الموت يُغيِّب الشاعر محمود قرني صاحب «لعنات مشرقية»

أسَّس «ملتقى قصيدة النثر» واحتفى بالوجود الإنساني في شعره

الموت يُغيِّب الشاعر محمود قرني صاحب «لعنات مشرقية»
TT

الموت يُغيِّب الشاعر محمود قرني صاحب «لعنات مشرقية»

الموت يُغيِّب الشاعر محمود قرني صاحب «لعنات مشرقية»

لم تكد الحياة الثقافية في مصر تفيق من صدمة الرحيل المفاجئ للروائي حمدي أبو جليل حتى منيت، أمس، بصدمة أخرى على أثر وفاة الشاعر محمود قرني، عن عمر يناهز 62 عاماً، بأحد المستشفيات الخاصة بالقاهرة، وبعد صراع مرير مع مرض الكبد. يعد قرني من أبرز شعراء الثمانينات في مصر، ولعب دوراً مهماً في تأسيس الكثير من الملتقيات الأدبية، كما كان نموذجاً لكبرياء المبدع الذي واجه محنة المرض بشجاعة وظل صامداً في وجه الخذلان والإهمال. وكان مثقفون وأدباء قد طالبوا مؤخراً وزارة الثقافة واتحاد الكتاب بعلاج الشاعر الراحل على نفقة الدولة، بعد تعرضه لأزمة صحية حادة، تتطلب إجراء جراحة عاجلة لزراعة كبد. ورغم معاناة صاحب «لعنات مشرقية» التي انتهت بوفاته، ظل يردد حتى النفس الأخير: «أنا رجل قتلني وضوحي - لا أرغب في امتلاك شيء - سوى سلة من حروف الهجاء - أحاول هندستها حسب رغبات - يصفها العقلاء بأنها مجرد أضاليل».

وُلد محمود قرني عام 1961 على أطراف مدينة الفيوم شمال القاهرة، وحصل على ليسانس القانون من كلية الحقوق جامعة القاهرة 1985. أصدر11 ديواناً شعرياً منها: «حمَّامات الإنشاد»، و«خيول على قطيفة»، و«هواء لشجرات العام»، و«طرق طيبة للحُفاة»، و«الشيطان في حقل التوت»، و«أوقات مثالية لمحبة الأعداء»، و«قصائد الغرقى»، و«لعنات مشرقية»، و«تفضل هنا مبغى الشعراء»، و«ترنيمة لأسماء بنت عيسى الدمشقي». ومن كتبه الفكرية والنقدية: «وجوه في أزمنة الخوف - عن الهويات المجرحة والموت المؤجل»، و«خطاب النخبة وأوهام الدولة الأخلاقية»، و«لماذا يخذل الشعر محبيه؟»، و«الوثنية الجديدة وإدارة التوحش»، و«بين فرائض الشعر ونوافل السياسة».

تمركز معظم شعر محمود قرني على الوجود الإنساني، متخذاً إياه شرطاً للمعرفة بكل مظانّها التاريخية والفلسفية. وكان صاحب خيال ساخن، لا يرى الواقع في عيانه المادي المباشر فحسب، وإنما في قدرته على التخطي والتجاوز والحلم بفضاء أفضل، مفعم بالأمل والحرية. لذلك لم يكتفِ بكتابة الشعر والبقاء في برج عاجيّ، وإنما انخرط في الكثير من الأنشطة، مؤكداً دوره كمثقف عضوي فاعل، فأسَّس مع آخرين «ملتقى قصيدة النثر» في القاهرة لدورتين متصلتين في عامي 2009 و2010 بمشاركة أكثر من 40 شاعراً عربياً. كما أسَّس جماعة شعراء «غضب» للدفاع عن قصيدة النثر وحقها في الوجود. وأقامت الجماعة عدداً من الفعاليات الشعرية والأدبية في نقابة الصحافيين المصرية، وأسَّس مجلة «مقدمة» المعنية أيضاً بقصيدة النثر. وشارك في تأسيس مجلة «الكتابة الأخرى» المستقلة في عام 1991. كما كان أحد مؤسِّسي حركة «أدباء وفنانين من أجل التغيير» في عام 2005. وشارك في تأسيس «منتدى المستقبل» وندوته النقدية الأسبوعية.

التحول الشعري

يصف الناقد والباحث نبيل عبد الفتاح، الراحل بأنه «شاعر ينتمي إلى سلالة شعرية متميزة في تاريخنا الشعري في مختلف مراحله، ومدارس الشعرية المصرية، والعربية، من خلال تطوره من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، في حالةٍ من الانتقال الموضوعي، يمكن أن نطلق عليها شرعية الانتقال الناتجة عن التجربة الشعرية العميقة، وليس محض الانتقال، وفق نظام الموضة الشعرية الذي نجده لدى بعضهم. انتقالٌ مرجعه الإجادة والإتقان، من ثمَّ يوصف بشرعية التحول الشعري إلى عالم قصيدة النثر الفاتنة، وما وراءها من تفلسف وتخييلات مغايرة، ومجازات مختلفة عن قصيدة التفعيلة، وموسيقاها، وهمسها، ومَجازاتها لدى الكبار مصرياً، وعربياً».

ويضيف عبد الفتاح: «لا شك أن هذا الانتقال والتحول الشعري، مرجعه أن شاعرنا البارز انتقل من عالم شعري لآخر، ولكن حمل معه ذاتاً شعرية متميزة، فقد ورث محمود قرني عن البارزين، معرفة عميقة بالموروث الشعري والنثري، النظري، والتطبيقي العربي، وبعض التنظيرات الغربية، وهو ما جعل من قصيدته متميزة، في استلهاماته لهذا الموروث، وأساطيره ومروياته، وسردياته، في بنية بعض قصائده.

مرجع ذلك تلك الاستمرارية، والاقتطاعات، والاستلهامات، في عالم مختلف، مع اختفاء معانٍ مختلفة لها، ومعاصرة ينطق بعضها بالحالة الوجودية المأزومة للشرط الإنساني المعاصر، لكن في إهاب مصري تماماً، وإنساني معاً».

مثقف حقيقي

يقول الشاعر الأردني موسى حوامده إن «محمود قرني ليس شاعراً عابراً أو عادياً، لذلك حورب رغم أن الساحة تمتلئ بآلاف الشعراء. لم تتقبله بسهولة ويسر كما فعلت مع من هم أقل موهبة منه، وتمنحه الفرص التي كان ينبغي أن يتبوأها، لعدة أسباب، أولها وأهمها أن محمود مُنظِّرٌ رصين وعميق لشعرية الحداثة، ولم يكن سباقه مع القصيدة أو مع زملائه من الشعراء الآخرين على تفوق قصيدته، بل على تحريك العقلية العربية الراكدة، والقابعة في كهوف الماضي، والتي تَعد التجديد تهديداً وجودياً لها، ولثقافتها، ولذا كانت معضلة محمود هي معضلة أمة، لا تريد للحياة أن تتغير، ولا تريد للقوالب أن تتكسر، ولا تريد لعصر التنوير أن يبدأ.

ويرى حوامده أن قرني لم يكتفِ بكتابة قصيدة عابرة، بل «حاول تأسيس ثورة حقيقية في كتابة الشعرية العربية، وكانت ثقافته الفلسفية والنقدية الواسعة، واطلاعه الواسع على المدارس النقدية والفلسفية في العالم، يعطيانه تلك القناعة بإمكانية التغيير، أو التعبير على الأقل. وإذا أضفنا أنه لم يكن يفكر بعقلية القطيع والانضواء تحت جناح شلة أو سلطة، وحفاظه على حريته؛ حرية المثقف الحقيقي، وعدم انصياعه للواقع، وتمرده الدائم على الجمود، ليس في الشعر فقط، بل في كل مناحي الحياة، نجد أن ذلك كله جعل المؤسسات الرسمية والمنضوين تحت لوائها يحاربون مشروعه، ويغلقون عليه مساحات العمل والتعبير».

كاتب ملتزم

أما الناقد الأدبي د.إبراهيم منصور فيقول: «في شعره كما في مقالاته، ظل قرني ذلك (الكاتب الملتزم)، والتزامه نابع من عقله الذي يرفض الظلم والتبعية والاستلاب، ونابع من قلبه الذي يحب الحرية والنقاء والوضوح، لكنه لم يسقط في اللهجة الخطابية أبداً، ولم يجعل من قصيدته موعظة ولا بياناً (مانيفستو) لا للماركسية ضد الرأسمالية، ولا للدولة ضد المناوئين لها، فحين وجّه نقده إلى الليبرالية الجديدة، كان مع الناس في جهادهم للعيش بكرامة، وحين وجّه نقده اللاذع إلى من انتزعوا الحكم بالحيلة وإلى تيارهم العريض كله، هؤلاء المتاجرين بالدين، كان مع الناس في إيمانهم الصافي الرافض لتجارة الدين وتجّاره الشرهين الذين تحولوا إلى أنبياء كذبة».

ويضيف منصور: «خصص محمود قرني من وقته وعمله شطراً عظيماً للدفاع عن الشعر، دافع عنه في قصائده ودواوينه، ودافع عنه في المنتديات، ودافع عنه في مقالاته، كما دافع عنه في لقاءاته التلفزيونية. دافع قرني عن أقرانه الشعراء من العرب المعاصرين والقدامى، ومن غير العرب ممن تأثر بشعرهم الذي اطّلع عليه، وجعل من شخصياتهم أصواتاً تتماهى مع صوته في قصيدته، وقد بدا ذلك واضحاً جداً في ديوانه (تفضل هنا مبغى الشعراء) الذي يعد ديواناً مخصصاً للدفاع عن الشعر. كما ظل موضوع (الأم) موضوعاً أثيراً لدى الشاعر منذ بداياته، وهو دليل واضح على نقاء السريرة الشعرية عنده، إنه يعرف منابع الشعر جيداً، وهذه التيمة، تيمة الأمومة، هي نبعٌ للصدق والوضوح وكراهية النفاق والمراوغة، لذلك كانت تيمة دائمة في شعره».

كان محمود قرني صاحب خيال ساخن، لا يرى الواقع في عيانه المادي المباشر فحسب، وإنما في قدرته على التخطي والتجاوز والحلم بفضاء أفضل


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
TT

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة، أعلنت «جائزة إدوار الخراط للإبداع الأدبي» حصاد دورتها الأولى. فاز بالجائزة الكاتب الشاب أحمد عبد المنعم رمضان عن مجموعته القصصية «قطط تعوي وكلاب تموء» الصادرة عن «دار الشروق»، والتي تدور في عالم سريالي يتقاسم فيه البشر والحيوانات الأدوار في اللعب مع واقعهم المكاني والمتخيل، في أرجاء العاصمة المصرية التي تعاني من تخمة الزحام المستمر.

أقيمت الاحتفالية بمقر «مكتبة الخراط» التذكارية المجاورة للمتحف المصري وميدان التحرير بالقاهرة الثلاثاء الماضي، وشهدت حضوراً كبيراً من الأدباء والشعراء والمثقفين والصحافيين، وقدمها الكاتب الإعلامي خالد منصور.

في البداية تحدث الدكتور إيهاب الخراط عن المكتبة وعن نشاطها في المرحلة المقبلة، وما تطمح إليه من تقديم خدمة ثقافية متميزة حيث تقيم ندوة شهرية، وستناقش في الفترة المقبلة المجموعات القصصية الخمس التي وصلت للقائمة القصيرة.

ملصق الاحتفالية

واستعرضت الدكتورة مي التلمساني، رئيسة مجلس الأمناء، عمل المجلس ودوره في إرساء دعائم قوية للجائزة باختيار التيمة الأدبية التي تنطوي تحت مظلتها، وتمثل ملامحها الخاصة التي تميزها عن باقي خريطة الجوائز الأدبية، وفي الوقت نفسه تشكل ترجمة حقيقية لدعوة إدوار الخراط الدائمة نحو كتابة مغايرة ومغامرة، تنهل من نبع الحساسية الجديدة، أو كما سمّاها في مقولته الرائدة: «الكتابة عبر النوعية». وتم اختيار لجنة التحكيم لهذه الدورة من: الدكتور خيري دومة، أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة القاهرة (رئيساً)، وعضوية: الكاتب كمال الرياحي (من تونس)، والكاتبين الروائيين ميرال الطحاوي، وياسر عبد اللطيف.

إدوار الخراط

وثمّن الدكتور خيري دومة عمل مجلس الأمناء، وقال إنه أحسن صنعاً بفتح أبواب الأدب جميعاً أمام المتقدمين، لافتاً إلى أن «اللجنة تلقت نحو 50 عملاً، واخترنا منها خمسة أعمال تميزت بأن لها صوتاً خاصاً، وتشكل عبر مقومات السرد المتنوعة في قصصها متواليات بينها رابط فني».

وبالإضافة إلى المجموعة القصصية الفائزة، ضمت القائمة القصيرة الأعمال الأدبية: «خدعة هيمنجواي» لأحمد مجدي همام (قصص، 2024)، ورواية «حبة بازلاء تنبت في كفي» (2024) لدعاء إبراهيم، والمجموعة القصصية الصادرة في 2023 «الليلة الأولى من دونك» لأريج جمال، و«ثقوب» (قصص، 2024) لهويدا أبو سمك.

يرعى الجائزة أسرة الكاتب الراحل إدوار الخراط ممثلة في نجليه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسي والفنان أيمن الخراط... كما تحظى برعاية اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية

وفي تقليد جديد يرسخ للجائزة ويضفي جواً من الحميمية والمصداقية على عملها، أقيمت بالاحتفالية أمسية قصصية رائعة، حيث قرأ كتّاب القائمة الخمسة نماذج من أعمالهم التي وصلت للقائمة القصيرة، وتجاوب معها الجمهور بحماس بالغ ومحبة خالصة.

يرعى الجائزة أسرة الكاتب الراحل إدوار الخراط ممثلة في نجليه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسي، والفنان أيمن الخراط، كما تحظى برعاية اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، تقديراً لدور إدوار الخراط في نشأته وأنشطته. وتبلغ قيمة الجائزة المالية (50) ألف جنيه مصري تُعطَى للفائز بها، إضافة لشهادات تقدير للأعمال التي وصلت للقائمة القصيرة. وتُمنح لعمل أدبي منشور تتوافر فيه شروط الابتكار الخلاق على مستوى الشكل والمضمون، ويسعى لتجاوز محددات النوع الأدبي، وينفتح على تيارات الكتابة العابرة للنوع. وقررت لجنة أمناء الجائزة أن تُمنح في الدورة الأولى لكاتب أو كاتبة من مصر، تليها في العام المقبل دورة عربية، وهكذا بالتناوب.