كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين

رحل عن عالم لم يعد يحتمل

كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين
TT

كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين

كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين

في الحادي عشر من يوليو (تموز) 2023، توفي الروائي الكبير ميلان كونديرا عن سن تناهز 94 عاماً. وأخال أنه رحل غير آسف عن هذا العالم الغارق في الأزمات والحروب، وفي فضوى عارمة تهدد الحضارة الغربية، وأسسها ومبادئها وأنوراها التي عكستها جل رواياته، ومقالاته النقدية والفكرية التي تعكس ثقافته الفلسفية العميقة.

خلال السنوات الأخيرة كف ميلان كونديرا بعد أن شَغَلَ أحباء الرواية في جميع أنحاء العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، عن الكلام وعن الكتابة. لذلك لم نعد نسمع عنه شيئاً تقريباً. ولعلّ الشيخوخة فَعَلتْ فعْلها، أو لعله فضّل أن يخلد إلى الصمت مثلما يفعل الحكماء عند اقتراب أجلهم.

وعلى أي حال، يمكن أن نقول إن ميلان كونديرا لم يصدر أي رواية مُهمّة بعد سقوط جدار برلين وانهيار الكتلة الاشتراكية بزعامة ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي. وقد يعود ذلك إلى أنه ركز كل مواضيع جلّ رواياته على فضح وإدانة الحقبة الشيوعية، ورموزها. فلما انتفت تلك الحقبة، لم يعد يملك ما يثير الاهتمام. وحتى الروايات التي كتبها بلغة موليير لم تتخلص من تبعات الحقبة الستالينية. كما أن كبار النقاد الفرنسيين لم يعيروها اهتماماً كبيراً. بل إن الكاتب بيار أسولين كتب يقول بأن هذه الروايات تقدم الدليل على أن كونديرا أصبح «يكتب ويفكر سيّئًا».

لكن علينا أن نقرّ بأن كونديرا أنجز خلال العقود الثلاثة الأخيرة دراسات رائعة عن فن الرواية أصدرها في ثلاث كتب هي: «فن الرواية»، و«الوصايا المغدورة»، و«الستار». وهذه الكتب النظرية التي خصصها كونديرا لإبراز خفايا فن الرواية الأوروبية منذ الفرنسي رابليه والأسباني سارفانتس وحتى بروست وجميس جويس وموزيل وغومبروفيتش وفرانز كافكا، وهرمان بروخ، لم تؤكد فقط معرفته العميقة بأعمال هؤلاء، بل أظهرت اطلاعه الواسع على الموسيقى، وعلى الفلسفة، وعلى التاريخ الأوروبي في مراحله المختلفة. وفي هذه الكتب النظرية، حدد ميلان كونديرا مفهومه للرواية قائلاً: «الرواية تعلمنا أن نفهم حقائق الآخرين، والطبيعة المحدودة لحقيقتنا. وهي تعلمنا أن نفهم العالم كما لو أنه سؤال مُتعدد الأوجه. لهذا السبب كانت الرواية ولا تزال، معادية للآيديولوجيا، إذ إن الآيديولوجيا تقدم إلينا العالم من خلال وجهة نظر حقيقة واحدة. وهي تمثله لنا كما لو أنه تجسيد لهذه الحقيقة».

ويواصل كونديرا حديثه عن الرواية قائلاً: «إذا ما رفضت الرواية التقيّد بالآيديولوجيا السياسية في عصرنا، والمساهمة في التبسيطات الآيديولوجية التي باتت مبتذلة وثقيلة، فإن هذا لا يعني موقفاً حيادياً من جانبها، وإنما هو تحد إذ إن الرواية تُسْقط نظام القيم المتعارف عليه، والأسس الجاهزة، وتقوّضُ الأفكار السائدة».

وعلينا أن نشير إلى أن نجم ميلان كونديرا في مجال الرواية بدأ يسطع على المستوى العالمي بعد أن أصدر ثلاث روايات يدين فيها حياة أبناء وطنه في ظل الاستبداد والطغيان الشيوعي. وهذه الروايات هي «المزحة»، و«غراميات مضحكة»، و«الحياة في مكان آخر» التي أحرزت على جائزة «ميديسيس» الفرنسية المرموقة وذلك عام 1973. وعن هذه الرواية كتب يقول: «لقد اخترت العنوان من بيت لرامبو. (والحياة في مكان آخر) كان طلبة ثورة ربيع 68 قد كتبوها على حيطان باريس كواحد من الشعارات التي رفعوها في تلك الفترة. و(الحياة في مكان آخر) هي وهم من الأوهام الأبدية للشبيبة، ولأولئك الذين لم يتمكنوا من تجاوز الحدود الفاصلة بين سن الشباب وسن الكهولة. وهي تعبير عن الرغبة الجامحة في الدخول إلى مملكة الحياة الحقيقية. ومثل هذه الرغبة تتطلب أفعالاً من قبل الشبان الثوريين، ومن قبل الشعراء الشبان». ويواصل كونديرا حديثه عن روايته المذكورة قائلاً: «قبل أن أكتب هذه الرواية، قرأت الكثير من سير الشعراء. وجميعها كانت تكشف بشكل جلي عن غياب الأب القوي. لذا يمكن القول إن الشاعر يخرج من بيوت النساء. وهناك أمهات يُفرطن في حماية شاعرهن الشاب مثل والدة ألكسندر بلوك، أو ريلكه، أو أوسكار وايلد، أو والدة الشاعر التشيكي الثوري فولكر الذي كانت سيرته عوناً مهماً لي أثناء كتابة روايتي. وهناك أمهات باردات لكنهن ليس أقل حرصاً على حماية أبنائهن الشعراء من الأمهات اللاتي ذكرت. عندئذ ابتكرت هذا التعريف للشاعر: إنه شاب تقوده أمه. وهو يعرض نفسه على العالم الذي لا يعرف كيف يدخله».

وفي منفاه الفرنسي أصدر ميلان كونديرا روايتين حققتا له شهرة عالمية واسعة وهما: «كتاب الضحك والنسيان»، و«الكائن الذي لا تحتمل خفته». وتقوم أغلب الروايات المذكورة على كلمات أساسية مثل الجهل، والنسيان، والضحك، والخلود، والدوار... كما تقوم على الجمع بين الأحداث والأفكار والتأملات الميتافيزيقية والفلسفية العميقة. ويعني ذلك أن كونديرا تمرد على الأشكال المتعارف عليها، والسائدة في الرواية الأوروبية ليبتكر شكلاً جديداً مستوحى من روائيين سبقوه أمثال ديدرو، وفلوبير، وكافكا، وموزيل، وهرمان بروخ، وغومبروفيتش.

وفي الروايات التي كتبها في منفاه الفرنسي، يحضر المنفى بكل تجلياته ومعانيه الفلسفية العميقة. ففي «كائن لا تحتمل خفته»، هو يكتب: «الذي يعيش خارج بلده، يمشي في فضاء فارغ فوق الأرض تحت شبكة الحماية التي تمدها إلى كل كائن بشري، البلاد التي هي بلاده، حيث عائلته، وزملاؤه، وأصدقاؤه، وحيث يمكن أن يُفْهَمَ من دون أيّ مشقة في لغاته التي يعرفها منذ طفولته». وعندما يصل إلى البلد المُضيف، يشعر المهاجر بحنين جارف إلى وطنه لأنه خرج من حضن اللغة الأم ليجد نفسه في عالم غريب شبيه بالفراغ، بل بالعدم. وهذا الحنين حسب كونديرا «لا يوقظ ذكريات، بل هو يكتفي بنفسه، وبالمشاعر والأحاسيس التي يثيرها، غارقاً في آلامه وأوجاعه». وفي روايات المنفى، تجسد الشخصيات التي ابتكرها كونديرا خصوصيّات أولئك الذين فروا من الأنظمة الشمولية، وليس أوضاع المهاجرين الذين أجبرتهم ظروف اقتصادية أو تاريخية على ترك بلدانهم للعيش في بلدان آمن وغنية.

وفي خريف عام 2008، نشرت جريدة تشيكية واسعة الانتشار، مقالاً أشارت فيه إلا أنه تم العثور على وثيقة في أرشيف البوليس السياسي في الفترة الشيوعية تثبت أن ميلان كان مُخبراً سرياً. ففي عام 1950، وشى بصديق له كان قد فر من الجيش التشيكوسلوفاكي ليهاجر إلى الغرب. وقد حكم على ذلك الجندي بـ22 سنة سجناً أمضى منها 14 في ظروف شاقة للغاية. غير أن ميلان كونديرا نفى التهمة المذكورة نفياً قاطعاً متلقياً مساندة مطلقة من العديد من الشخصيات السياسية والأدبية من أمثال الرئيس التشيكي فاتيسلاف هافيل، وغابريال غارسيا ماركيز، وكارلوس فيونتاس، وخوان غويتوسولو، وأورهان باموق، وكوتزي، ونادين غوردماير، وسلمان رشدي وآخرين.

ويمكن القول إن كونديرا المتأثر بديدرو إلى درجة أنه يعد هذا الأخير معلماً له، لم يكتف برواية قصص حب رائعة، أو برسم صورة مرعبة عن الأنظمة الشيوعية الشمولية، بل هو تعدى كل ذلك ليساهم بشكل كبير في إحداث «ثورة» في مجال الكتابة الروائية. ورواياته ليست فقط قصصاً، وإنما هي أيضاً تحليل نقدي عميق للتاريخ والمجتمعات، وللنفس البشرية. لذلك وصفت بـ«الروايات الفكرية» تماماً مثلما هو الحال بالنسبة لروايات توماس مان، وهرمان بروخ، وروبرت موزيل. ويقول الكاتب الأمريكي ربشارد باور إنه بعد أن قرأ «كتاب الضحك والنسيان، و«كائن لا تحتمل خفته»، اتخذت الرواية لديه «وجهاً جديداً ومنعرجاً غير مسبوق». ويعود ذلك بحسب رأيه إلى أن كونديرا يحرص في كل أعماله على أن تكون القصص التي يرويها مشفوعة بتأملات فكرية وفلسفية عميقة. وأما الكاتب جوليان ريوس فيرى أن كونديرا يتحاور من خلال رواياته ودراساته النقدية مع سابقيه من الكلاسيكيين والمحدثين على حد السواء. وهو يخرجهم من أماكنهم المعتادة، ومن مخابئهم الأكاديمية لتحديد رؤيتنا للرواية الغربية. لذلك كان كونديرا على حق في استعمال عبارة «الرواية التي تفكر».

في الروايات التي كتبها في منفاه الفرنسي، يحضر المنفى بكل تجلياته ومعانيه الفلسفية العميقة


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!