ماذا لو؟... لم نفكر في هذا السؤال!

فليتشر يمزج بين التجارب التطبيقية لعلم الأعصاب والتاريخ الأدبي

أنغوس فليتشر
أنغوس فليتشر
TT

ماذا لو؟... لم نفكر في هذا السؤال!

أنغوس فليتشر
أنغوس فليتشر

مع تصاعد المخاوف من مستقبل «الذكاء الاصطناعي»، يراهن أنغوس فليتشر - أستاذ علم السرد والقصة بجامعة أوهايو - على الأدب وقدرة الإنسان على السرد، أملاً في مستقبل أفضل للجنس البشري، ذلك أن جميع أنواع الأدب - برأيه - «تعدل المزاج» والأفكار والعواطف بطرق مختلفة ومثمرة، وتساهم في تطوير الذات وتعزيز الصحة النفسية والعقلية والبدنية، حتى الأعمال الأدبية المأساوية: مثل ماكبث، والحرف القرمزي والطاعون! فهي تطلق الخيال، وتنشط الدماغ.

اختراقات أدبية لعلم الأعصاب

يمزج فليتشر، الذي درس علم الأعصاب (بجامعة ميشيغان) والأدب (بجامعة ييل)، بين التجارب التطبيقية لعلم الأعصاب والتاريخ الأدبي وعلم النفس الحديث لاستكشاف الآثار النفسية - المعرفية والسلوكية والعلاجية - لتقنيات السرد المختلفة. واعتُمد كتابه «أعمال مدهشة: المكتشفات الخمسة والعشرون الأكثر تأثيراً في تاريخ الأدب» عام 2021، فرعاً معرفياً جديداً في كليات الطب والعلوم الإنسانية بجامعات: ييل وستانفورد وأكسفورد وكمبردج.

يقول فليتشر: «منذ آلاف السنين، قدم الكُتاب العظماء في العالم (حلولاً) للمشكلات التي لم يدركها الناس وقتئذٍ، مستخدمين قوة مبادئ علم الأعصاب التي لم يتم اكتشافها بعد». فقد ابتكر الكُتاب والأدباء اختراقات تقنية زاحمت الاختراعات العلمية وتجاوزتها. من هنا كان تركيزه على «كيفية عمل أدمغتنا» من خلال قراءة الأدب، وممارسة عملية السرد.

على سبيل المثال، فقد رصد كيف استخدم أدباء القرن التاسع عشر عنصر التشويق (وبعض المتعة في السرد التي تنشط هرمون «الدوبامين») لجذب جمهور مختلف من الباعة الجائلين وغيرهم من فقراء العصر الفيكتوري الذين يعرفون بالكاد القراءة والكتابة.

ومعروف أن «الدوبامين» مادة كيميائية أو هرمون موجود بشكل طبيعي في جسم الإنسان، يعزز الشعور بالسعادة، بالإضافة إلى كونه ناقلاً عصبياً، يرسل إشارات بين الجسم والدماغ. اللافت هنا، والذي قد يكون مجالاً لأبحاث قادمة، هو: كيف يعرف (الأديب) المقدار اللازم من «الدوبامين» الذي يحتاجه القارئ، دون زيادة أو نقصان، حتى يظل متعطشاً للاستمتاع بالأدب في كل زمان ومكان؟!

حيث لم يذهب أحد من قبل!

في أحدث كتبه «التفكير القصصي: علم جديد للإبداع السردي»، يونيو (حزيران) 2023، يشير فليتشر إلى أن البشر: «لا ينشئون القصص ويستمتعون بها فقط. القصص ليست شيئاً (خارجنا)... نحن (قصص) تسير على قدمين، وهي جزء من تجاربنا الإنسانية، مثل الدم والعظام والأعصاب». ويرى أن «الإنسان يفكر بطريقتين مختلفتين: المنطق الرياضي والسرد القصصي». طريقة المنطق تقوم على المعادلات والتفكير الترابطي، بينما طريقة القصة هي التجربة، والتكهنات السببية، التي تنبع أساساً من السؤال: ماذا لو؟

إن طاقة السرد ومغامراته تأتي من المفاجآت التي تجذب القارئ وتجعله شريكاً في العمل الأدبي، لدرجة أن يقول «لقد خمنت ذلك!». إننا بحاجة إلى السؤال: ماذا لو؟ في كل مناحي حياتنا حتى نتخيل ما يمكن أن يحدث، خارج الظروف العادية، وأن نكون قادرين على بناء عوالم جديدة باستمرار.

ويقترح فليتشر ثلاث مهارات أساسية لتحسين القدرة على السرد والتفكير القصصي: أولاً، إعطاء الأولوية للاستثناء: العثور على ما هو غير متوقع، ومفاجئ، وغريب، أو صادم وبغيض. ثانياً، تغيير المنظور: تخيل أن تكون شخصاً مختلفاً تماماً، ليس فقط بالتعاطف مع الآخر ولكن بنوع من التقمص للآخر. ثالثاً، تأجيج الصراع السردي: اختبار الأفكار والسيناريوهات بوصفها نوعاً من المعركة الملحمية التي تأخذك بجرأة... «حيث لم يذهب أحد من قبل».

اكتشاف الوجود المنسي والمكبوت

السرد القصصي - بكلمة واحدة - منهج إنساني في «التفكير» وأداة (معرفية - تمثيلية) نعطي بها شكلاً ومعنى للواقع الذي ندركه. وقد صاغ تودوروف عام 1969 مصطلح «علم السرد - السردية» في كتابه "قواعد الديكاميرون" وعرفّه بـ«علم القصة»، حيث صار السرد اليوم إحدى التيمات الأساسية في كتابة التاريخ والصحافة – الميديا والسياسة والتسويق التجاري، وغيرها، وربما لهذا السبب يجب أن يدرس الأدب مثل العلم تماماً، وهو أحد أهداف كتاب فليتشر الجديد.

الاهتمام بالسرد سيزداد باطراد بالتزامن مع انتشار العصر الرقمي و«الذكاء الاصطناعي»، بوصفه أهم خاصية للإنسان المعاصر. وكما لاحظ ميلان كونديرا فإن الفلسفة والعلوم في عصر الحداثة، تناست «الوجود الإنساني» النابض بالحياة، في الوقت الذي أعادت فيه الرواية اكتشاف هذا الوجود المنسي والمكبوت، وأتاحت تعدد الأصوات والحوار عبر مواقف حية وأشخاص من دم ولحم. وهو تقريباً ما أشار إليه كل من دولوز وغتاري في كتابهما: «ما الفلسفة؟»، خصوصاً مع أفلاطون في محاورة الجمهورية، الذي جعل الحوار مستحيلاً! وطرح أسئلة على أصدقائه كان يعرف مسبقاً إجاباتها، ما يعني أن الحقيقة سابقة على الوجود، ولا يوجد أي جديد يمكن أن يثمر عنه الحوار، على العكس من مفهوم «الحوار» في الأدب.

اليوم، صار السؤال: ماذا لو؟ الذي اقترحه فليتشر أحد التمارين الذهنية المهمة التي تجعلنا نفكر بطريقة مختلفة، وهو أن نتخيل أحداثاً لم تحدث فعلياً، ولكن يمكن تصورها منطقياً. والفكرة ببساطة تقوم على تغيير (أو حذف) حدث ما وقع فعلاً، ونتصور ما كان بالإمكان أن يحدث تبعاً لذلك.

على سبيل المثال: ماذا لو لم يظهر ماو تسي تونغ في الصين؟... ماذا لو لم يخترع الكومبيوتر؟

هذا التمرين نموذج بسيط يعيد ترتيب الأحداث وفقاً لنظرية «اللازمان» التي سبق واقترحها الفيلسوف شارل رونوفيه بوصفها إطاراً لأحداث معينة لم تحدث، والتي يطورها فليتشر بوصفها إحدى آليات تعلم فنون السرد والتفكير القصصي.


مقالات ذات صلة

بايدن ينفي معلومات انسحابه من السباق الرئاسي

أوروبا كمالا هاريس مرشحة لخوض السباق الرئاسي عن الديمقراطيين في حال قرر بايدن الانسحاب (أ.ب)

بايدن ينفي معلومات انسحابه من السباق الرئاسي

نفى البيت الأبيض، أمس (الأربعاء)، معلومات أوردتها صحيفة «نيويورك تايمز» زعمت أن الرئيس جو بايدن أبلغ حليفاً رئيسياً له أنه قد ينسحب من السباق الرئاسي.

هبة القدسي (واشنطن)
الخليج وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ونظيره الأميركي أنتوني بلينكن (الشرق الأوسط)

فيصل بن فرحان وبلينكن يبحثان مستجدات غزة والسودان

بحث وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان مع نظيره الأميركي أنتوني بلينكن التطورات في قطاع غزة والسودان.

الخليج ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لدى استقباله السيناتور الأميركي كوري بوكر والوفد المرافق له في جدة (واس)

محمد بن سلمان وبوكر يستعرضان العلاقات السعودية - الأميركية

استعرض ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع السيناتور الأميركي كوري بوكر علاقات الصداقة الثنائية وأوجه التعاون بين البلدين.

«الشرق الأوسط» (جدة)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن خلال مناظرة رئاسية مع المرشح الرئاسي الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب الخميس 27 يونيو 2024 في أتلانتا (أ.ب)

البيت الأبيض: بايدن لا يعتزم «أبداً» الانسحاب من الانتخابات الرئاسية

أكّد البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي جو بايدن لا يعتزم «أبداً» الانسحاب من الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر بل هو «ماضٍ قدماً» في حملته.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك أدوية «أوزامبيك» و«ويغوفي» تظهر داخل إحدى الصيدليات (رويترز)

​نوع نادر من العمى يرتبط بأدوية السكري لفقدان الوزن

كشفت دراسة جديدة أن الأشخاص الذين يتناولون «أوزامبيك» أو «ويغوفي» قد يكونون أكثر عرضة للإصابة بنوع نادر من العمى

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

انطلاق ملتقى الدمام المسرحي لـ«المونودراما» و«الديودراما» الأربعاء

أحد العروض المشاركة في ملتقى الدمام المسرحي لـ«المونودراما» و«الديودراما»
أحد العروض المشاركة في ملتقى الدمام المسرحي لـ«المونودراما» و«الديودراما»
TT

انطلاق ملتقى الدمام المسرحي لـ«المونودراما» و«الديودراما» الأربعاء

أحد العروض المشاركة في ملتقى الدمام المسرحي لـ«المونودراما» و«الديودراما»
أحد العروض المشاركة في ملتقى الدمام المسرحي لـ«المونودراما» و«الديودراما»

ينطلق مساء غد الأربعاء ملتقى الدمام المسرحي لـ«المونودراما» و«الديودراما» في دورته الخامسة، والذي تنظمه جمعية الثقافة والفنون بالدمام بالتعاون مع هيئة المسرح والفنون الأدائية و«مسرح كواليس» وبرنامج «ستار المسرحي».

ويقام الملتقى الذي يستمر أربعة أيام برعاية رئيس مجلس إدارة الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون عبد العزيز السماعيل.

يتضمن الملتقى مسابقة للنصوص المسرحية وورشة تدريبية عن كتابة نص «المونودراما» و«الديودراما»

يشارك في الملتقى فرق مسرحية من الرياض وجدة والطائف والدمام والخبر، تتنافس على عدة جوائز في المسرح وفنونه، ويتضمن الملتقى مسابقة للنصوص المسرحية، وورشة تدريبية عن كتابة نص «المونودراما» و«الديودراما» يقدمها الكاتب المسرحي يحيى العلكمي، ولقاءات حوارية عن المهرجانات المسرحية، كما تقدم رؤى الصحاف ورشة عن الأزياء ودورها في المسرح بعنوان «فن حياكة الحكاية في المسرح».

وترافق العروض المسرحية ندوات فكرية يتم من خلالها قراءة العروض عبر متخصصين في المسرح لإلقاء الضوء على العروض وتقديم قراءة فنية عن أداء الممثلين.

وتتكون لجنة التحكيم في المسابقات من: سمعان العاني، رجا العتيبي، وعبد الله الجفال، أما لجنة تحكيم النصوص فتتكون من: عباس الحايك، يحيى العلكمي، وأحمد بن حمضة.

يشارك في الملتقى فرق مسرحية من الرياض وجدة والطائف والدمام والخبر

وأوضح مدير الجمعية يوسف الحربي أن الملتقى استقبل خلال الدورات الأربع الماضية ١٥٦ عرضاً مسرحياً من مختلف مناطق المملكة، حيث تخضع جميع العروض إلى لجان مشاهدة يتم من خلالها اختيار العروض المتنافسة في الملتقى.

وأضاف الحربي: يهدف الملتقى إلى استحداث عروض مسرحية في «المونودراما» و«الديودراما» واكتشاف مواهب متنوعة المجالات وإبرازها من خلال هذا التجمع المسرحي الأبرز، كما يساهم في الجانب المعرفي والتثقيفي من خلال العروض والقراءات النقدية والنقاشات خلال أيام الملتقى.