في حضرة الغياب... في متن الشعر

لماذا تركت الحصان وحيدا
لماذا تركت الحصان وحيدا
TT

في حضرة الغياب... في متن الشعر

لماذا تركت الحصان وحيدا
لماذا تركت الحصان وحيدا

من أي شيء يأتي الشعر، ومن أي باب دخل محمود درويش إلى متن الوجدان العربي؟ من دروب القضية ودلالاتها، والاستدعاء المتواتر لحبيبة عصيّة على الموت والاستسلام، أم من نثار التفاصيل اليومية، وشقشقة الروح الهائمة في المنافي، أم من جدل الذات والعالم، ومراوحاتهما المتجددة، أم يا ترى من الاحتماء بالشعر والتخييل المتكئ على شعرية السيرة الذاتية في تماسّاتها مع المكان، وفي لحظة قلقة من عمر الأمة والعالم؟

القضية ووهج البدايات

منذ ديوانه «أوراق الزيتون - 1964» تتعزز تيمة الغضب بوصفها تيمة مركزية في المنجز الشعري لدرويش، وقد اختلفت آليات التعبير الفني عنها تبعاً لتلك الموجات الجمالية التي كشفت عنها تنويعات المشروع الشعري لدرويش الذي لا يمكن التعاطي مع إبداعه بوصفه كتلة واحدة صمّاء، وإنما ثمة تكوينات متعددة داخل متن المنجز الإبداعي للشاعر الذي حمل راية الشعر عقوداً كاملة، ظل فيها أحد الممثلين القلائل لإمكانية خروج الشعر الفصيح إلى سياقات جماهيرية تتجاوز النخب النوعية، والقراء التقليديين للشعر، مع احتفاظه بفرادته الجمالية، وبصمته الأسلوبية التي تخصه، ولا تخص أحداً سواه.

يستهلّ درويش ديوانه «أوراق الزيتون» بقصيدته «إلى القارئ»، هذا الذي يمثل بغيته الدلالية والجمالية، حيث يتوجه بالخطاب الشعري إلى متلقٍّ غير متعيَّن، يُشركه معه في مأساته - مأساتنا، ويعلن له أنه لا يملك سوى الغضب يجابه به واقعاً موحشاً وقاسياً، في إحالةٍ على القضية المركزية «فلسطين» في أعمال درويش، التي تعددت الآليات الفنية في الإبانة عنها من مرحلة إلى أخرى: «يا قارئي - لا ترجُ منّي الهمس! - لا ترجُ الطرب - هذا عذابي - ضربة في الرمل طائشة - وأخرى في السُّحب! - حسبي بأني غاضب - والنار أولها غضب!».

وقد ظل التّماس مع المتلقي ومحاولة كسر الإيهام بين النص وقارئه، ديدناً لدرويش في قصائده. وفضلاً عن تيمة الغضب التي تمثل بنية مهيمنة على فضاء ديوانه «أوراق الزيتون»، والدواوين التي تلته، فإن حركة النص الشعري تدور بين استحضار مدلولات الصمود، والأمنيات والحزن، والمقاومة؛ ولذا كانت قصائده «عن الصمود - عن الأمنيات - الحزن والغضب - لوركا»، وصولاً إلى نصه الشهير «بطاقة هوية» الذي ظل متداولاً في عالمنا العربي حتى الآن، على الرغم من خطابيته، ونزعته التقريرية المباشرة التي ربما استدعتها اللحظة السياسية والثقافية من جهة، والخبرة الجمالية التي لم تكن قد حَوَت ذلك النضج الفني الذي رأيناه في الانتقالات النوعية التي شهدها نصه الثري فيما بعد: «سَجِّلْ! - أنا عربي - ورقم بطاقتي خمسون ألفْ - وأطفالي ثمانية - وتاسِعُهم... سيأتي بعد صيفْ! - سجِّلْ! - أنا عربي - وأعمل مع رفاق الكدح في محجر - وأطفالي ثمانية - أسلُّ لهم رغيف الخبز - والأثوابَ والدفترْ - من الصَّخرِ»...

وظلت الروح الرومانتيكية حاضرة في ديوانه «عاشق من فلسطين - 1966»، وتبدت في قصيدته المركزية داخلها والتي حمل الديوان عنوانها، وقد تماهت فيها الحبيبة مع الوطن المسلوب، واختلط الهم بالبكاء، وامتزج الفراق بأحلام العودة، وبدت القصيدة تعبيراً عن حال من الفقد، والألم الممضّ.

وفي ديوانه «آخر الليل - 1967»، وقد استهله بقصيدته «تحت الشبابيك العتيقة - إلى مدينة القدس»، مستخدماً تكنيك المقاطع الشعرية، تبدو القصيدة سُباعية من أجل الحفاظ على الذاكرة الوطنية من المحو، ومحاولة إبداعية -شأن نصوص أخرى له للتشبث بالجذور، والالتحاف بالهوية بتراكماتها الحضارية، وتمظهراتها الَمكانية أيضاً.

ثمة حزن شفيف وأسى ملتاع في ديوان «العصافير تموت في الجليل - 1969»، حيث تستدعي الذات الشاعرة «ريتا» التي بدت أكثر من حبيبة، وحمل حضورها المتواتر في القصيدة المركزية داخل الديوان مدلولات متعددة، سواء عبر التصريح بالاسم، أو توظيف ضمير الغائب في الكناية عنها: «نلتقي بعد قليل - بعد عام - بعد عامين - وجيل... - ورمت في آلة التصوير - عشرين حديقة - وعصافير الجليل - ومضت تبحث، خلف البحر - عن معنى جديد للحقيقة - - وطني حبل غسيل - لمناديل الدم المسفوك».

موجات جمالية

تتسع مساحات الرومانتيكية في «حبيبتي تنهض من نومها - 1970»، ويتواشج الغنائي مع الدرامي، في بنية شعرية متجانسة، ربما كانت أكثر تجلياً فيما بعد في ديوان «أعراس - 1977»، وبخاصة في قصيدة «أحمد الزعتر» التي اتكأت على استحضار شخصية متخيَّلة في المتن الشعري، يتواتر حضورها عبر صيغ أسلوبية متعددة، فتارةً نصبح أمام «أحمد المنسي بين فراشتين»، وتارة ثانية نصبح أمام «أحمد العربي»، وتارة ثالثة نصبح أمام «أحمد الزعتر»، وهكذا: «ليدين من حجر وزعتر هذا النشيد... لأحمد المنسي بين فراشتين - مضت الغيوم وشرّدتني - ورمت معاطفها الجبال وخبأتني... - نازلاً من نخلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد وكانت السنة انفصالَ البحر عن مدن الرماد، وكنت وحدي - ثم وحدي... - آه يا وحدي؟ وأحمد - كان اغتراب البحر بين رصاصتين - مخيماً ينمو، ويُنجب زعتراً ومقاتلين - وساعداً يشتد في النسيان».

غلاف المجموعة

تبدو إمكانات التدفق الشعري، والحضور المتواتر للغة بوصفها جملة من الشحنات الانفعالية والفكرية، مناط الجدارة في ديوان «مديح الظل العالي - 1983» الذي بدا عنواناً على موجة جمالية جديدة تشهدها قصيدة درويش التي مزجت أكثر بين الواقع والأسطورة، وانطلق المتخيل الشعري من قلب الحصار «حاصر حصارك»، وأصبحت المشهدية عنواناً أبرز هنا، وبدت الصورة الفنية أكثر تركيباً، وتحولات الضمائر علامة على انتقالات الدلالة الشعرية داخل المقاطع المنسالة بلا توقف: «نمْ يا حبيبي، ساعة - لنمُرَّ من أحلامك الأولى إلى عطش البحار إلى البحارِ - نمْ ساعة، نمْ يا حبيبي ساعة - حتى تتوب المجدلية مرة أخرى - ويتضحَ انتحاري - نمْ، يا حبيبي، ساعة -حتى يعود الروم، حتى نطردَ الحراس عن أَسوار قلعتنا، وتنكسر الصواري - نمْ ساعة - نمْ يا حبيبي - كي نصفِّق لاغتصاب نسائنا في شارع الشرف التجاري - نمْ يا حبيبي ساعة، حتى نموت - هي ساعة لوضوحنا - هي ساعة لغموض ميلادِ النهار».

ينفتح ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً - 1995» على التاريخ، يستعير قصيدته من رحم المأساة المتواترة، فتخفّ حدة الغنائي لمصلحة الدرامي، وتتحقق شعرية رهيفة يبدأها الشاعر بآلية السؤال المؤرق الأبديّ «إلى أين تأخذني يا أبي»، وتتعدد الأصوات داخل القصيدة، وتعزز تلك النزعة البوليفونية من ماء الشعر، وتحفر مجراه بعيداً في الروح.

في حضرة الفلسفة والغياب

كان كتاب محمود درويش «في حضرة الغياب» تنويعة مغايرة على متن المنجز الإبداعي للشاعر الفذّ، وتصلح عبارته «النثر المصفَّى» مدخلاً قرائياً له، وقد كتب درويش على غلافه مفردة «نص»، في إدراك جمالي لحالة التراسل بين الفنون الأدبية التي أفاد منها درويش في أعماله الإبداعية الأخيرة بشكل عام. ويصدِّر محمود درويش نصه «في حضرة الغياب» بالبيت الشعري الشهير لمالك بن الريب: «يقولون: لا تبعد، وهم يدفنونني - وأين مكانُ البعدِ إلا مكانيا»، وتحضر فلسفة الاغتراب، وهواجس الفقد، وتصبحان العنصر المسيطر على النص.

وتتعمق تيمة الاغتراب في ديوان «حالة حصار - 2002»، وتتخذ مظهرين أساسيين، أحدهما الاغتراب الذاتي، والآخر الاغتراب بمعناه الشامل.

ويكتسي ديوان «لا تعتذر عمّا فعلت - 2004» بنزوع فلسفي «الظل لا ذكر، ولا أنثى» صار ملازماً للشاعر في دواوينه الأخيرة جميعها، وقد بدت أكثر تركيباً، وتجلَّت آلية اللعب مع المكان هنا على نحو لا تخطئه عين، واتسعت جغرافيا الشعر في نص درويش، وبدت الأمكنة فضاءات نفسية محشوة بانفعالات البشر وهواجسهم، وتاريخهم الشخصي قبل أن تكون معبأة بالأسوار، والبنايات، وهنا تتعمق المأساة التي لم تغادر الذات الشاعرة بوصفها جدلاً بين المحنة الشخصية والهم العام، ومزيجاً رهيفاً بين الذاتي والموضوعي.

وبعد... خمسة عشر عاماً مضت على رحيل محمود درويش، ولم يزل نصه عفيّاً، نابضاً بالحياة، عصيّاً على النسيان، حاملاً طبقات متعددة من الدلالة، وضفافاً متسعة من الجمال الخالص القادر على التخطي، والمجاوزة، والبقاء.

كاتب وناقد مصري



عن الخيال السهل وانحسار التحفة

دان براون
دان براون
TT

عن الخيال السهل وانحسار التحفة

دان براون
دان براون

أضحت الصفوف الطويلة من القراء الجدد، المنتظرة لتوقيع كاتب غير معروف في الأوساط النقدية والأكاديمية، مشاهد متكررة في أكثر من معرض للكتاب في الوطن العربي، الذي لم يحظ فيه كاتب يوماً بهذه الشهرة. وبمراجعة بعض هذه النصوص الروائية، يمكن الوقوف على حقيقة أنها تقف عند تقاطع سرد المغامرات والسفر، والخيال العلمي والعجائبي؛ مع التزامها بقاعدة تخييلية وأسلوبية تضعها بشكل مبدئي ضمن ما يمكن تسميته «الأدب السهل». ظاهرة يمكن أن نجد لها امتدادات في تنامي أروقة فنية انحازت بشكل كلي لفن اللوحة، مع شرط أن تكون «تزيينية» ولا تخلو من نعومة. اختيار لم تخف السينما انحيازها له منذ البداية، بإنجاز مجاورة مسترسلة بين أفلام السهرة والأفلام الروائية ذات العمق الإشكالي.

باولو كويلو

بينما على الصعيد العالمي، وفي حفلات توقيع روائيين من عيار «دان براون» أو«باولو كويلو» ممن يوصفون عادة بالجماهيريين، وهم طبعاً من روائيي الدرجة الثالثة، بات حجز النسخ مسبقاً ودفع ثمنها ببطاقات الائتمان على الشبكة أمراً مألوفاً، إنها إحدى ملامح تحول كتابة الرواية إلى عتبة للثراء الفاحش، بعد بيع ملايين النسخ منها، وتحويلها إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تليفزيوني. وبتعبير أدق هي إحدى صفات تحول الرواية إلى «سلعة»، في مجتمعات استهلاكية تحدد فيها قيمة الأشياء بأرقام مبيعاتها. لهذا لم يكن غريباً أن تلتجئ المطابع في العواصم الغربية الكبرى المنتجة للروايات إلى طحن فائض الإنتاج بعد انتهاء الموسم الثقافي، لتخلي الرفوف للإصدارات الجديدة. إنها العواصم نفسها التي تحتضن أسواق الأعمال الفنية ومزاداتها، حيث تمتزج رغائب امتلاك التحف الجميلة والذخائر الغالية، بمآرب المضاربة وغسل الأموال والتهرب الضريبي، ويبدو الاستثمار في ذخائر تاريخ الفن جنباً إلى جنب مع الاستثمار في الذهب والنفط والعملات.

كتاب جون بورغر عن بيكاسو

ويخيل إليّ أن أحد الأسباب الرئيسية لذيوع الرواية ورواج أنواعها وانتشارها، ليس أنها تحقق مآرب انقلابية عظيمة على الأمد البعيد، كأن تساهم في تغيير العالم حولنا مثلاً، أو تحسن معارفنا بالمجتمع والتاريخ، وبالمدن والحضارات، وبالنفس البشرية؛ أو لأنها تساهم بشكل ما في تطوير استعمالات اللغة ومفرداتها ومجازاتها، ولكن لأن نصوصها الجذابة والآسرة تملأ فجوات حياتنا اليومية. وبتعبير أكثر دقة، فإن الرواية مهيمنة لأنها تحسن تبديد وقتنا القاتل، الذي لا ندري ما نفعل به، وتملأ ما لا يُملأ من لحظات الوجود، خارج مطحنة التواصل مع الآخرين. تلك الوظيفة التي سرعان ما تحولت إلى قيمة تباع وتحقق ثروات طائلة، تماماً مثلما أن وظيفة اللوحة أو المنحوتة الفنية اليوم هي تزيين القصور والمؤسسات السيادية والمتاحف، قبل أن تكون أسلوباً أو علامة أو مجازاً.

والظاهر أن علاقة القراء بالنصوص الروائية، ونظرتهم للوحات والأفلام، وما سواها من أعمال بصرية تتجلى بوصفها تأرجحاً محيراً بين صعقة الانجذاب العابر، ولوعات الصداقة الدائمة، القائمة على جدل لافت بين الاعتقاد في جوهر القيمة، والنفور من الأسلوب المنهك؛ وغير خاف أن الانجذاب الأولي الخالب يتصل في معظمه بظواهر فنية رائجة، تبيع ملايين النسخ في شهور، ثم تدريجياً تنمحي من الوجود، كما قد تتصل بأفلام سيئة السمعة، تتألق كنيازك سرعان ما تنطفئ، بينما لا تعقد جل النصوص الخالدة صفقة متعة على عجل، ففي طبيعة أعمال من قبيل «موت إيفان إليتش» لتولستوي، و«أوليس» لجيمس جويس، و«الموت في البندقية» لتوماس مان، لعبة تطويع للصور والدلالات، وسعي لاعج لفهم المخفي بإيحاءات كثيفة من المفردات والتخييل، وبتعبير ماريو بارغاس يوسا فبعد قراءتها وإعادة قراءتها: «ينتابنا دائماً شعور مربك بأن أمراً ملغزاً قد بقي في النص بعيداً عن المتناول، حتى بعد قراءته بتأن أكثر. ثمة خلفية قاتمة وعنيفة، شبه منفّرة». وسرعان ما تسلمنا جولات القراءة المجهدة، والمستمرة في الزمن، إلى أحاسيس ملتبسة، بعيدة عن دوائر السحر، ومن ثم فإن تلك الأعمال البالغة العمق والمتقنة الصيغة قد لا تعجبنا.

الروائية لعبد الله العروي، من «الغربة واليتيم

في نقاش جمعني قبل سنوات بأحد الروائيين العرب عن الأعمال الروائية لعبد الله العروي، من «الغربة واليتيم» إلى «غيلة» مروراً بـ«الفريق» و«أوراق» ونصوص أخرى، قال إن أعماله تتضمن نزعة عقلانية ظاهرة، وجرعة من التجريد المربك، وهندسة بناء صارمة، كل هذا يجعلها روايات جيدة، لكنها لا تعجبه، لا يتحمل المضي في قراءتها حتى النهاية. لم يفاجئني الرأي، فثمة عدد كبير من الروائيين ومن النصوص الروائية التي لا تعجب من ينتسبون إلى حقل الكتابة الروائية، وبالأحرى القراء العاديون، لكنها تصنف تحفاً روائية. في هذه النقطة تحديداً أجدني دوماً حائراً في تفسير منبع الخلل المولد للثنائية المتضمنة لتعارض ملحوظ، القيمة الثابتة والفشل في إغواء القارئ والاستحواذ عليه، ويمكن أن تكون رواية «المسخ» لكافكا نموذجاً على هذا التعارض المحيرّ، نص لم أستطع لسنوات تقبله مقروناً بكل تلك الأوصاف المبجلة من قبل مؤرخي الرواية، قبل أن تنعقد في لحظة ما صداقة وثيقة معه، جعلته مرجعاً دائماً في تقييمي للروايات المختصرة للكون بتكثيف خيالي باهر.

والحق أنه بإعمال النظر في هذا التأرجح بين الفتنة والصداقة، في تداول الأعمال الإبداعية، يمكن أن نتمثل الظاهرة بصرف النظر عن وجود خلل ما، وذلك من منطلق التمييز بين مبدأ اللذة ومبدأ القيمة، بين المتعة الحرة المؤقتة وشرط الإضافة الأصيلة، ففي منظومة تاريخ الأدب والفنون وُضع «الانطباع» في مقام ثانوي، قياساً إلى التحليل، الذي يكشف ما لا يعلن، وما يستعصي التقاطه بيسر من جوهر صامد أمام عتي الزمن، وما نسعى لإدراكه بتأهيل العين والذهن.

هل الصمود مناقض للذة؟ أعتقد ذلك، لأن من قواعد اللذة الانطفاء، والانتقال إلى لذات موعودة أخرى، بينما القيمة مقرونة بمكابدة المعنى. يحلو لي هنا أن أستحضر سعي تاريخ الفن إلى إنصاف القيمة، بعد لحظة البدايات المرزئة التي عاشها رموز عديدون، لم يكن لهم حظ، «رونوار» أو «بيكاسو» للنهل من فتن العيش، أستحضر «رابرانت» و«فان غوخ» و«سيزان» ممن سعت أسواق الفن بعد وفاتهم بعقود إلى ترجمة قيمتهم في أرقام فلكية، في الآن ذاته الذي قد تجد فيه أعمالاً لهم غير قابلة للتداول الجماهيري بوصفها صوراً خالبة.

في كتاب «الستارة» يتحدث ميلان كونديرا عن رواية فيلدينغ «توم جونس» الممتدة في 18جزءاً، واستعمل مفردات هجائية لـ«استبدادية القصة»، التي تستحوذ على الأذهان، وتسحر، وتسرع إيقاع المتابعة للوصول إلى الأسطر الأخيرة، بينما تشكل الحرية جوهر النثر الروائي، المناقض لمبدأ اللذة، حيث اختراق قواعد القصة باستطرادات مشرعة على الآراء والتأملات ينغص لعبة «حكي ما جرى للشخصيات». وفي هذا السياق يمكن استيعاب أعداد كثيرة من الدراسات النقدية التي جعلت من مهامها نقض علامات أدبية وفنية من سيرفانتس إلى بيكاسو، ومن نجيب محفوظ إلى فلليني. تحاليل تتأرجح، في الغالب الأعم، بين نقض قاعدة اللذة وتقويض جوهر القيمة.

وفي كتاب جون بورغر عن بيكاسو، عبر أزيد من ثلاثمائة صفحة، يسعى الناقد الماركسي البريطاني إلى إعادة تركيب أسطورة الفنان العالمي، انطلاقاً من سياقات تكوين شخصيته ومعالم فنه، وسياقات عبوره درجات التأثير، كانت القيمة هي شاغله، حيث عدّ، في أهم مفصل بالكتاب، أن بيكاسو انتهى بما هو «قضية وثورة ومعلم مع انتهاء الحرب العالمية الثانية»، ولم تعُدْ ثمة قيمة جديدة في منتجه، إلا ما اصطنعه نقاد الفن، والمستثمرون في أعماله، ممن كان الإعجاب الموروث والمؤبد حافزهم لإعادة إنتاج الأسطورة.