«أمراض» مواقع التواصل الاجتماعي

«أمراض» مواقع التواصل الاجتماعي
TT

«أمراض» مواقع التواصل الاجتماعي

«أمراض» مواقع التواصل الاجتماعي

«العالم شاشة صغيرة تتحكم فينا بخوارزميات يبتكرها إنسان مثلنا؛ لكنها تفلت من بين يديه وتصبح هي المتحكم فيمن يمسكون تلك الشاشات؛ بل في صُناعها إذا لزم الأمر». من هذه الرؤية ينطلق الكاتب وخبير «السوشيال ميديا» محمد عبد الرحمن، في كتابه الجديد «مدينة المليار رأي»، الصادر عن دار «دوّن» للنشر والتوزيع بالقاهرة.

يعد الكتاب بمثابة قراءة نفسية اجتماعية في «أمراض وأوهام» عالم مواقع التواصل الاجتماعي، مثل: الاجتزاء، والتوهم، والانتحال، والفراغ، والماضوية، والانسلاخ؛ حيث يكشف المؤلف كيف أن العالم لم يعد قرية صغيرة كما قال الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان؛ بل بات «شاشة صغيرة»، حجمها ثابت لكنها منتشرة بين أيادي الملايين، يقف كل منهم «افتراضياً» بمفرده، معزولاً عن الآخرين؛ لكن «واقعياً» كلنا مرتبطون بعضنا ببعض، نتأثر بما يجري حولنا سلباً وإيجاباً، وإن كانت السلبيات لا تُعد ولا تُحصى، بينما الإيجابيات تتضاءل يوماً بعد آخر.

ويوضح المؤلف أن الكل يُحذِّر من إدمان «السوشيال ميديا»، ويقترح طرقاً وأدوات للتخلص منه؛ لكن إذا تخيلنا هذا الإدمان كصوبة زراعية تجمع من يصابون به في مكان واحد، فإن تلك التربة المصابة بالعطب نتج عنها كثير من الأمراض والأعراض الرقمية التي تحمل تشوهات نفسية ومجتمعية، بسبب الإفراط في الاستسلام لمنصات مواقع التواصل.

يقع الكتاب في 144 صفحة، وفي كل فصل من فصوله التسعة يتوقف المؤلف أمام «مرض رقمي» سببته منصات التواصل، ويحلل ملامحه الحالية وجذوره فيما قبل عصر الإنترنت، وكيف ساهمت المنصات المختلفة في انتشاره، وكأننا في جائحة ممتدة؛ لكنها جائحة متعددة الفيروسات، بحيث لو أفلت الإنسان من الأول داهمه الثاني ولاحقه الثالث، وهكذا إلى ما لا نهاية، لافتاً إلى أن الناس أصبحوا يطرحون آراءهم في كل شيء، ومن المؤسف أن الإنترنت والهواتف الذكية أوهمت الجميع بأن لديهم سلطة، وللأسف ليس هناك ضبط لما يحدث على مواقع التواصل.

وفي نبرة لا تخلو من التحذير، يقول المؤلف: «بالتأكيد لم نتوقع أنه عبر إحدى هذه المنصات ستنتهي حياة البعض؛ لأنه شارك في شيء اسمه (تحدٍّ). تغيّرت المعاني فباتت التحديات التي كنا نخوضها في الدراسة والرياضة والعمل، مجرد حركات قاتلة نمارسها لثوانٍ عبر تطبيق مثل (تيك توك)، ثم تخرج التحذيرات من أن هذا التحدي يؤدي إلى الوفاة. تحذير ليس كالذي وُلدنا نقرأه على علب السجائر؛ حيث نشاهد الناس تدخن ولا تموت؛ بل تحذيرات تُطلق بعد أول وفاة فعلية، فمن يخترع تلك التحديات؟ ومن أين يجد الناس الوقت لكل تلك الممارسات السلبية؟ من الذي يقف وراء كل هذا في مدينة المليار نسمة وأكثر؟».

يطرح المؤلف التساؤل ثم يجيب: «لن تجد إجابة محددة عن هذا السؤال، ولن تفيدك الإجابة إذا وجدتها، فمن اخترع السكين أو الرصاصة أو القنبلة تركها غير مسؤول عن كيفية استخدامها، ومعرفته وتوجيه اللوم له لن تمنع استمرار القتل، المهم هو تجنب طعنة السكين وتفادي طلقة الرصاص، ولن يحدث هذا إلا إذا اعترفنا بأن هناك مشكلة يجب أن تحل، لا أن نستسلم لها».

وكان قد صدر للمؤلف «الكتاب صفر» عن كواليس العمل الصحافي في فبراير (شباط) 2018، وكتاب «فلسفة البلوك» في يونيو (حزيران) 2021، والذي تناول خلاله تحليل سلوكيات مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، والتغيرات التي لم تكن لتحدث إلا في ظل اندماج الفضاء الإلكتروني مع الحياة الواقعية.


مقالات ذات صلة

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت
ثقافة وفنون سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

«حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

بدأت الحكاية في أبريل (نيسان) 2020. كان زمن الحَجْر وغلبة العزلة، حين لمحت الصحافية اللبنانية جودي الأسمر تجّاراً في منطقتها يدّعون الالتزام بالإغلاق العام

فاطمة عبد الله (بيروت)
الولايات المتحدة​ وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون على خشبة المسرح في قمة المرأة في العالم بحي مانهاتن في نيويورك 6 أبريل 2017 (رويترز)

هيلاري كلينتون تنتقد نتنياهو وطلاب جامعة كولومبيا في كتاب جديد

في كتابها الجديد، انتقدت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لتَحَمُّله «صفر مسؤولية» عن هجوم 7 أكتوبر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
كتب مايا ويند

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين

ندى حطيط

الصاخب كعاصفة والمسكون بعشق فلسطين

إلياس خوري (ا.ب)
إلياس خوري (ا.ب)
TT

الصاخب كعاصفة والمسكون بعشق فلسطين

إلياس خوري (ا.ب)
إلياس خوري (ا.ب)

لعل أصعب الكلمات وأشدها وطأة على النفس هي تلك نضطر إلى قولها على مسافة لحظات قليلة من رحيل من نحبهم، وقبل أن نرافق جثامينهم إلى مثواها الأخير. فكيف إذا تعلق الأمر برحيل كاتب متميز ومتعدد الهويات الإبداعية من وزن إلياس خوري، الذي لا يليق بوطأة رحيله سوى الصمت أو الذهول. صحيح أن الوتيرة المتصاعدة للحروب والكوارث، آخرها ما يجري في غزة والضفة والجنوب اللبناني، قد أكسبت الموت ألفة لم تكن له، وجعلته يرافقنا كالظل في حركاتنا وسكناتنا وتفاصيل عيشنا اليومي، ولكن إلياس خوري لم يكن طرازاً عادياً من الكتاب، لكي نسلم المساحة الشاغرة التي تركها خلفه إلى التجاهل أو النسيان.

منذ زاملته على مقاعد الدراسة في الجامعة اللبنانية، أوائل سبعينات القرن المنصرم، لم يقدر لي أبداً أن أرى إلياس خوري متلبساً بحالة هدوء أو استكانة. فقد كان مزيجاً صاخباً من الحب والكراهية والتأمل والتمرد والسخط والتربص والغليان والصخب والاعتراض على كل شيء، حتى ليحسبه زملاؤه وعارفوه أقرب إلى العاصفة التي تسير على قدمين منه إلى أي شيء آخر. وحيث لم تكن أعراض الموهبة الروائية والنقدية قد بدت بعد في نصوصه وأوراقه، فقد راح اليأس يستعين بملامحه المجردة وحركات يديه وجسده العصبي لكي يبعث برسائل احتجاجه المتلاحقة إلى العالم.

وحيث كانت فلسطين ماثلة في قلب إلياس وعقله وشرايينه، سرعان ما انتبه محمود درويش، الذي كان انتقل آنذاك للعيش في بيروت، إلى ما يختزنه صاحب «الجبل الصغير» في داخله من نزوع ثوري وطاقات مختزنة، فاختار أن يكون إلى جانبه في تحرير مجلة «شؤون فلسطينية» التي عملت على نقل فلسطين من عهدة الإنشاء الرومانسي إلى عهدة الانتصار للذاكرة الجمعية، والتنقيب الرصين عن الحقيقة الموثقة بالبراهين.

لكن مفاجآت إلياس خوري الأكثر إدهاشاً كانت تطل من جهة السرد الروائي على وجه الخصوص. فهو وإن تفاعل بقوة مع قضايا السياسة والمقاومة والدفاع عن القضايا الكبرى، في طليعتها قضايا لبنان وفلسطين والعالم العربي، فإنه رفض الاتكاء على موضوعه، أو تحويل السياسة إلى رافعة للرداءة الفنية والأسلوبية، كما فعل كثر آخرون من الروائيين والشعراء والفنانين. وحيث كان من الطبيعي ألا يأنس اليأس إلى تكرار نفسه، وهو المبدع الجامح الذي يكتب بجماع أعصابه، فقد بدت رواياته كما لو أن كل واحدة منها منبتة عن الأخرى، ومنتمية إلى أسلوب مغاير ومقاربة مختلفة. هكذا بدت الفروق شاسعة بين «الوجوه البيضاء» و«مجمع الأسرار»، أو بين «رحلة غاندي الصغير» و«مملكة الغرباء»، أو بين «كأنها نائمة» و«باب الشمس».

وقد يكون إدوارد سعيد الذي عدَّ في مقالته الشهيرة «وداعاً نجيب محفوظ» أن رواية محفوظ قد بلغت محطتها الأخيرة، وأن راية السرد الجديد هي في عهدة جيل الوراثة الذي يتصدره خوري، قد أضاف إلى رصيد إلياس قيمة مضافة إلى تلك التي منحها له صديقه الآخر محمود درويش، إلا أن الرصيد الأثمن لصاحب «رائحة الصابون» هو ذلك الذي استحقه بموهبته العالية وثرائه المعرفي، وإنصاته العميق إلى آلام المحرومين من أبسط حقوقهم، والمبثوثين في ضواحي المدن والأزقة المهملة ومخيمات اللجوء.

لقد عرف إلياس كيف يصغي بأناة إلى حكايا البشر المنسيين، وكيف يصنع من سيرهم وقصاصات عيشهم أساطير وقصصاً وملاحمَ، مغايرة تماماً لتلك التي تركها لنا الإغريق وكتاب الملاحم المعروفون. والفلسطينيون الذين قرروا، تكريماً له، تحويل روايته «باب الشمس» إلى قرية حقيقية وبيوت صالحة للسكن، بدوا وكأنهم يقدمون له النص الأجمل الذي لم يهتد النقاد إلى كتابته، حيث اللغة والفن ليسا بديل الحياة، بل هما الحياة نفسها في صورة معدلة.

كم الحياة موحشة في غيابك يا صديقي إلياس. ومع ذلك فإن ما يخفف من عبء هذا الغياب الثقيل، أن ما سيظل من لغتك في ذاكرتنا، ومن صمتك الصاخب في أسماعنا، ومن حضورك الساحر في قلوبنا، هو أكثر بكثير مما ستحمله معك إلى القبر.

أصعب ما في رحيل إلياس خوري أنه يحدث في الوقت الذي يشتد فيه الخناق على فلسطين التي أحبها من صميم قلبه وكرس حياته للدفاع عن استقلالها وحق شعبها في الحرية والحياة.