الكتاب العربي المسموع... هل يتجاوز نظيره الورقي؟

بعد انتشار منصات كثيرة تدعم حضوره

الناشر محمود عبد النبي
الناشر محمود عبد النبي
TT

الكتاب العربي المسموع... هل يتجاوز نظيره الورقي؟

الناشر محمود عبد النبي
الناشر محمود عبد النبي

يشكل الكتاب الصوتي الضلع الثالث في مثلث النشر العربي حالياً، فإلى جانب المطبوع ورقياً والمنشور إلكترونياً، يأتي «الكتاب الصوتي» كوافد جديد على الثقافة العربية محملاً بمزايا حصرية وتحديات متنوعة. قصائد شعر تسمعها مراهقة في الشرفة، أو رواية يتفاعل معها أربعيني وهو يقود سيارته، أو سردية تاريخية مشوقة تنصت إليها ربة المنزل وهى تقوم بمهامها اليومية المعتادة. هكذا يتحول القارئ إلى «مستخدم» بالتعبير الرقمي كما يتحول فعل القراءة هنا إلى «استماع»، مما يعني حرية أكثر وطابعاً عملياً أبرز حيث يمكن الجمع بين أكثر من شيء في وقت واحد. منصات عديدة انتشرت مؤخراً تدعم الوافد الجديد، لكن ما هي فرص انتشاره الحقيقية، وإلى أي حد يمكن أن يتأثر سلبا بالمشكلات المتنوعة التي تواجهه؟

يقول أحمد رويحل، مدير تطوير الأعمال بقسم الشرق الأوسط بمنصة «ستورتيل»:

«هناك ما يقرب من 10 آلاف كتاب! هذا هو الرقم التقريبي الذي تجمع عليه معظم المصادر حين يتعلق الأمر بحجم الإنتاج العربي السنوي من الكتب الصوتية. ففي السنوات الأخيرة، نجحت تطبيقات ومنصات عديدة في جعل هذه النوعية من الكتب تشغل حيزاً من اهتمام القراء العرب». ومن أبرز تلك التطبيقات «ستوريتل» في مصر والإمارات، «ضاد» في السعودية، «الراوي» في البحرين، «راوي الكتب» في قطر، و«مسموع» في الأردن.

الناشر أحمد رويحل

عالمياً، يعود بدء ظهور تلك الكتب إلى عام 1932 مع إنشاء «المؤسسة الأميركية للمكفوفين» استوديو بغرض تسجيل كتب على أسطوانات أو أشرطة كاسيت، بهدف مساعدة فاقدي البصر على القراءة السمعية. وفي العام التالي أقر الكونجرس الأميركي تعديلاً سمح لمكتبة الكونجرس بالشروع في إنتاج تلك النوعية من الكتب.

و تُظهِر الإحصائيات نمواً مزدهراً لسوق الكتب المسموعة في دول مختلفة مؤخراً. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، ارتفعت مبيعات الكتب الصوتية في عام 2019 بنسبة 18 في المائة، مقارنة بعام 2018، مُسجِّلة 1.2 مليار دولار. وفي كندا، شكَّلت مبيعات الكتب الصوتية عام 2019 نسبة 5 في المائة من إجمالي مبيعات الكتب، مقارنة بنسبة 3.6 في المائة في عام 2018، أما المملكة المتحدة فقد سجَّلت الفارق الأكبر بزيادة معدلها 43 في المائة في مبيعات الكتب الرقمية لعام 2019، وقُدِّرت أرباح هذه الكتب بنحو 69 مليون جنيه إسترليني.

الناشر شريف بكر

لكن ماذا عن السوق العربية؟

يشير رويحل إلى أن الكتاب الصوتي العربي مشروع قائم منذ قرابة العشرين عاماً، وذلك من خلال مشروع بادر به مجمع اللغة العربية بأبوظبي، لكن نظراً لعدم وجود وسائط إعلامية وتطبيقية سهلة وسلسة الاستخدام في ذلك التوقيت لم ينتشر المشروع بالشكل المطلوب.

وكانت السوق على موعد مع طفرة حقيقية تزامناً مع انتشار تطبيقات الهواتف المحمولة لتبدأ منصة «كتاب صوتي» أول مشروع قائم على استثمارات حقيقية لبناء سوق الكتب الصوتية العربية. وتبعها في بناء السوق الشركة الرائدة عالمياً في هذا المجال «ستورتيل»، التي قامت بالاستحواذ على «كتاب صوتي» عام 2020. ويقدر من «يستمعون» إلى الكتب اليوم بعشرات الآلاف من المستمعين العرب من مختلف الدول العربية، ولكن تظل مصر والسعودية في المقدمة باختلاف سلوك المستمعين في البلدين، فعلي سبيل المثال «المستخدم» المصري يستمع لعدد ساعات أكثر من نظيره السعودي بينما عدد «المستخدمين» في السعودية أكثر من نظرائهم في مصر.

الناشر شريف بكر

وفيما يتعلق بالفئات العمرية من مستمعي الكتب، يشير أحمد رويحل إلى أن الأكثر إقبالاً تتراوح أعمارهم من سن 18 إلى 35 سنة ويفضل هؤلاء «المستخدمون» باختلاف أعمارهم وجنسياتهم العربية الاستماع إلى الرواية، لا سيما رواية الإثارة والجريمة والرعب، يليها الرواية الرومانسية والاجتماعية ثم الرواية التاريخية. وتلي فئة الرواية كتب التنمية الذاتية وإدارة الأعمال ثم كتب السير الذاتية والكتب ذات المحتوى الخاص مثل الفلسفة والصحة النفسية.

ويشير«رويحل» إلى أن أبرز التحديات التي تواجه انتشار الكتب المسموعة تتمثل في محدودية الوصول إلي تلك النوعية من الكتب، فالكتاب الصوتي اليوم متواجد فقط على عدد محدد من المنصات. وهذا ما يفسر العدد البسيط من الكتب الصوتية مقارنة بالكتب المطبوعة والإلكترونية، فلنا أن نتخيل أن إجمالي عدد الكتب الصوتية العربية لا يتجاوز العشرة آلاف كتاب صوتي منشور بشكل قانوني ورسمي. وهناك أيضاً مشكلة ضعف الشمول المالي في بعض الدول على نحو يؤثر بدوره على قابلية الدفع الإلكتروني لاشتراكات التطبيقات.

الكاتب مصطفى عبيد

شرائح قرائية جديدة

دار «المعارف» إحدى دور النشر المصرية التي اتجهت بقوة إلى النشر الصوتي حيث تجاوز إنتاجها في هذا المجال المائة عنوان تنوعت ما بين الإبداع الأدبي والتراث وكتب الأطفال، فماذا كانت مبررات التوجه لهذا المجال الجديد؟ طرحنا السؤال على سعيد عبده، رئيس اتحاد الناشرين المصريين ورئيس مجلس إدارة الدار فأجاب: «النشر الصوتي يجتذب شرائح جديدة من القراء و يعد رافداً مهماً للناشر ومورداً جديداً يعينه على استمرار عمله».

ويضيف عبده: «نقوم حالياً بعمل استوديوهات مجهزة من أجل إنتاج المزيد من الكتب الصوتية علماً بأن هذا الاتجاه الجديد مكلف مادياً ويتطلب قدرات اقتصادية لا تملكها كل دور النشر».

الناشر سعيد عبده

ويؤكد شريف بكر، مدير دار «العربي»، أن إنتاج الكتب الصوتي يأتي بعد الكتب المطبوعة من حيث التكلفة الاقتصادية وقد يتجاوز الكتاب المسموع نظيره الورقي إذا لجأ الناشر إلى فنان معروف كي يقوم بتسجيل النص بصوته. من هنا يتوقع بكر المزيد من الانتشار للكتاب الصوتي بالتزامن مع انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي، حيث سيتم اللجوء إلى صوت إلكتروني وليس صوتاً بشرياً لقراءة العمل لخفض التكلفة وسرعة الإنجاز، لكن هذا يتطلب ضبط النص من حيث تشكيل الكلمات كي تُنطق بشكل صحيح، كما ستكون هناك مشكلة تتمثل في خلو هذا الصوت الإلكتروني المحايد من أي مشاعر أو انفعالات أثناء القراءة.

* العلاقة بالتكنولوجيا

- ويرى محمود عبد النبي، مدير دار «إيبيدي» أن انتشار الكتب الصوتية يراهن على قوة علاقة الجيل الجديد من الشباب تحت الثلاثين بالتكنولوجيا حيث إن تلك الفئة العمرية تمثل القوة الشرائية الأكبر في السوق وتستوعب جيداً عالم التطبيقات الرقمية التي لا بد منها كي تقوم بتحميل كتاب ما والاستماع إليه.

وينفي عبد النبي أي احتمال لأن يهدد «الصوتي» نظيره «الورقي»، مستشهداً بما حدث في الولايات المتحدة عام 2016 حيث أنتجت 51 ألف كتاب صوتي ومع ذلك لم يتأثر الكتاب المطبوع الذي يستفيد في حقيقة الأمر من الكتاب المسموع بوصفه مجرد أداة تنشيطية تدعم الكتاب الورقي. ويضيف: «الأجيال التي نشأت على الكتاب المدرسي وروايات الجيب لا يمكن أن تفرط بسهولة في الكتاب الورقي وتستبدل به وسائل أخرى مهما كانت الإغراءات».

لكن ماذا عن موقف المؤلف أو الكاتب نفسه؟ كيف ينظر إلى الكتاب الصوتي؟

الروائي والباحث مصطفى عبيد تحولت روايته «جاسوس في الكعبة» و كتابه «ضد التاريخ» إلى النشر الصوتي، فكيف يرى التجربة؟

يقول عبيد: «الكتاب الصوتي لا يدخل صراعاً صفرياً يقوم على الإقصاء مع الكتاب المطبوع فكلاهما يكمل الآخر والعلاقة بينهما قائمة على التكامل والدعم المتبادل. ويأتي دور الكتاب المسموع ليعوض نقص أو صعوبة التعامل مع الورقي في حالات كثيرة، مثل ضعف النظر ووجود مشكلات صحية في العين لا تسمح بمطالعة الصفحات المطبوعة لساعات طويلة. أيضاً هناك كبار السن الذين يعانون مشاكل في العمود الفقري ولا يستطيعون القراءة لفترات ممتدة. كما تبين أن هناك قراء للعربية في أوروبا والأميركتين لا تصلهم الكتب بسهولة نتيجة ارتفاع تكلفة الشحن، وبالتالي تصبح النسخة الصوتية من الكتاب بديلاً مناسباً في حالة تعذر وجود نسخة إلكترونية».



وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان
TT

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

يحتلّ موقع سمهرم مكانة مميزة في خريطة «طريق اللبان» العُمانية التي دخلت عام 2000 في قائمة اليونيسكو الخاصة بمواقع التراث العالمي، وهي طريق البخور التي شكّلت في الماضي معبراً تجارياً دولياً ازدهر على مدى قرون من الزمن. بدأ استكشاف هذا الموقع في مطلع الخمسينات، وأدت أعمال التنقيب المتواصلة فيه إلى العثور على مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية، منها بضعة أنصاب حجرية مسطّحة تحمل نقشاً غائراً يمثّل وجهاً آدمياً مختزلاً، تقتصر ملامحه على عينين واسعتين وأنف مستطيل.

يضمّ موقع سمهرم مستوطنة أثرية تجاور خوراً من أخوار ساحل محافظة ظفار يقع في الجهة الشرقية من ولاية طاقة، يُعرف محليّاً باسم «خور روري». يعود الفضل في اكتشاف هذا الموقع إلى بعثة أميركية، أسّسها عام 1949 في واشنطن عالم الآثار وينديل فيليبس الذي لُقّب بـ«لورنس العرب الأميركي». شرعت هذه البعثة في إجراء أول حفريّة في «خور روري» خلال عام 1950، وواصلت عملها على مدى 3 سنوات، وكشفت عن مدينة لعبت دور ميناء دولي، عُرفت باسم سمهرم، كما تؤكد النقوش الكتابية المدونة بخط المُسنَد العربي الجنوبي. من بين أطلال هذه المدينة المندثرة، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة زُيّن كلٌّ منها بنقش تصويري غائر طفيف يمثّل وجهاً آدمياً ذكورياً، كما يؤكّد الكشف العلمي الخاص بهذه البعثة.

عُثر على حجرين من هذه الحجارة على مقربة من أرضية مبنى من معالم سمهرم، وعُثر على ثالث على مقربة من المعبد الخاص بهذه المستوطنة، ممّا يوحي بأنه شكّل في الأصل جزءاً من أثاث هذا المعبد على الأرجح، كما رأى العالِم فرانك فيدياس أولبرايت في تقرير نُشر في عام 1953. استمرّت أعمال المسح والتنقيب في سمهرم، وتولّتها منذ عام 1997 بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا، ومع هذه الأعمال، تمّ الكشف عن مجموعة أخرى من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة مشابهة لتلك التي عثرت عليها البعثة الأميركية.

يتكرّر النقش التصويري على هذه الأنصاب التي احتار أهل الاختصاص في تحديد وظيفتها، ويتمثّل بوجه آدمي مجرّد هندسياً إلى أقصى حد. اختُزلت ملامح هذا الوجه بعينين لوزيّتين واسعتين، وأنف مستطيل رفيع. خلت هاتان العينان الفارغتان من حدقتيهما، كما غابت عنهما الرموش والحواجب، فظهرتا على شكل مساحتين بيضاويتين حُدّدتا بخط ناتئ رفيع وبسيط في وضعية المواجهة. كذلك، ظهر الأنف على شكل مثلّث عمودي طويل يحدّده خط مماثل. يعود هذا الوجه ويظهر على واجهة مجمّرة مخصّصة لحرق البخور، عثرت عليها البعثة الإيطالية خلال عام 2014، إلى جانب مجمّرتين تتبعان الطراز المألوف المجرّد من النقوش. ويتميّز هذا الوجه بظهور حاجبين مقوّسين يمتدان ويلتصقان عند أعلى مساحة الأنف المستطيلة.

خرجت من موقع سمهرم مجموعة كبيرة من المجامر والمباخر، غير أن هذا الوجه المجرّد لا يظهر على أي منها، كما أنه لا يظهر على أي من عشرات المجامر التي عُثر عليها في نواحٍ عدة من جزيرة العرب الشاسعة. في الواقع، يتبع هذا الوجه طرازاً ارتبط على نحوٍ واسع بشواهد القبور، وعُرف باسم «المسلّة ذات العينين». خرج العدد الأكبر من هذه المسلّات من محافظة الجوف التي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء، وخرج عدد آخر منها من وادي بهيان في محافظة حضرموت. تجاوز هذا الطراز حدود جنوب الجزيرة العربية، وبلغ شمالها حيث ظهر في واحة تيماء في منطقة تبوك، وقرية الفاو في الجنوب الغربي من الرياض، كما تؤكّد شواهده التي كشفت أعمال التنقيب عنها خلال العقود الماضية.

حمل هذا الطراز طابعاً جنائزياً لا لبس فيه، وتمثّلت خصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذي ظهر على شواهد قبور فردية، كما تشير الكتابات المنقوشة التي تسمّي أصحاب تلك القبور. يصعب تأريخ هذه المسلّات بدقة، نظراً إلى غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة، والأكيد أن هذا الطراز الجنائزي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد، وشاع على مدى 5 قرون. يحضر هذا الوجه في سمهرم، ويشهد هذا الحضور لدخوله إقليم عُمان في مرحلة تلت فترة انتشاره في جنوب الجزيرة وفي شمالها، فالدراسات المعاصرة تؤكد أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وارتبط بمملكة حضرموت في زمن نشوء التجارة البحرية وازدهارها في المحيط الهندي، وظلّ ناشطاً حتى القرن الخامس للميلاد، حيث تضاءل دوره وتلاشى تدريجياً نتيجة اندحار مملكة حضرموت.

حضر هذا الوجه التجريدي في سمهرم حيث ظهر على عدد من المسلّات، وانطبع بشكل استثنائي على مجمرة تبدو نتيجة لذلك فريدة من نوعها إلى يومنا هذا. خرج هذا الوجه في هذا الموقع العُماني عن السياق الجنائزي الذي شكّل أساساً في جنوب جزيرة العرب، وحمل هُويّة وظائفية جديدة، وتحديد هذه الهوية بشكل جليّ لا يزال يمثّل لغزاً وتحدّياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.