جورج يرق يحاول غسل ذاكرته في «موت متواصل»

الكاتب اللبناني يسرد عذابات شقيقته الراحلة ونُبل الأمومة

جورج يرق يحاول غسل ذاكرته في «موت متواصل»
TT

جورج يرق يحاول غسل ذاكرته في «موت متواصل»

جورج يرق يحاول غسل ذاكرته في «موت متواصل»

يحتفي الكاتب اللبناني جورج يرق، في روايته «موت متواصل» (مختارات)، بالقدرة المزدوجة للأم والأخت على تحمل الألم الممض. وهو بهذه الاستعادة يكرّمهما ويردّ الاعتبار لمشيئتهما عبور الجلجلة وتقبُّل القدر. أهو تقبُّل (على الطريقة المسيحية بالتسليم للمشيئة) أم إذعان قسري لتقلّص الخيارات نتيجة الشعور المريع بالعجز أمام المرض واستحالة التحرّر من مآلاته الموحشة؟ من خلال جورجيت، شقيقة الكاتب، تنكشف ثلاث حيوات مترابطة، وإن تحلّى كلّ منها بمصيره: الأخت البطلة، والأم التي لا تقلّ مرتبة في البطولة؛ فالأخ جورج، صاحب السرد، في علاقته بالحياة والموت والبحر والحرب والموسيقى.

تستمدّ الرواية مكانتها من واقعيتها، والإشارة بالقول (في مقدّمة الكتاب) والفعل (متن السرد) إلى أنّ الأحداث ليست من نسج الخيال وتشابه شخصياتها وأمكنتها، غير مجرّد من القصد. يسحب المؤلف نفسه إلى الخلفية، ويبقى، في آن، بالوسط من خلال تأثيره في الأخت الراحلة، ومدّها بالغذاء المعرفي وتشكيل هواها الأدبي؛ ومؤازرتها في الشدائد، ما يجعله (بخلاف الأخ الآخر إيلي الغائب بالتأثير والدور)، حاضراً ليس بصفته شاهداً على مأساة، بل بتخفيف فاجعة الموت.

يتبرّع يرق، صاحب روايتَي «ليل» (2013) و«حارس الموتى» (2015)، بعائدات عمله الثالث لمرضى الفشل الكلوي والسرطان. وهو بصدور الرواية بعد ستّ سنوات على رحيل الأخت، يبدو وكأنه يقيم عزاءً أدبياً للأخت الراحلة. يكتمل البوح فيستريح الثلاثي، حيث هو: الأخت في الأبدية، والأخ في تنصّله المستمر من وطأة الخيبة (في سعيه إلى أيام تُعاش)، والأم المتّكئة على الصلاة واستعادة سير القدّيسين فيما الوقت يمرّ بين مزاولة عمل منزليّ وانهماك في التسبيح والترتيل.

ما يزيد على نصف قرن من المعاناة، في رواية تتجاوز المنحى العائلي إلى ما يشبه استعادة «توثيقية» لمرحلة اندلاع الحرب، مازجاً بذلك الفاجعة الخاصة والعامة. فما يبدو سرداً حميمياً، يغدو مروراً على متغيّرات الزمن وعوامل تبدُّل أحوال الإنسان. جورج يرق المُعذّب بمخلّفات التقاتل الأهلي (جسّده في «حارس الموتى»)، هو هنا أيضاً شريد معارك. من خلاله، تحضر الجنائزية البيروتية في زمن المجازر، وضريبة انسلاخ الشباب عن الأمهات. ورغم سيطرة آلام الأخت، يدرك كيفية فتح قناة لضخّ آلامه. كأنه يقول إنّ الحرب والمرض لعنة واحدة.

تبقى الأخت جورجيت هي المحرِّضة على الكتابة، وإن أهدى يرق روايته إلى أمه، التي كانت إصابتها المبكرة بالسكّري، تمهيداً لقسوة قدرها. إنها رحلة تحمُّل تراجيدي لما يصعب على العقل الإنساني استيعابه، يريدها الكاتب احتفاء بالصبر وتشبّثاً بالأمل، وإن هزَّه تهالك الأخت وصولاً إلى انطفائها. ظلّ الأمل رفيق الآهات حتى آخر نَفَس.

نشعر بأحزان النهاية، مُستمدّة من عنوان يشي بجنازة مؤجّلة. الموت والحياة يتصارعان على الصفحات، بينما يسرد الكاتب مشهدية تغيّر الشوارع وتحوّل الاهتمام من البرامج الإذاعية في الثمانينات إلى فضاء الإنترنت الذي أتاح اتصالاً بالصوت والصورة مع الشقيقتين تريز ووداد المهاجرتَيْن بعد زواجهما إلى أستراليا. مثل كباش الأمل والألم، يتراءى تمرّد النور على الظلمة الزاحفة، ذلك مُستقى من ثوابت إيمانية لها حيّز عريض داخل السرد، فلا يبخل يرق بوصف تفاصيل الجدران المغطّاة بصور القدّيسين ولا التوقف عند سلوكيات تتأتّى من توغّل المعتقدات في البنية الاجتماعية.

هو هنا، أيضاً، يحاول غسل ذاكرته، واختياره السرد بصوت الأخت، هو محاولة لبلوغ مرتبة الغسل. ولعلّه تعويض عن شعور بالذنب إزاء تأفّف صَدَر عنه وهو يُستنزَف في إتمام معاملات طبابتها. على لسانها، يُخرج اعتمال تلك اللحظة في داخله وتحوّلها إلى قيح. ورغم أنه ألهمَ الراحلة رؤية أعمق للحياة، لم تفارقه ندبة إحساسها بوخز التذمّر، ولو اقتصر على ردّ فعل متسرّع تجاه يوم عصيب وإجراءات روتينية تستلزم الخروج على الطور.

يبدو المؤلف في عمله الجديد وكأنه يقيم عزاءً أدبياً للأخت بعد 6 سنوات من رحيلها

تُصاب جورجيت بالعمى، وبعد 13 عاماً تُشفى بجراحة يسدّد الدير مصاريفها. إلا أنّ انقشاع النظر استتبع ما لم يقوَ جسدها على صدّه. يسرد يرق حكاية التحمّل الشجاع، متوقفاً عند القدرة البشرية المذهلة على التكيّف. وبينما الأخت تنتزع الحياة من براثن المرض، وتُسائل الوجود في عدالة السقم والعافية، يتوهّج حضور الأم مثل قوة سحرية تمتهن البلسمة. إهداء الرواية يليق بنُبلها. فلم يكن للأم دور «تمريضي» فحسب، بل هي «الملاك الحارس» للابنة، وضميرها. وبإعلائها من أداء الوظيفة الحسّية حيال المريضة (مساعدتها في خطاها، اصطحابها إلى المستشفى...)، إلى تولّيها مهمّة دفاعية ضد فكرة موتها، يستكين يرق إلى كونه أدّى التزاماً أخلاقياً تجاه الاعتراف الصريح بتضحياتها الكبرى.

الرواية ثلاثية الضلع، تلتحم شخصياتها المُحرِّكة، الأخت، الأم والأخ، بصلة وثيقة. عبر الإبحار في آلام جورجيت، تعصف آلام موازية على طول الطريق، يشكّل اختزالَها دمعٌ سخيّ تُمطره الأم في أي موقف، وحرقة أخ اعتاد مشهدية الجثث على طرقات بيروت أيام الحرب الأهلية، وظلّ عصياً على احتواء رحيل الأخت باستيلاء المرض.

رواية جورج يرق محاولة لفهم المتعذِّر استيعابه مهما راكم المرء عُمراً.


مقالات ذات صلة

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت
ثقافة وفنون سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

«حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

بدأت الحكاية في أبريل (نيسان) 2020. كان زمن الحَجْر وغلبة العزلة، حين لمحت الصحافية اللبنانية جودي الأسمر تجّاراً في منطقتها يدّعون الالتزام بالإغلاق العام

فاطمة عبد الله (بيروت)
الولايات المتحدة​ وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون على خشبة المسرح في قمة المرأة في العالم بحي مانهاتن في نيويورك 6 أبريل 2017 (رويترز)

هيلاري كلينتون تنتقد نتنياهو وطلاب جامعة كولومبيا في كتاب جديد

في كتابها الجديد، انتقدت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لتَحَمُّله «صفر مسؤولية» عن هجوم 7 أكتوبر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
كتب مايا ويند

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين

ندى حطيط

سعد الصويان... المدافع العتيد عن الثقافة الشعبية

سعد الصويان... المدافع العتيد عن الثقافة الشعبية
TT

سعد الصويان... المدافع العتيد عن الثقافة الشعبية

سعد الصويان... المدافع العتيد عن الثقافة الشعبية

لا غرو أن تُكرم وزارة الثقافة السعودية من خلال برنامج الجوائز الثقافية الوطنية عالم الإنثروبولوجيا السعودي الدكتور سعد الصويان نظراً لما قدمه خدمة للثقافة والتاريخ والفكر. وقد اشتهر الدكتور سعد بكتابه «ملحمة التطور البشري» الذي فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في 2013، إلا أن كتابه الأبرز في نظري ونظر غيري هو «الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور، قراءة إنثروبولوجية». ورغم أن رسالته للدكتوراه «الشعر النبطي» التي نشرتها جامعة كاليفورنيا لا تزال إلى اليوم مرجعاً مهماً للباحثين حول العالم، فإن كتاب «الصحراء العربية» هو جوهرة العقد في كل كتابات الصويان، وقد ظهر للقراء المشغولين بهذه القضايا وكأنه من دراسات المستشرقين، في دقته وعمق طرحه وحجم القضايا التي يناقشها وراهنيتها، وآرائه التي قد تبدو صادمة للبعض، إلا أنه ليس من المستشرقين بل عربي سعودي من أهل الجزيرة العربية، وهذا ما أضاف إلى قيمة الدراسة على أساس أن أهل مكة أدرى بشعابها.

الشعر ضروري في تصور حياة العربي وفهم تكوينه النفسي، ولذلك وجدنا د. الصويان يناقش ما يراه خللاً منهجياً في دراسة الشعر الجاهلي، ألا وهو أن الدراسات المختصة بالأدب الجاهلي وقعت في أحد محذورين، إما أن تنزلق في تطبيق معايير النقد المدرسية التي نشأت في أحضان الآداب المكتوبة، مثل نظرية الانتحال، أو تبسيط قضايا الشعر الشفهي وتطبيقها بشكل خاطئ، بينما يرى هو أن المنهج السليم لفهم قضايا الأدب الجاهلي هو تسليط الضوء عليه من منظور الأبحاث الميدانية المعاصرة عن حياة الصحراء الرعوية، من جهة الدراسات الإثنوغرافية الحديثة عن المجتمعات البدائية. وقد مايز بين النص الشفهي والنص الكتابي وتداخلهما، وناقش نظريات الأدب الشفهي وما يدور في فلك الانتحال، ومدى صحة نسبة الشعر الجاهلي، ودرس طبيعة العلاقة بين شعرنا الشعبي اليوم والشعر الجاهلي بزواياها الأدبية والتاريخية.

فيما يتعلق بقضية الانتحال في الشعر الجاهلي، يوافق الصويان على وجود التغير لكنه يصر على صحة الأصل وندرة الانتحال، أي أنه يثبت وجود الشعراء الجاهليين وينسب لهم أشعارهم مع الإقرار بوجود بعض التعديل والتغير والتقديم والتأخير، مخالفاً بذلك نظرية المستشرق مرجليوث، التي تابعه عليها الدكتور طه حسين في كتابه عن الشعر الجاهلي. الشعر قضية كبرى فهو الذي تحدث وصوّر لنا حياة العرب وأنماط عيشهم وتاريخهم وقصصهم، وهكذا لم يكن كتاب الدكتور طه حسين مجرد كتاب، ولذلك رد عليه من رد، ومن ضمنهم الصويان، لأن الأمر يرتبط بصحة التصور، كما أنه يتعلق بقضية الهوية.

وفي الثمانينات، وبصفة أدق منذ 1983 إلى 1990 قام الصويان برحلة مولتها جامعة الملك سعود قضاها مع بادية شمال المملكة. في تصوري أنه فعل هذا انطلاقاً من إدراكه لمشكلة ثقافتنا وتاريخها السابق، أنها ثقافة شفاهية، كل ما لا يمكن تحويله من الشفاهة إلى الكتابة ستطويه يد النسيان، ولذلك سجل خلال السبع سنوات مئات من التسجيلات المرئية مع أهل المنطقة، خصوصاً كبار السن من الشعراء والحفّاظ والرواة المعروفين. قصص وأشعار شعبية تدون تاريخ الأرض والناس والظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة وتصف حياتهم ببساطة. هذه التسجيلات التي تجاوزت المائتين صارت مادة كتابه «أيام العرب الأواخر». وقد خطرت فكرة هذا الكتاب ببال الصويان في أثناء دراسته بالولايات المتحدة الأميركية، عندما رأى تعاطي الأكاديميين المختصين مع ملحمتي الأوديسة والإلياذة وما يُعرف أكاديمياً بمعضلة هوميروس، تلك الملاحم التي تقدر بعشرات الآلاف من الأبيات التي يبدو أنها تغيرت كثيراً وجرى تعديلها عدة مرات عبر القرون، لأسباب اجتماعية وسياسية، وبسبب قضية الانتحال التي يعاني منها الشعر في كل ثقافة.

لقد فُتن سعد الصويان بحياة الصحراء وأهلها، خصوصاً فيما يتعلق بقدرة أهل البادية على البقاء على قيد الحياة في ظروف غير مواتية، من حرارة الشمس إلى حرارة السيف أثناء القتال. ولذا يرفض تسمية أهل البادية بالأميين، وإن كانوا في الماضي لا يُحسنون القراءة والكتابة، لأنه ليس بالأمي من يعرف كل نجمة في السماء وكل نبتة في الصحراء، ويعرف أنواع الرياح وحركتها ومواسمها، كما يعرف كل تضاريس الأرض ويسمّي كل بقعة فيها باسم يصبح متعارفاً عليه.

وعن علاقة أهل الجزيرة العربية ببعضهم البعض، يتحدث الصويان عن صلة تكاملية بين حاضرة الجزيرة العربية وباديتها، مع أنه لا يرى فرقاً كبيراً بينهما. فلو كانوا كلهم فلاحين لما كفتهم البيئة الطبيعية المحيطة، ولو كانوا رعاة كلهم لما كفتهم، فقامت العلاقة على تقاسم للموارد بحيث لا يستغني أحد الطرفين عن الآخر. و«سلوم العرب» هي نوع من الأرستقراطية في نظر الصويان، لأنها تعبر عن حرية رجل الصحراء واستقلاله، فهو من يحاسب نفسه انطلاقاً من حرصه على سمعته وشرفه ومكانته الاجتماعية.

يمكن أن نقول إننا أمام مدافع عتيد عن الثقافة الشعبية، وهو بالفعل ثائر على الأوساط الثقافية التي ترفض اعتماد منتجات الثقافة الشعبية كمعرفة جديرة بالتقدير. ولذلك فالعامية بالنسبة للصويان لغة مقبولة كالفصحى ولا يمكن التخلي عما تقدمه من معارف. من هنا أصبح للصويان خصمان، المتزمتون دينياً ممن يرون تعارضاً بين الدين كما يرونه وأطروحاته، والمتزمتون لغوياً، ممن يرفضون استخدام أي لغة سوى الفصحى، وممن يرون في اللغة الشعبية تهديداً للفصحى، رغم أنه تهديد وهمي.