب بيداغوجية أو تعليمية حين تتصل بالأدب العربي. لكن المختارات بارزة ومهيمنة في المكتبة النقدية الغربية عامة. والمؤكد أن المختارات تتكئ على أحكام قيمة لا مراء فيها.

لا شك أن من المخاطر المحتملة لأحكام القيمة الغرق في الذائقة الشخصية وتحكيم معايير انطباعية أو لا صلة لها بالأدب، وقد حدث ذلك وسيحدث، وفي كل اختيار حكم شخصي وربما موقف آيديولوجي أيضاً، لكن تواري تلك الأحكام تماماً ليس في مصلحة المشهد الثقافي عامة والأدبي والفني بصفة خاصة. نحن بحاجة إلى التقييم، أو التقويم، شريطة أن يكون ذلك على أسس منهجية واضحة قدر الإمكان، فقد نستطيع بذلك أن نتجاوز مأزق الحكم على جمال الرسومات والقصائد وأهمية الروايات والمسرحيات.



«مهمّةُ المترجم»... ترجمة عربية جديدة لنص فالتير بنيامين

«مهمّةُ المترجم»... ترجمة عربية جديدة لنص فالتير بنيامين
TT
20

«مهمّةُ المترجم»... ترجمة عربية جديدة لنص فالتير بنيامين

«مهمّةُ المترجم»... ترجمة عربية جديدة لنص فالتير بنيامين

تضطلعُ مقالةُ «مهمّةُ المترجم»، التي كتبها الفيلسوف والناقد والمترجم الألماني فالتير بنيامين (1892 - 1940)، سنة 1921، بمكانة متميزة في الثقافة العالمية الحديثة؛ إذ تُرجمت مراتٍ كثيرة إلى لغاتٍ عدّة؛ لأنها نصّ نظريّ وفلسفيّ دقيق فيما يخصّ الترجمة ومهمّة المترجم بصفة خاصة.

«مؤسسة بيت الزبير» ارتأت نقل هذا النص المهم إلى العربية بترجمة الدكتور أحمد بوحسن، وقد صدر الكتاب حديثاً عن «الآن ناشرون وموزعون»، في الأردن 2025، وراجعت الترجمة الدكتورة رضوى الضاري.

في تمهيده للكتاب، يوضّح المترجم أنه قدّم «في هذا العمل ترجمة ثلاثية متعدّدة الوجوه لنصّ فلسفي شديد الصعوبة، على أن إعادة ترجمة هذا النص وتدقيقه وتحقيقه ومراجعته تتيح فهماً مضمونيّاً أقرب إلى المعنى الأصلي».

«وقد اعتمدتُ أساساً في تدقيق ترجمة هذا النص إلى اللغة العربية على الترجمتين الإنجليزية والفرنسية من الأصل الألماني، وكذلك الترجمة العربية من الأصل الألماني، وبخاصة ترجمة حسين الموزاني، التي نُشرت في مجلة (فكر وفن) الألمانية (العدد 79، 2004، ص 20 - 25)، وكذلك ترجمة رضوان ضاوي - ترجمة خاصة غير منشورة -. كما رجعت إلى ترجمة أحمد إحسان، من الإنجليزية إلى العربية، المنشورة في كتاب (فالتر بنيامين - مقالات مختارة) (تقديم راينير روشلبتز، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، 2007، ص 39 - 47)».

يقول فالتير بنيامين في هذا النص: «تكمن مهمة المترجم في العثور على التأثير المقصود الخاص في اللغة الهدف التي يظهر فيها صدى اللغة الأصل. وهذا هو مظهر الترجمة الذي يميزها أساساً عن عمل الشاعر؛ لأن قصد هذا الأخير لا يتجه بتاتاً نحو اللغة في حد ذاتها، في جملته، لكنه يتجه مباشرة نحو المظاهر السياقية اللسانية الخاصة، لا غير. فالترجمة لا تجد نفسها داخل الغابة الجبلية للغة، كما يفعل الشعر، بل خارجها، أي في مواجهتها دون أن تدخل إليها، في المكان الوحيد الذي ترجع فيه صدى اللغة كل مرة، أثر صدى العمل الأدبي في اللغة الغريبة. فقصد الترجمة لا يعالج قصد العمل الأدبي أو يختلف عنه؛ أي اللغة ككل، انطلاقاً من عمل فردي في لغة أجنبية، ولكنها مختلفة كذلك نوعياً في مجموعها. فقصد الشاعر عفوي، أولي، وجلي، بينما قصد المترجم استنباطي، نهائي وغني بالمعاني. ذلك أن الحافز الأكبر إلى إدماج لغات عدّة في لغة واحدة حقة هو الذي يحرك عملها. هذه اللغة هي تلك التي لا تتواصل فيها أبداً الجمل المستقلة، والأعمال الأدبية والأحكام النقدية؛ لأنها تبقى مستقلة عن الترجمة، ولكن هذه اللغات نفسها تكون داخل الترجمة متكاملة ومتصالحة في معانيها، بل وتتقارب كلها. فإذا كان هناك شيء مثل لغة الحقيقة، يمثل ذخيرة للأسرار النهائية، غير متوترة وصامتة، يسعى إليها كل فكر، فإن لغة الحقيقة هاته هي اللغة الحقة. وهذه اللغة بالذات، التي يكمن كمالها الوحيد في وصفها وقدرة تنبئها التي يطمح إليها الفيلسوف، تكون مختفية بدقة متناهية في الترجمة. فليس هناك ربة للفلسفة ولا للترجمة. غير أن هذه الترجمات ليست خالية من الذوق الفني مثلما يدعي بعض الفنانين العاطفيين؛ إذ إن هذه الترجمات تتسم بالإبداع الفلسفي الذي يسعى إلى لغة تتجلى فيها الترجمة».

تجد الإشارة على أن فالتير بنيامين وُلد سنة 1892، وتوفي سنة 1940. وهو فيلسوف، ومؤرخ للفن، وناقد أدبي، وناقد للفن، ومترجم ألماني. كان مرتبطاً بمدرسة فرانكفورت الفلسفية. ترجم بالخصوص بلزاك، وبودلير وبروست. انتشرت أفكاره بشكل واسع ابتداءً من خمسينات القرن العشرين، وتمت دراستها وتحليلها. له مقالات وأبحاث جُمعت في ثلاثة مجلدات ونشرتها «دار جاليمار» الفرنسية سنة 2000.

أمّا المترجم أحمد بوحسن، فهو أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس - أكدال بالرباط. ويعدّ من الباحثين في مجال الدراسات النقدية الحديثة أساساً، وفي مجال الدراسات الثقافية والدراسات المقارنة والترجمة كذلك.