من جبل أم الدرج في محافظة العُلا، خرجت مجموعة كبيرة من النقوش الكتابية واللُّقى الأثرية شكّلت رافداً من المعلومات الاستثنائية لاستكشاف الحياة الاجتماعية والدينية في شمال غربي الجزيرة العربية، في زمن مملكة لحيان التي شكّلت امتداداً لمملكة دادان، من القرن السادس حتى نهاية القرن الثاني قبل الميلاد. حوت هذه اللُّقى عدداً هائلاً من التماثيل الآدمية الصغيرة، وبدت هذه التماثيل النذرية صورة مصغّرة عن التماثيل الكبيرة التي اكتُشفت في مواقع عدة من العُلا منذ مطلع القرن الماضي إلى اليوم، وباتت تُعرف بالتماثيل اللحيانية.
يقع جبل أم الدرج على الحافة الجنوبية الغربية من وادي ساق في شمال العلا، في الجهة المقابلة لموقع الخريبة الذي شرع البحاثة في استكشافه منذ زمن بعيد. بدأت أعمال التنقيب في أم الدرج منذ بضعة عقود فحسب، وكان أول من أشار إليه كما يبدو الباحث عبد الله آدم نصيف في كتابه المرجعي حول تاريخ العلا وآثارها ونظام الري المتبع فيها. صدر هذا الكتاب في 1988، وضمّ صوراً لعدد من النقوش الكتابية التي عُثر عليها في أم الدرج، وتبعته دراسة أنجزها نصيف بالاشتراك مع زميله حميد المزروع، نُشرت في مجلة «العصور» العلمية في 1992. وتناولت تسعة تماثيل تعود إلى هذا الموقع، منها ثلاثة تماثيل جزئية صغيرة الحجم نُحتت من الحجر الرملي. رجّح الباحثان وجود معبد أثري أقيم فوق هذا الجبل، كُرّس لمعبود احتلّ مكانة عالية لدى اللحيانيين، واسمه كما يرد بالأحرف اللحيانية «ذ غ بـت»، ويعادله بالعربية «ذي غابة»، كما قيل منذ نهاية القرن التاسع عشر.
خرج جبل أم الدرج من الظلمة إلى النور في هذه الحقبة، وفي 2001، شرعت «الهيئة العامة للسياحة والتنظيم الوطني» في إجراء حملة تنقيب شاملة في الموقع، تبعتها حملة ثانية بعد خمس سنوات. حدّدت هاتان الحملتان أسس الموقع ومعالمه، وكشفتا عن مجموعة كبيرة من اللُّقى الأثرية، منها الكتابات المنقوشة على الألواح الحجرية، والتماثيل النذريّة والكسر الفخارية، وبقايا مذابح ومجامر. تعود تسمية هذا الجبل إلى سلالم صخرية عمل اللحيانيون على نحتها من سفح الجيل وصولاً إلى رأسه، وذلك لتسهيل صعودهم إلى القمة التي يصعب تسلّقها. تعرض بعض أجزاء هذا الدرج للانهيار نتيجة العوامل الطبيعية المتعددة، وبات الوصول إلى قمة الموقع في غاية الصعوبة، مما ساعد على حفظ ما تبقّى من معالمه.
حوى هذا الموقع خزّانين كبيرين منحوتين في عمق الأرض عند أعلى القمة، ومعبداً بقيت أسسه صامدة، يُماثل من حيث الأهمية المعبد اللحياني القائم في منطقة الخريبة، على مسافة قريبة من المقبرة التي تُعرف بـ«مقبرة الأسود». بقي من معبد الخريبة حوض دائري نُحت في الصخر، استُخدم للتطهير. وبقي من معبد أم الدرج غرفته الأساسية، وهي غرفة مستطيلة، تحدّها أربعة جدران، بقي منها ثلاثة، الشمالي والجنوبي والغربي. وتُظهر الشواهد الأثرية بشكل مؤكّد أن هذا المعبد كُرس للمعبود اللحياني الكبير «ذ غ بـت»، أي «ذي غابة»، وهي التسمية التي اعتُمدت منذ نهاية القرن التاسع عشر، وأول من اعتمدها على الأرجح المستشرق النمساوي ديفيد هاينرش مولَر في 1889.
اتبع الكاهنان الفرنسيان أنطونان جوسين ورفائيل سافينياك هذه القراءة، ورأيا أن الاسم مكون من حرف الذال واسم غابة، وهذه الغابة هي المنطقة التي تقع شمال المدينة المنورة. في المقابل، شكّكت العالمة الألمانية روث شتيل بهذه القراءة في 1971، نظراً إلى وقوع هذه الغابة خارج الأراضي اللحيانية. وظهرت بعد سنوات قراءة مستحدثة تحوّل معها «ذي غابة» إلى «ذي غيبة». كما أشار الباحث حسين أبو الحسن، في جبل أم الدرج، يَرد اسم هذا المعبود «بإضافة حرف الياء بعد حرف الغين»، «ذ غ ي بـت»، وتوحي هذه الإضافة بأن الاسم هو «ذي غيبة»، أي «الذي يظهر ويغيب»، «وهذا ينطبق على القمر الذي ينشر نوره في الليل، ويضعف ذلك النور أمام ضوء الشمس في النهار، ويظهر في منتصف الشهر بدراً، ويغيب في أوّله وآخره».
من جبل أم الدرج، ومن بين أطلال معبد «ذي غيبة»، خرجت مجموعة هائلة من التماثيل النذرية الصغيرة التي لا يتجاوز طولها الخمسة عشر سنتيمتراً، عُرض منها أكثر من ثلاثين قطعة في معرض أُقيم في «معهد العالم العربي» بباريس في خريف 2019، وحمل عنوان «العلا واحة العجائب في الجزيرة العربية». واللافت أن بعض هذه التماثيل حمل كتابات لحيانية ذُكر فيها اسم «ذي غيبة»، منها تمثال بقي النصف الأعلى منه، نُقشت على صدره كتابة تقول: «زيد قرّب لذي غيبة»، بمعنى قدّم قرباناً، وتمثال آخر بقي منه صدره دون رأسه، عليه كتابة تقول «نبها كاهن ذي غيبة».
تتبع هذه التماثيل النذرية الصغيرة نسقاً واحداً جامعاً، هو نفسه النسق الذي ميّز الأنصاب اللحيانية الكبيرة التي تجاوز ارتفاعها المترين. وهذه الأنصاب منحوتة من الحجر الرملي، وتمثّل رجالاً في هيئة واقفة ثابتة. يظهر كلّ من هؤلاء الرجال منتصباً في وضعية المواجهة، ملتصق الساقين، وتتدلّى ذراعاه على جانبي صدره، وتبدو يداه مقبوضتين. اللباس بسيط، ويتمثّل بمئزر قصير ينسدل من أسفل السرة إلى حدود الركبتين، يعلوه حزام مزدوج يتدلّى طرفه من الأمام. سمات الجسد واحدة، وتعتمد على إبراز المفاصل والصدر والبطن والذراعين والساقين بأسلوب مرهف ودقيق. سمات الوجه واحدة كذلك، وتعتمد على قالب موّحد. على تمثال جزئي فُقد رأسه وذراعاه وساقاه، ولم يتبقّ منه سوى صدره، تظهر كتابة جليّة من بضعة حروف، ونصّها: «ملك لحيان». ويوحي هذا النص الاستثنائي بأن هذه الأنصاب تمثّل ملوكاً وحكاماً لحيانيين.
تشكّل تماثيل أم الدرج النذرية امتداداً لهذا التقليد الفني المحلّي، غير أنها تبدو أقلّ إتقاناً، وأغلبها يخلو من الرهافة في الصناعة والصقل. يتجلّى المثال اللحياني الموحّد الجامع في هذا التماثيل الصغيرة، مما يشير إلى أنّ هذا المثال مثّل الطبقة الملكية، كما مثّل طبقات متعدّدة من الرعايا المتعبّدين. وفي الخلاصة، يتبيّن أن هذه التماثيل النذرية قُدّمت طلباً للبركة والحظوة، وشكّلت حضوراً دائماً لأصحابها في معبد ذي غيبة.