تحديات الطفولة وتراجع النقد

أحكام القيمة توارت إما لأنها اضمحلت تماماً أو لأنها صارت ضمنية

تحديات الطفولة وتراجع النقد
TT

تحديات الطفولة وتراجع النقد

تحديات الطفولة وتراجع النقد

وقفتا أمامي تمسكان بورقتيهما المليئتين بالخطوط والألوان، رسمتين لم أتبين ما فيهما إلا بعد التدقيق. قالت لمى ذات الخمسة أعوام: أي رسمتينا أفضل، رسمتي أم رسمة نوف، تشير إلى أختها الأصغر (3 سنوات). كانت كل واحدة من حفيدتيَّ الصغيرتين قد رفعت لوحتها الورقية أمامي باعتزاز واضح. ثم أضافت لمى: «عليك أن تختار واحدة وتحدد أيهما أفضل». كنتُ منهمكاً في العمل على طاولة قريبة وبعض أفراد الأسرة يجلسون بالقرب مشغولين عنا. انتبهت إلى السؤال، وأفقت إلى ما فيه من حرج، كنت كمن يصحو من غفوة.

ومع إلحاح لمى أن أختار واحدة فقط من الرسمتين كان الحرج يزداد والوضع يتأزم. عيناي تتنقلان ما بين اللوحتين ثم ما بين الوجهين الطفوليين. أنظر إلى جدية لمى وأسمع إصرارها، وأنقل بصري إلى وجه نوف الأصغر وقامتها الأقصر والبراءة الآسرة في ملامحها وهي ترفع لوحتها تنتظر النطق بالحكم، وإن دون إلحاح.

أُسقط في يدي.

رحتُ أستجمع ما أعرفه من نظريات في النقد وأساليب الحكم على الأعمال، فلم يسعفني شيء، ثم توجهت إلى ذكائي وقدرتي على التخلص من المأزق للخروج سليماً معافى من هذه الورطة النقدية الجمالية الكبرى فلم أجد الكثير من الذكاء. لم أجد سوى إجابات مرفوضة بتاتاً من قبل لمى.

«كلتا الرسمتين جميلة».

«لا... لازم تختار».

«صعبة يا ابنتي، لأن كل واحدة منكما رسامة ممتازة».

تطلعت إلى مَن حولي أستغيث، متطلعاً إلى مَن يخرجني من المأزق فلم يكن لدى أحد سوى نفس الإجابات المستهلكة. لمى تريد حسماً نقدياً لمسألة جمالية بحتة: أي الرسمتين أجمل، ولن تقبل بالإجابات الدبلوماسية لإرضاء كل الأطراف، لا، لأنصاف الحلول التي من الواضح أنها تهرب من الأمر الواقع.

كانت رسمة لمى أفضل من حيث هي تمثيل للواقع: أشجار على شكل زهور وسماء وشمس بألوان واقعية جداً، لوحة واقعية ومتقنة مِن طفلة في سنها. بينما كانت رسمة نوف أقرب إلى السريالية الطفولية، إن وُجد شيء من ذلك القبيل: خطوط متقاطعة بألوان متداخلة لا تستطيع تبيّن شيء من عالمها المتشابك.

كان الحكم واضحاً: رسمة لمى أفضل أو أجمل، لكن مَن يستطيع الوقوف أمام سطوة البراءة في وجه نوف وهي ترفع لوحتها؟ أي نقد جمالي أو فني يستطيع تجاوز تلك الطيبة في عينين غارقتين في طفولة 3 سنوات وتنتظران حكماً سيكون قاسياً برفض لوحتها؟

لم أكن ذلك الناقد، ولا ذلك الشجاع.

كنت أتراجع، وأرى كل أحكام القيمة تتراجع معي.

تذكرت النابغة الذبياني وهو يحكم بين الأعشى والخنساء في عكاظ: «لولا أن أبا بصير أنشدني قبلك لقلتُ إنك أشعر مَن أنشد اليوم»، أو كما قال.

لم أكن النابغة، بل كان النبوغ أبعد ما يكون عني في تلك اللحظة، وأمام عيني لمى الغاضبتين وإصرارها البريء أيضاً على شجاعة الحكم.

نشأت لدينا، أنا ومَن اشترك معي في الورطة، رغبة في كسر حدة الإصرار لدى لمى، رغبة لا تخلو من مكر، فقلنا: «قد تغضبين لو قلنا رأيَنا». قالت: «لا، لن أغضب». مع أننا كنا متأكدين أن غضبها السريع المعروف سيكون جاهزاً لو غامرنا بحكم لا يرضيها.

توصلت والدتهما إلى رأي أدهشني وذكرني إلى حد ما بمحاولة الذبياني التخلص من غضب الخنساء: «لوحتك يا لمى أجمل من حيث هي واضحة ودقيقة، ولوحة نوف أجمل لأن فيها الكثير من الخيال». قالت ذلك بلغة أكثر مباشرة وتبسيطاً، لكن لمى وصلت الآن إلى درجة الغليان، لأنها بدأت تدرك أن هناك تهرباً من قول الحقيقة وهي أن لوحتها أفضل. وكانت محقة في توقعها، ليس لأن لوحتها أفضل فعلاً، وإنما لأنها سمعت ثناء كثيراً في الماضي ورأَتْ لوحةً لها في صفحتي على «إنستغرام» ثم في اختيار أحد المطاعم مؤخراً لوحتها لتوضع على المنصة التي يراها الداخلون إلى المطعم.

بكت لمى، ونظرتُ إلى نوف فلم أجدها مكترثة كثيراً لما يحدث. براءة حقيقية.

أردت مواساة لمى، فقلت: «سأضع لوحتك هذي على صفحتي في (إنستغرام)»، وفعلتُ وأريتُها إياها، وبدا أنها رضيت بذلك التفضيل الضمني. لم أختر لوحة نوف، وأظن أن ذلك طمأن أختها إلى مواهبها وتفوقها في الرسم.

ذكرني ذلك الموقف بوضع النقد الأدبي والجمالي في مشهدنا المعاصر، بأحكام القيمة التي توارت إما لأنها اضمحلت تماماً، أو لأنها صارت ضمنية لا تسفر عن نفسها، وإن فعلَتْ فعلى استحياء. صار من الصعب أن يقول أحد لشاعر إن عمله ضعيف، أو لروائي إن روايته ليست جديرة بالنشر. كنتُ مع أحد الأصدقاء المعنيين بالأدب ونقده نستمع إلى شاعر على المنصة، شاعر كان له شأن في يوم ما، لكنه تحول إلى شبه شاعر في سنواته الأخيرة، ناظم أكثر منه شاعراً. وكلانا تربطه به معرفه وثيقة على المستوى الشخصي وعلى مستوى أعماله وحضوره الذي كان مدوياً ذات يوم. لكن أحداً منا لم يجرؤ أن يقول له رأياً صريحاً بعد أن تواضع نتاجه وصار إلى ما صار إليه. وواضح أنني حتى هذه اللحظة لا أجرؤ على ذكر اسمه.

كان الدكتور شكري عياد يقول إنه يتجنب الكتابة عن الأعمال الرديئة، ويرى أن في ذلك تعويضاً عن الحكم عليها أو هو بمثابة حكم عليها، وصرتُ لسنوات أردد رأيه لأنني رأيت فيه مخرجاً من أحكام القيمة حين تضعنا أمام أعمال ليست جديرة بأن تنشر على الناس ونشعر بالحرج في الحديث حولها. لكني حين تأملت ذلك الرأي وجدته إشكالياً على أبعد تقدير، لأنه يعني ببساطة وضمنياً أن كل ما لا يتناوله الناقد ضعيف أو غير جدير بالكتابة عنه، وهذا غير صحيح طبعاً؛ فمَن الذي يدعي معرفة كل ما ينشر وله رأي فيه. بل إن فيه تجنياً على كثير من الأعمال المهمة التي لم نطلع عليها وقد لا نستطيع الاطلاع عليها لكثرتها وقصور قدرتنا على الإحاطة بكل ما يصدر.

لقد عرف النقد العربي القديم الكثير من أحكام القيمة في طبقات للشعراء وفي مختارات مفضلية وأصمعية وحماسات وغيرها بل لعل ذلك النمط من النظر كان المهيمن على رؤية النقاد وهم الذين عرف أحدهم النقد بأنه تمييز جيد العملة من رديئها، ومع أن المختارات لم تغب تماماً في عصرنا، فإن من الواضح لي أنها توارت ضمن آراء تنحو منحى منهجياً أو نظرياً؛ كأن يختار الناقد الشكلاني ما يراه مناسباً لرؤيته التي ترفع من شأن الشكل وتبعده عن الواقع، وينتقي الماركسي لدراسته ما يراه أصدق تمثيلاً للواقع أو للواقعية الاشتراكية، والنفسي لما يتصل بالوعي واللاوعي وهكذا. وحين أقدم البعض على عمل مختارات، فإن نظرتهم ذهبت إلى التراث الشعري والنثري، أكثر منه إلى المعاصر، بل إن المعاصر يكاد يغيب تماماً. فمن الملاحظ قلة أو ندرة المختارات في الأدب العربي الحديث وكثرتها في المقابل في أقسام اللغة العربية والدراسات الشرق أوسطية في الغرب، ربما لأسباب بيداغوجية أو تعليمية حين تتصل بالأدب العربي. لكن المختارات بارزة ومهيمنة في المكتبة النقدية الغربية عامة. والمؤكد أن المختارات تتكئ على أحكام قيمة لا مراء فيها.

لا شك أن من المخاطر المحتملة لأحكام القيمة الغرق في الذائقة الشخصية وتحكيم معايير انطباعية أو لا صلة لها بالأدب، وقد حدث ذلك وسيحدث، وفي كل اختيار حكم شخصي وربما موقف آيديولوجي أيضاً، لكن تواري تلك الأحكام تماماً ليس في مصلحة المشهد الثقافي عامة والأدبي والفني بصفة خاصة. نحن بحاجة إلى التقييم، أو التقويم، شريطة أن يكون ذلك على أسس منهجية واضحة قدر الإمكان، فقد نستطيع بذلك أن نتجاوز مأزق الحكم على جمال الرسومات والقصائد وأهمية الروايات والمسرحيات.



مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).