محمود درويش... لِمَ لم تُطِل وقتَ زينتك؟

محمود درويش... لِمَ لم تُطِل وقتَ زينتك؟
TT

محمود درويش... لِمَ لم تُطِل وقتَ زينتك؟

محمود درويش... لِمَ لم تُطِل وقتَ زينتك؟

محمود درويش ظاهرة شعرية فريدة لا يمكن تفسير مسالكها وسُبُلها ببساطة. ومحمود درويش هو أبهى ما أعطت فلسطين من شعراء، وهو، فوق ذلك، شوط خاص في سلسلة طويلة من الشعراء الألمعيين من عيار عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وإبراهيم طوقان وسميح القاسم وهارون هاشم رشيد وراشد حسين وتوفيق زيّاد وحنا أبو حنا ومعين بسيسو وعز الدين المناصرة وغيرهم. واللافت أن الفلسطينيين لم يُجمعوا، طوال تاريخهم المعاصر، على أي أمر أو شأن أو فكرة أو زعيم مثلما أجمعوا على محمود درويش؛ فقد شغفوا به وافتنّوا بشعره فتوّجوه ملكاً على ذائقتهم ووضعوا في كفيه «أحد عشر كوكباً». وهكذا تحوّل محمود درويش قديساً للفلسطينيين، فقدّم لهم الأمل، وأنبأهم أن في إمكانهم أن ينتصروا على المنفى، وأن هناك ما يستحق الحياة على هذه الأرض. فأعاد ترميم جروحهم، وقال لهم إنكم لستم «عابرين في كلام عابر».

محمود درويش شاعر فلسطيني بالمعنى الجغرافي، أي بهوية المكان والولادة. لكنه شاعر القلق، والحائر والباحث عن يقين بالمعنى الوجودي. شعره يخاطب الكوني لا اليومي، ولا سيما حين غادر مرحلة البدايات العاصفة، وذهب إلى الوجود، ومعنى الوجود والموت والاغتراب. وفي هذا الترحل تمكَّن محمود درويش من تحويل قضية فلسطين من قضية سياسية مباشرة إلى مصاف القضايا الإنسانية الكبرى، وحوّل أغاني اللجوء ومواويل المنفى إلى ملحمة مدهشة للعودة المؤجلة. وفي هذه المكابدة صار شعره تحدياً إبداعياً لجميع الشعراء الذين عاصروه أو الذين جاءوا بعده.

ما سِرّه إذن؟

سِرّه أنه صنع في هذا الخلاء العربي أملاً، وزرع في هذا السديم منارة، وأبدع في هذا العماء وعوداً خلابة، فصارت قصائده شراعنا ومنائرنا وتاريخنا المكلوم وحاضرنا الراعب. ومع ذلك لم يكتشف كثير من الفلسطينيين أن نبياً للتيه كان بينهم ولم يعرفوه.

الشعر الصافي وتجارب الزمنقصائده مُشبعة بجماليات الإيقاع، وما انفك في جميع مراحله باحثاً عن أفق جديد لقصيدته، فلم يكن ليطمئن قط إلى أي إنجاز شعري له، لذلك كان كل ديوان جديد يمثل ذروة جديدة في مسيرته الشعرية المتواصلة. وفي غمار تلك المسيرة كانت متناقضاته الشعرية تحمل التوتر إليه في سعيه إلى الاكتشاف، وظهر ذلك في نزوعه الميتافيزيقي إلى التأمل خصوصاً بعد اختبار الموت. وكم حيّرته رحلة المتصوف الكامنة فيه مع اندفاعه الأيروسي، فأضرمت حرائقه الابداعية، واضطرم هو نفسه في ثنائيات متعاكسة كالحب والموت، الوطن والمنفى، الألم والابتسام، الجمال والكآبة، التيه والأمل، المدائن والمنافي، الحيرة واليقين، الحياة واللانهاية. تلك هي العناصر التي أشعلت في شعره عالماً من الألحان الكونية، وباتت قصائده مثل ضوع البخور الهندي في معبد منعزل عند أقاصي الأرض، أو مثل شميم المسك الجاوي في احتفال وثني في العراء.

تجربته الشعرية تمتد على أربع مراحل إذا نظرنا إليها في مسارها الزمني: ما قبل الخروج من فلسطين في سنة 1970، وفيها كتب: «عصافير بلا أجنحة»، «أوراق الزيتون»، «عاشق من فلسطين»، «آخر الليل»، «يوميات جرح فلسطيني»، «حبيبتي تنهض من نومها»، «العصافير تموت في الجليل»، «كتابة على ضوء بندقية». ثم ما قبل الخروج من بيروت في سنة 1982 وفيها كتب: «أحبك أو لا أحبك»، «محاولة رقم 7»، «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق»، «أحمد الزعتر»، «دورة الحزن واكتمال الجرح»، «أعراس»، «حصار لمدائن البحر»، «الكتاب الشجر الليل»، «مأساة النرجس ملهاة الفضة». ثم ما قبل الخروج من الموت في سنة 1998 وفيها كتب: «مديح الظل العالي»، «ورد أقل»، «أرى ما أريد»، «أحد عشر كوكباً»، «لماذا تركت الحصان وحيداً»، «هي أغنية هي أغنية». وآخر المراحل هي مرحلة ما قبل الخروج من الحياة في سنة 2008 وفيها أبدع أبهى دواوينه وهي: «سرير الغريبة»، «جدارية محمود درويش»، «حالة حصار»، «لا تعتذر عما فعلت»، «كزهر اللوز أو أبعد»، «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي».السياسي اللامع

كان محمود درويش ذا حدس سياسي ثاقب، وكانت له رؤية سياسية بارعة، وإن لم يُعرف عنه هذا الضرب من التفكير، على الرغم من أنه شارك في صوغ خطبة ياسر عرفات في الأمم المتحدة في سنة 1974، وعبارة «لا تُسقطوا غصن الزيتون من يدي» مسجلة ليراعه وحده. وهو الذي كتب إعلان الاستقلال الفلسطيني في سنة 1988، وخطبة ياسر عرفات التي ألقاها في حفل تسلمه جائزة نوبل للسلام في عام 1994، وخطبة عرفات أمام اليونيسكو في سنة 1996. وفي عام 1988، أي في معمعان الانتفاضة الأولى، نشر مقالة في جريدة «لوموند» عنوانها «سؤال إلى الضمير اليهودي»، جاء فيها: «لقد آن الأوان لنعلن من دون أن نخشى الاتهام أو الابتزاز أن شرف يهود العالم كلهم ملطخ بوحل الاحتلال الإسرائيلي، وبدم ضحاياه الفلسطينيين ما لم يعلنوا القطيعة مع هذا الاحتلال»، فقامت عليه قوائم المنظمات الصهيونية وحوافرها، ورُفعت ضده دعوى قضائية أمام المحاكم الفرنسية بتهمة إثارة الكراهية ضد اليهود. لكن محكمة الاستئناف في باريس أصدرت في 17/3/1990 حكماً بالبراءة.

مَن عرف محمود درويش من قرب أدرك أنه كان سياسياً خارق الذكاء. ففي إحدى المرات كان محمود في بيروت، واتصل بي المستشار الثقافي الإيراني وأبدى رغبته في مقابلة لأمر ثقافي مهم. ونقلتُ هذه الرغبة إليه فأبدى استعداده لاستقباله، وجرى اللقاء في فندف «كافالييه» حيث ينزل محمود درويش، وكنتُ إلى جانبه في ذلك اللقاء. وكانت الغاية دعوة محمود درويش إلى زيارة إيران. ورحب محمود بالدعوة بعد أن قدم مطالعة مدهشة في الآداب الفارسية وأثرها في الأدب العربي، وأبدى استعداده لتلبيتها، لكنه قال إنه مضطر إلى مغادرة بيروت غداً إلى عمان، وهو غير قادر الآن على تحديد الموعد الملائم للزيارة. فقال له المستشار الثقافي الإيراني: هل ثمة مانع في أن يتابع موضوع الزيارة المستشار الثقافي الإيراني في عمان، فأجابه محمود: لا مانع إطلاقاً. وهكذا اتفقا على ذلك الترتيب. وبعد خروج المستشار ومَن معه رحتُ أحبّب الزيارة لمحمود درويش، خصوصاً أنني زرت إيران مرات عدة، وأخبرته أن دواوينه مترجمة إلى الفارسية، وأن عرب إيران يعشقون شعره. فإذا بمحمود ينظر إليّ بدهشة ويقول لي: وهل تعتقد أنني سأزور إيران حقاً؟ ودُهشت بدوري وقلت له: لكنك وعدته بتلبية الزيارة؟ فقال لي باسماً: يا صقر، عليك التفكير بطريقة سياسية محسوبة. إيران تهاجم ياسر عرفات في هذه الأيام ولا تتوقف عن مهاجمته، وهم سيستغلون زيارتي للنكاية بياسر عرفات، فهل أفعل؟ لا يمكنني أن ألعب مثل هذه الألاعيب. بالطبع أود زيارة إيران لكن ليس في هذه الأحوال. وهنا جحظت عيناي وقلت له: ولكن ماذا ستفعل حين سيتصل بك المستشار في عمان؟ فأجابني: سمعنا منهم كلاماً جميلاً وأجبناهم بكلام جميل، وهذا يكفي. وأنا سأغادر حقاً إلى عمان ثم منها إلى رام الله ثم إلى تونس فباريس... ليلحقوني إذن!. هكذا هو محمود درويش السياسي الحصيف، أما قصائده فكانت، تدعونا دوماً إلى الاحتفال بانتصار الشعر على السياسة، أي إلى إزاحة القبح من درب الجمال، وإلى زحزحة الواقع ولو قليلاً أمام الحلم.

معايشة الموت

قبل خمس عشرة سنة طوى محمود درويش آخر أوراقه، وأدار لنا ظهره، ومضى إلى حيث «رأى ما لا يريد». لم يتحرر من منفاه البتة، ولم يشعر أنه في وطنه حتى حين عاد إلى رام الله. في البدايات كان «مقيماً» في وطنه من دون «مواطنة»، أي بلا جواز سفر. وحين أمسى خارج بلاده ظل يحمل وطنه في منفاه. وبعد عودته صار يحمل المنفى في وطنه. قبل الموت كان خائفاً وَجِلاً من أن تُثقب شرايينه في أي لحظة. ومع ذلك عاش مثل قصبة ثقبتها الريح فصار ناياً شجيّاً.

كان شجاعاً لكن بقلب راعش. غير أنه زهق من معايشة الموت والنوم معه في سرير واحد فصرخ: وداعاً لشعر الألم، ثم رمى زهر النرد من يده ومضى إلى إغفاءته الأخيرة بعيداً عن خبز أمه. ولو كان بيننا الآن لاحتفلنا بميلاده الثاني والثمانين، لكنه مضى كقصيدة أخيرة من دون أن ينظر خلفه، لأنه لو التفت قليلاً إلى الوراء ما كان ليرى غير مناديل تلوّح له بلوعة، وحناجر تصيح به: لمَ لم تُطِل وقتَ زينتك أيها الشاعر البهي؟

* كاتب لبناني


مقالات ذات صلة

السعودية تؤكد أهمية تضافر الجهود لترسيخ قيم التعاون والتعايش السلمي

الخليج نائب وزير الخارجية السعودي خلال إلقائه كلمة في المؤتمر العاشر لـ«تحالف الحضارات» المنعقد في العاصمة لشبونة (واس)

السعودية تؤكد أهمية تضافر الجهود لترسيخ قيم التعاون والتعايش السلمي

جددت السعودية، الثلاثاء، دعوتها لتكثيف التعاون بين الحكومات والمجتمع المدني والمؤسسات الثقافية والتربوية لترسيخ قيم التعاون والتعايش السلمي في الأجيال القادمة.

«الشرق الأوسط» (لشبونة)
يوميات الشرق يسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة (الشرق الأوسط)

السعودية تحتفي بإبداعات الثقافة العراقية في مهرجان «بين ثقافتين»

تحتفي وزارة الثقافة السعودية بنظيرتها العراقية في النسخة الثانية من مهرجان «بين ثقافتين» خلال الفترة من 18 إلى 31 ديسمبر (كانون الأول) المقبل في الرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي مع توشيكو آبي وزيرة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية في اليابان (الشرق الأوسط)

الرياض وطوكيو نحو تعاون أعمق في مختلف المجالات الفنية والثقافية

تهدف «مذكرة التفاهم» إلى تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين الرياض وطوكيو واليابان في مختلف القطاعات الثقافية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!