نصوص مفتوحة بمذاق السخرية الصيني

بفضل الصين طريق حرير أدبي يصلها بالعالم العربي

نصوص مفتوحة بمذاق السخرية الصيني
TT

نصوص مفتوحة بمذاق السخرية الصيني

نصوص مفتوحة بمذاق السخرية الصيني

ليس هناك من شيء أضخم من الصين إلا الأدب الصيني. لكن كليهما محجوب خلف ستار من طبقتين، إحداهما مصنوعة من الاستشراق؛ فالصين بالنسبة للمستشرقين موطن الغرابة القصوى والانقطاع عن العالم، كما بدا في رحلات المغامر الإيطالي ماركو بولو. والطبقة الثانية من الحجاب نسجها التحفظ السياسي الصيني منذ بداية الحقبة الشيوعية، التي رأت أن تظهر للعالم بالقناع الذي يرضيها لا بالوجه الحقيقي. مركزية صناعة النشر حصرت صورة الصين في كتب الأدباء المتوافقين سياسيّاً والقليل من قصص الأطفال المصورة وبعض كتب التراث البعيد.

ولم تزل السينما الأمريكية تقدم الصين بلداً غريباً معزولاً، على الرغم من أن المنتجات الصينية بأيدي جميع البشر في كل أنحاء العالم اليوم، أما صورة الصين والأدب الصيني في المخيلة العربية فقد ظلا محكومين بالانتقاء المزدوج من الغرب والسلطة الصينية باستثناء مبادرات فردية لمفكرين عرب أقاموا في الصين من أمثال هادي العلوي.

مؤخرًا بدأ القناع يتزحزح عن وجه الصين، ورأينا مع منح «نوبل» لـمو يان وجهاً من الكتابة الأكثر عمقاً، لكن يظل مو يان ضمن الحالة التقليدية للاتصال الثقافي العربي الصيني عبر الغرب. ورغم أن روايته «الذرة الرفيعة الحمراء» قد تُرجمت إلى العربية قبل حصوله على «نوبل» عام 2012، إلا أنها لم تتزحزح من قائمة انتظار النشر في المجلس الأعلى للثقافة بمصر إلا بفضل فوزه بـ«نوبل»، فصدرت في بداية عام 2013 بتوقيع حسانين فهمي حسين.

اختلف الأمر بعد ذلك التاريخ، والآن يجري تعبيد ما يشبه طريق حرير أدبي يصل الصين بالعالم العربي، بمساهمة من الصين نفسها التي اهتمت منذ سنوات بتقديم وجهها الثقافي عبر دعم الترجمة.

وقد ترجمت مؤسسة واحدة هي «بيت الحكمة» حتى الآن نحو 500 عنوان من الأدب الصيني في سنوات قليلة، تكشف عن التنوع الشاسع لأدب شعب عريق، بما يؤكد أن مو يان ليس مجرد استثناء في الكتابة الصينية المعاصرة.

من بين الأسماء اللافتة التي عرَّفت بها المؤسسة وانغ شياوبو عبر روايته «العصر الذهبي» التي صدرت في تعاون بين «بيت الحكمة» و«منشورات المتوسط» في ترجمة علي ثابت. يتكون «العصر الذهبي» من أربع روايات قصيرة منفصلة متصلة، وهي نفسها جزء من ثلاثية تضم جزأين آخرين «العصر الفضي» و«العصر البرونزي».

ومثلما لا يجري وصف هاتف «هواوي» إلا عبر علاقته بـ«آيفون»، رأى بعض النقاد الغربيين في شياو بو «كافكا صينياً»، ورأى البعض أن يجعلوه مزيجاً من كافكا وجويس، أو ينقِّبوا داخله عن دوستويفسكي، لكنه في الواقع كاتب أصيل له صوته الخاص، وإن كان من حقيقة يؤكدها الكاتب الذي لم يعش سوى 45 عاماً، فهي تتعلق بوجه مختلف لأدب صيني غير معزول. شياوبو الذي رحل عام 1997 تكشف إحالاته المعرفية بداخل الرواية عن كاتب عاش في قلب الثقافة العالمية وهضمها وكتب نصه الخاص.

وعن المؤسسة نفسها صدر مؤخراً كتاب يحمل عنواناً طويلاً: «عن المختبئين في زوايا التاريخ وعلاقتهم السرية... حكايات الطائر الأزرق» لكاتب آخر هو لي جينغ تزه، في ترجمة لمحمد عبدالحميد، راجعها وقدم لها د. أحمد السعيد.

يعيد هذا الكتاب التأكيد على الوجه الجديد والغني للأدب الصيني، عبر 445 صفحة من القطع المتوسط تتوالى عبرها نصوص من الكتابة العابرة للأنواع الأدبية، وإن كان لا بد من تصنيف دقيق؛ فهي تنتمي إلى جنس «المقالة السردية».

في الكتاب يمتزج السرد بالنقد، والاقتباس بالتأليف، ولا نستطيع أن نعزل الخيالي فيه عن التاريخي، أو نعزل الجد عن المزاح.

من الواضح كذلك أن الكاتب المولود عام 1964 منفتح على الفلسفة الظاهراتية بما تتيحه من طاقات تأمل للأشياء الصغيرة واكتشاف العلاقات بين المتنافرات. ومثلما يحتفي بالأشياء قليلة الأهمية، يحتفي بالأشخاص المغمورين الذين لا يهتم بهم التاريخ الرسمي عادة، لينتهي إلى التساؤل حول خيالية وواقعية التاريخ، ومفهوم الحقيقة المراوغ الذي يسمح بأن تكون حكاية نعدها «خيالية» أكثر تاريخية من التاريخ ذاته.

وفي تقديمه يشير أحمد السعيد إلى تناغم الشكل والمضمون بالكتاب: «... مثلما يصعب اعتماد سردية واحدة عن التاريخ البشري ترتضيها في كل مكان بالعالم يصعب أن نضع تصنيفاً أدبياً دقيقاً لهذا العمل». ويعده كتاب نثر، وهذا الشكل شائع في الصين، وكتاب نقد أدبي، وكتاب تحليل فكري وبحث تاريخي، وكذلك رواية خيالية تنتمي إلى الواقعية السحرية أو الواقعية الخيالية عند مويان.

في هذه الكتابة الهجين يُفجِّر لي جينغ تزه طاقات الشعر في اللغة ذاهباً إلى أبعد من الموضوع؛ فعلى سبيل المثال، يتأمل عادة حرق البخور وأثرها في النفس فيصل إلى رؤية لعلاقة الشعر بالواقع: «ما لم يسبح القلب خارج البدن ويتحول إلى دخان مثل البخور، فإنه يرتجف قليلًا في خضم السكون، ويرافق البخور بشخصه، مثل زهرة أو نهر أو مشهد يتوافق مع قصيدة، لا تستطيع القصائد أن تستنفد الزهور أو الأنهار أو المشاهد، بينما يمكن أن تحول إلى زهرة، نهرًا أو مشهدًا طبيعيًا موضع نظر».

نحو ربع الكتاب احتفال مبهج بالبخور والعطور والورود، عبر التعليق على فقرات من الكتاب التراثي الياباني الأقدم «كتاب الوسادة» أو رواية اليابان الأولى «حكايات جينجي»، لكن الكتابة لا تمضي في طريق الرائحة وحدها، بل تتعدد مداخل النص فنرى صورة الفارسي في المخيلة الصينية، عبر ما يراه تزه من تناقض في حكاية من حكايات «كتاب الوسادة» تتحدث عن فارسي فقير. ويعد ذلك عدم توافق، كأن نكتب عن سقوط الثلوج وسطوع القمر في الوقت ذاته، إذ لا يوجد في المخيلة الصينية فارسي فقير، لينتهي إلى التأكيد على أن مصادفات عدم التوافق قليلة في «كتاب الوسادة» بينما الروح الغالبة هي التوافق، حيث كانت اليابان في عصر «كتاب الوسادة» تشبه الصين إبان أسرة تانغ حيث كانت الحياة نقية وبسيطة «وكانت قطرات الندى لا تزال حاضرة فوق الزهور»، بينما تقوم جماليات الحاضر على الاختلاف «فقط التنافر والاختلاف هو ما يمكن أن يحيي أرواحنا، وهما فقط يمكن أن يلفتا نظرنا إلى شيء ما».

ولا يترك لي جينغ تزه القارئ يطمئن إلى أفق واحد للتوقع؛ فبعد حكايات عن عجائبية رائحة العنبر وتتبع كيفية تخلقه في أمعاء الحوت بسبب المرض أو الجروح الناتجة عن ابتلاع أشياء صلبة، يوقظنا على صلة العنبر بالبراز، وهكذا تدمر المعرفة جمال الأشياء، ثم يعود ليؤكد أن العنبر كان قوة محركة للتجارة البحرية المزدهرة بين الصين والجزيرة العربية، ذلك لأن القوة الأصلية التي تدفع جزءاً من البشر للتعرف على الجزء الآخر ليس النيات الحسنة أو الرغبة في المعرفة، بل تخيل الأشياء الغريبة الموجودة لدى الجانب الآخر!

ومن الحكايات السحرية عن محظية عطرة إلى سؤال توجه به رجل إلى الياباني يوكيو ميشيما: «سيد ميشيما، أنت كاتب روايات، لماذا تدرب جسدك ليكون بهذا الشكل الجميل»، وجواب ميشيما: «سأموت في النهاية بجرح في بطني، ولا أريد أن يكون شكلي قبيحاً عندما يحدث هذا»، وينتهي لي جينغ تزه إلى أن «الجمال ليس الخير، والجمال لا يسبق الخير، ولم يقرن أحد الجمال بالخير. الجمال هو الجمال، والأهم أن تبدو جميلاً عندما تأكل وعندما تموت، لهذا يفضل الناس أحيانًا القيام بأمور شريرة وعبثية من أجل إدراك الجمال».

لي جينغ تزه يصنع جمال نصه من أمور شريرة وعبثية، حيث لا يمكن للقارئ أن يتوقع ما ستكون عليه الجملة التالية أو الفصل التالي، فالبداية الساخرة تُفضي إلى نهاية جدية وبالعكس. وقد يتناول الفصل موقفاً لشخص أهمله التاريخ لينتهي إلى علاقة مع شخص مجَّده التاريخ. هكذا، يحكي تزه عن قصة رواها أندريه مالرو عن لقائه في حانة بسنغافورة عام 1925 مع مهاجر روسي مهووس بجمع الآثار. أطلع الروسي، مالرو، على حيلة ساخرة، فهو يدفن تماثيل صغيرة جديدة متوقعاً أن يعثر عليها شخص بعد 50 عاماً، وسيظن حينها أنه عثر على كنز. ويتخيل تزه علماء آثار المستقبل وقد توهموا أنهم عثروا على أدلة جديدة تُعدِّل فهمنا للماضي وتعيد سرد التاريخ.

من قصة مالرو التي أفشى فيها سر «التحفة الزائفة» لهذا المتلاعب الروسي المغمور بالتاريخ، ينطلق تزه إلى نص أطول عن «تحفة مالرو» والتي هي مالرو نفسه، سارداً أسانيده على زيفه، وعلى تلاعبه بتاريخ الصين، كما بدا في كتبه، وقد نال عام 1996 شرف نقل جثمانه إلى البانثيون، وبرأي تزه أنه نال هذا الشرف لأنه كان يجيد تضخيم الأمور، وهي مهارة يشترك فيها معه هيمنغواي. كلاهما تمكن من توسيع دوره في التاريخ.

في النهاية يضع تزه حاشية يشكر فيها فرنان بروديل، لأن قراءته عام 1994 لكتابه «الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية من القرن الخامس عشر وحتى القرن الثامن عشر» ألهمه كتابة هذا الكتاب، حيث أقنعه بأن الأحداث التي أضاءتها الدراما التاريخية ليست مهمة، بينما المهم حقاً هو الاندفاع غير الواعي للحشود الهائلة في الظلام «إنها تفاصيل الحياة العادية لعدد لا يُحصى من الأفراد المجهولين».


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.