رحيل الروائي حمدي أبو جليل... صاحب «لصوص متقاعدون»

وصف خيري شلبي وجوده بأنه «ضرورة لأي مشهد ثقافي»

رحيل الروائي حمدي أبو جليل... صاحب «لصوص متقاعدون»
TT

رحيل الروائي حمدي أبو جليل... صاحب «لصوص متقاعدون»

رحيل الروائي حمدي أبو جليل... صاحب «لصوص متقاعدون»

صدمة وحالة من الحزن والأسى مُنيت بها، أمس، الحياة الثقافية في مصر، على أثر الرحيل المفاجئ للكاتب الروائي حمدي أبو جليل، عن عمر يناهز 57 عاماً، وبعد حياة أدبية حافلة بالعطاء والتجدد، حفر خلالها بصمة خاصة في فضاء القصة القصيرة والرواية. زاد من حِدة هذه الصدمة شخصية «أبو جليل» المرحة، وروحه المُحبة للفكاهة والسخرية، والتي انعكست في طرائق سرده وبنائه لشخوصه الروائية وعوالمهم المسكونة بالمغامرة واللعب على مفارقات الحياة، حتى إن كثيرين لم يصدّقوا خبر رحيله، واعتبرها البعض مجرد دعابة، على غرار ألاعيبه الروائية، إلى أن أعلنت ابنته الكبرى هالة نبأ وفاة والدها على صفحتها بـ«فيسبوك».

أفاد أبو جليل، في أعماله السردية، من تجاربه في الحياة عبر لغة مختلفة استقاها من خلفيته البدوية، ومولده في محافظة الفيوم ذات الخصوصية الثقافية والجغرافية، عام 1967، فضلاً عن عمله ببعض المِهن اليدوية الخشنة، مثل مهنة عامل بناء، قبل أن يبزغ نجمه في سماء الثقافة المصرية.

أحدثت روايته الأولى «لصوص متقاعدون»، 2002، أصداء قوية، ولقيت احتفاء نقدياً لافتاً، وتُرجمت إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، كما فازت روايته «الفاعل»، 2008، بجائزة «نجيب محفوظ» للرواية العربية، التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وتُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان «كلب بلا ذيل». ووجد النقاد في كتاباته صوتاً مختلفاً وكاتباً يملك مفاتيح عالم روائي شديد الخصوصية.

كان أبو جليل يؤكد دوماً أن «الرواية لا يمكن أن تكون منشوراً سياسياً، أو لافتة احتجاج، أو نوبة اعتراف، أو خطاب موعظة، أو بيان تحريض، إنها محاولة للفهم، للبوح، للحضور، للإمتاع، لأنسنة المعنى».

ويردد باستمرار أن «نقل تجربة الذات هي موضوع الرواية الأفضل دوماً. لنقلْ إنه التطابق مع الحقيقة دون انتقاء، السرد دون هدف أو غاية سوى السرد، التعرّي التام لا بغرض الفضح، وإنما سعياً إلى الحقيقة».

لم يكمل أبو جليل تعليمه الجامعي، وقدم إلى القاهرة ليعمل في مهن مختلفة، قبل أن يتم تعيينه مديراً لتحرير سلسلة «الدراسات الشعبية» في وزارة الثقافة. ونشر، 1997، مجموعته القصصية الأولى «أسراب النمل»، ثم نشر، في عام 2000، مجموعة «أشياء مطوية بعناية فائقة»، والتي حصلت على جائزة الإبداع العربي في العام نفسه، وصدرت له كتب أخرى، مثل «الأيام العظيمة البلهاء»، و«القاهرة: شوارع وحكايات»، ودراسة تاريخية بعنوان «نحن ضحايا عك»، فضلاً عن روايتيه «صعود وانهيار الصاد شين» التي تُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان «الرجال الذين ابتلعوا الشمس»، ثم روايته «يدي الحجرية» عن «هيئة الكتاب» 2021.

وحول نشأته الأدبية، كان أبو جليل يردد أنه تربّى إبداعياً على مائدة ثلاثة مبدعين كبار اهتموا بالأصوات الجديدة؛ هم: خيري شلبي، وإبراهيم أصلان، ومحمد مستجاب. وكان يفخر بأن خيري شلبي يشبّهه بماركيز واصفاً وجوده بأنه «ضرورة لأي مشهد ثقافي وأدبي»، وكان يلحّ دائماً على فكرة أن الحقيقة أقوى من الخيال، وأروع، وأخصب، وأكثر سحراً، وأن تجارب الإنسان بكل ما فيها أثرى من خيالات أفضل الروائيين.

وحول رحلة «أبو جليل» قال الكاتب الدكتور أحمد الخميسي: «فجَعَنا الموت باختطاف الكاتب الروائي حمدي أبو جليل، وهو في السادسة والخمسين من عمره، وبمعايير زماننا فقد خسرناه شاباً في عز سنوات الإبداع والتألق. تعرفت إلى حمدي أبو جليل بعد أن هاجر من الفيوم إلى القاهرة، وكان يعمل بنّاء بسيطاً حيثما اتفق، مما أمدّه بتجارب حياة شاقة ظلت ترشده في الأدب، كان صديقاً؛ ليس فقط بحكم أنه أديب، ولا بحكم أنه ذلك الإنسان المتفجر بالحيوية ومحبة الآخرين، بل كان عزيزاً لأن ثمة ما ربَطَنا قبل تعرفي إليه؛ أي العلاقة المشتركة مع الدكتور أبو بكر يوسف أبو جليل مترجم تشيخوف، وهو من نفس عائلة حمدي. فقدنا أبو جليل، ولا يحضرني هنا سوى قول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي: (كل كلمات الوداع مرة)، خاصة حين ينتزع الموت من حقل الإبداع زهرة الأدباء وهم في قمة العطاء والإبداع الأدبي».

وكتب الناقد الأدبي الدكتور يسري عبد الله، على صفحته بـ«فيسبوك»، قائلاً: «في مكالمتنا الأخيرة بالأمس، وكنا نتهاتف يومياً، ونلتقي حسب ما يتيسر الوقت لكلينا. لم تنقطع علاقتنا يوماً واحداً طيلة عشرين عاماً، وعزّزتها الحوادث واللقاءات والضحكات النابعة من القلب، والحكمة التي ارتأيتها فيه، فالسخرية العظيمة كانت تخفي تأملاً عظيماً».

وحين هرعت إلى بيته منذ ساعة تقريباً، كان الشارع الذي دخلته عشرات المرات كئيباً وحزيناً، كنت أتحسب بكاء مُراً أغالبه، وكنت أمنِّي نفسي بأن الخبر غير صحيح، وحين دخلت العقار وجدت حارسه حزيناً، فتأكدت، ووجدت نفسي أخبره بأن الراحل كان يحبه. في الحقيقة كان حمدي يحب الجميع، ويدعوك إلى محبة الجميع، حتى مَن اختلف معهم لم يضمر لهم أي ضغينة. كان سمحاً ورحباً، وأحببت فيه ذلك جداً، وكان يقول لي دائماً (إنت خلتني يقظ، ما أنا كنت من النائمين)، فنضحك وأنا أزيد (من النائمين التاريخيين يا حمدي)، وأنا أريد أن أخبره الآن، مثلما أخبرته من قبل، أنه مِن أحب وأجمل مَن رأيت. ورغم تماسكي في مثل هذه المواقف القاسية على النفس، فإنني لم أتمالك نفسي سوى دقائق قليلة حتى انهمرت في بكاء طويل وأنا أتحدث مع زوجته الفاضلة».

وقال الناقد سيد محمود، صديق الراحل منذ 30 عاماً: «رغم خشونته البادية فإنه كان طيباً هشاً وصاحب موهبة فذّة في كتابة تشبهه تماماً، لصيقة بالذات وتعبر أيضاً عن الجماعة، كانت خفة دمه العنوان إلى قلبه النابض بالحياة. لم أعرف في حياتي مَن هو أكثر قدرة على السخرية من ذاته، مثلما كان حمدي الغاضب كموجة، والرقيق كوردة، فهمت، اليوم فقط، لماذا كانت كل صوره الأخيرة في ظلال الشجر، وأحاديثه كلها عن الموسيقى».

وعلّق الناقد الدكتور محمد بدوي قائلاً: «الموت مؤلم، لكن الأكثر إيلاماً الموت قهراً، وحمدي أبو جليل مات مقهوراً، لم يكن عدمياً، بل كان محباً للحياة، عيبه الوحيد أنه طلب الاعتراف ممن هم أقل منه موهبة وشرفاً، هذه بلاد تأكل أفضل أبنائها، ليست صالحة لمن عاقبتهم الطبيعة بالتميز».

وتداول كُتاب ومثقفون، عبر منصات التواصل، مقتطفات من الكلمة التي ألقاها حمدي أبو جليل في الجامعة الأمريكية، بمناسبة فوزه بجائزة «نجيب محفوظ»، والتي قال فيها: «شكراً للجائزة واللجنة والجامعة، يا لها من مفاجأة! ويا له من فرح! شكراً لتفهم الانحراف عن الأستاذ في جائزة الأستاذ، لا، ليس الانحراف وإنما العجز... شكراً لتشجيع العجز، نعم العجز وليس التجاوز، التجاوز يعني القوة، يعني القدرة الجبارة على استيعاب قيمة جمالية وفكرية، ثم تجاوزها ببساطة، وتطور الكتابة ـ كما أفهمه ـ يعود، في جانب منه، إلى الضعف، العجز عن الوفاء لشروط النماذج السابقة، أقصد طبعاً النماذج العظيمة السابقة. دائماً أتخيل مسار الكتابة على هيئة مجرى مائي به ربوات عالية، راسخة، وعجز الماء عن المرور فوقها، أو تجاوزها، يدفعه إلى مسارات جديدة تماماً، بل أحياناً مناقضة لمجراه القديم. العجز دافع لتطور الكتابة، لاندفاعها في مسارات جديدة، هناك دوافع أخرى بالطبع كاختلاف ظروف الحياة والوعي بها، ولكن العجز، ربما لقسوته يحتل مكانة الدفاع الأوجه، العجز عن الوفاء لنموذج سابق يدفع لإنجاز خطوة ما، ترتاد منطقة جديدة وتؤكد العجز في نفس الوقت، خطوة تجمع بين الفرح بجِدتها ومغايرتها، والحسرة من وضوح عجزها».



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «البيدوفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي