ما هي الفلسفة التي نحتاجها في المدارس؟

الابتعاد عـن المنهج العلمي وهـدر المواهـب في لغو العقول يـسقط أي حضارة

فيثاغورس
فيثاغورس
TT

ما هي الفلسفة التي نحتاجها في المدارس؟

فيثاغورس
فيثاغورس

والجهل حظك إن أخذت العلم من غير العليم

ولرب تعليم سرى بالنشء كالمرض المُنيم

هذه الأبيات من قصيدة أحمد شوقي الموسومة بـ«أرسطاطاليس» وترجمانه (التي كتبها تهنئة لترجمة الفيلسوف والسياسي والمفكر المصري الكبير أحمد لطفي السيد لكتاب «الأخلاق» لأرسطو). وكأن أمير الشعراء في استخدامه لصيغة المبالغة «عليم» أعطى رسالة مباشرة لأحمد لطفي السيد بأن يتولى المتمكنون من المعرفة فقط تدريس الطلبة بطريقة أرسطو عند تعلمه وتعليمه الفلسفة والمنطق، وإلا تحول الطلبة لجهلة أو نسخ جامدة من الكتب! فيخاطب أمير الشعراء المفكر والمسؤول أحمد لطفي بلغة المفكرين الحاذقين العالية. كيف لا وأحمد لطفي السيد من أهم مفكري مصر الحديثة، وهو الذي تولى وزارة المعارف ثم الخارجية في مصر، وأحد مؤسسي جامعة القاهرة، ومجمع اللغة العربية، والذي يقول عنه العقاد: إنه أفلاطون الأدب العربي.

دعونا نجاري الغرب في نظرته الاستعلائية في ادعائه أن بداية الفلسفة بشكل عام، والعلمية بشكل خاص، كانت على يد اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، مدخلاً لنا لفهم الطريقة التي ميزت اليونانيين في نهجهم العلمي الذي فاقوا به الأمم السالفة. وحتى نجد لنا عذراً في مجاملة استعلاء الفكر الغربي - لفهم منطلق حكمه - نأخذ مثالاً بسيطاً لتوضيح الفكرة. فمثلاً صحيح أن البابليين قد سبقوا اليونانيين في إثبات أن مربع العدد الصحيح «س»، مضافاً له مربع العدد الصحيح «ص»، يساوي مربع العدد الصحيح «ع» في حالات محددة من الأعداد الطبيعية الصحيحة، وهي نظرية متطابقة مع نظرية مربع طول الوتر في المثلث القائم الزاوية لفيثاغورث الذي جاء بعد ذلك. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي جعل علماء الرياضيات ينسبون هذه النظرية لفيثاغورث اليوناني ويكيلون له المديح على هذه النظرية العبقرية التي تقوم عليها معظم البراهين الرياضية منذ ألفين وثلاثمائة سنة تقريباً، ويتجاهلون عمل البابليين السابق؟ وقس على ذلك تجاهلهم لما قدمه المصريون والسومريون والآشوريون والكنعانيون والفنيقيون والصينيون من نظريات كثيرة قبل ظهور أول فلاسفة اليونان الطبيعيين طاليس (غير أرسطاطاليس موضوع القصيدة) قبل ألفين وستمائة سنة تقريباً.

ما قبل سقراط وبعده

الفلسفة اليونانية تاريخياً تقسم إلى مرحلتين: ما قبل سقراط وما بعد سقراط، حيث تتميز الفترة الأولى بأنها طبيعية ورياضية، ثم تفرعت لفروع علمية وغير علمية في أواخر هذه المرحلة، مع ظهور تحديات سقراط للمسلمات الذهنية في حواراته مع مناظريه، لينتهي به الحال للحكم عليه بالإعدام من قبل أصحاب العقول الأقل شأناً. وهذه المرحلة الأولى من تأريخ الفلسفة هي التي تعنينا في هذا المقال بعيداً عن مثل أفلاطون ومنطق أرسطو في مرحلة ما بعد سقراط. اليونانيون في هذه المرحلة سلكوا مسلك الإثبات العلمي والنقد العلمي في نظرتهم لأي افتراضات علمية، وتدوين العلوم في كتب تحفظها ويدرسها المتمكنون للطلبة الأذكياء دون جعل النظريات العلمية حتمية بل ظنية قابلة للنقد إلا في حالات نادرة. أقليدس - مثلاً - لم يكتف بتدوين النظريات الرياضية في كتابه «الأصول» فقط، بل برهن على صحتها أو نقل براهين صحتها. كما أن اليونان لم يكتفوا فقط بمنهج البرهان والدليل المنطقي والإثبات العلمي والتدوين، بل أضافوا إليه البناء التراكمي للعلوم وتطورها من مرحلة لأخرى وانفتاحهم على علوم الحضارات الأخرى، كما فعل فيثاغورث نفسه الذي هام عدة عقود في طلب المعرفة منتقلاً بين مراكز الحضارات الشرقية في مصر وبلاد ما بين النهرين.

ومن أهم إسهامات اليونان إشاعة العلم وجعله متاحاً للجميع على عكس الحضارات السابقة التي تعاملت مع العلوم كأسرار في أيدي الكهنة، كما فعلت الكنيسة تماماً بالدولتين الرومانيتين الشرقية والغربية حين أغلقت آخر المدارس الفلسفية بحجة نشر الهرطقة ومحاربة الدين في القرن الخامس الميلادي، وحصرت العلوم كلها في أيدي القساوسة والكرادلة خلف أسوار الأديرة المحصنة، وفسرت الظواهر الطبيعية طبقاً لفهم الكنيسة للكتاب المقدس المحرف، فأدخلت أوروبا في ظلام دامس لألف عام.

الابتعاد عن المنهج العلمي الرصين والمنطقي والجري التائه خلف الترف الفكري والميتافيزيقيا الخيالية وهدر المواهب في لغو العقول يسقط أي حضارة، فضلاً على أن يبني حضارة على أسس علمية راسخة. هذا المنهج العلمي النقدي والمنطقي الذي ميز النصف الأول في القرن العشرين في مشهد استثنائي من تأريخ الحضارة البشرية أخرج فيها العقل البشري أعظم ما وهبه الله له.

طرق تعليمية عقيمة

إن الطريقة التي تقوم على أسلوب حفظ المعرفة العلمية فقط أو خلطها بالشوائب غير العلمية تبقى طريقاً عقيمة أمام تطور المعرفة بصورتها الشاملة. فكلما كانت النظرية العلمية أو المنطق العلمي قابلين للشك والتجربة والنقد، ويخضعان لمنهج التصحيح الذاتي، فتحا آفاقاً جديدة من أبواب العلم، وتجاوزا حدوده الآنية إلى حدود ودرجات أرفع. وهذا هو سر حضارة اليونان العلمية الطبيعية العميقة والعظيمة التي لا تزال آثارها إلى اليوم في بطون نظريات وقوانين ومنطق المعرفة. ذلك هو المطلب الأساس في منهج تعليم فلسفة العلوم (الرياضيات والفيزياء والكيمياء بشكل رئيس) لدينا ليصبح المعلم العليم شجاع العقل - كما وصفه شوقي - هو من يفَهم طلبتنا قيمة عقولهم.


مقالات ذات صلة

«مساعدة الصمّ»... مبادرة تُثلج قلب مجتمع منسيّ في لبنان

يوميات الشرق مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)

«مساعدة الصمّ»... مبادرة تُثلج قلب مجتمع منسيّ في لبنان

إهمال الدولة اللبنانية لمجتمع الصمّ يبرز في محطّات عدّة. إن توجّهوا إلى مستشفى مثلاً، فليس هناك من يستطيع مساعدتهم...

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق الشيف بوراك في أحد المقاطع الدعائية  (صفحته على فيسبوك)

مطعم تركي يُجدد الجدل بشأن «الفجوة الطبقية» في مصر

جددت أسعار فواتير «باهظة» لمطعم تركي افتُتح حديثاً بمنطقة التجمع الخامس (شرق القاهرة) الجدل بشأن «الفجوة الطبقية» في مصر.

محمد الكفراوي (القاهرة )
رياضة عالمية نادي باريس سان جيرمان (الشرق الأوسط)

سان جيرمان يحتكم إلى الاتحاد الفرنسي في نزاعه مع مبابي

قدّم نادي باريس سان جيرمان طلبا لمناقشة نزاعه المالي مع مهاجمه السابق كيليان مبابي أمام اللجنة التنفيذية للاتحاد الفرنسي لكرة القدم، بعد القرارات المؤيدة للاعب.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الطبيبة المصرية التي نشرت مقطع فيديو أثار جدلاً (جزء من المقطع على يوتيوب)

توقيف طبيبة لـ«إفشاء أسرار المرضى» يثير انقساماً «سوشيالياً» بمصر

أثار توقيف طبيبة مصرية بتهمة «إفشاء أسرار المرضى»، تبايناً وانقساماً «سوشيالياً» في مصر، بعد أن تصدرت «التريند» على «غوغل» و«إكس»، الثلاثاء.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق تشاء الصرخة إعلاء صوت العدالة والدفع قُدماً بقضية المناخ (غرينبيس)

«أحلامنا ليست للبيع والشراء»... صرخة الطفولة العربية لعالَم عادل

يصرخ الأطفال عالياً في الكليب: «أحلامنا ليست للبيع والشراء»، ويعبّرون عن إحباطهم من عالَمٍ لا يكترث لغدهم، ينادون بتغيير جذري يجعل من رفاهيتهم ومستقبلهم أولوية.

فاطمة عبد الله (بيروت)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.