«هيراكليس الفاو» يجسد الجمالية الإغريقية ويختزلها

تشهد التحف الأثرية التي عُثر عليها في قرية الفاو لتعدّدية مدهشة في الأساليب الفنية المتبعة، قلّما نجد ما يماثلها في المواقع الأثرية الأخرى في شبه الجزيرة العربية. من هذه القرية التي كانت في الماضي عاصمة مملكة كندة الأولى في نجد، خرجت مجموعة صغيرة من التماثيل البرونزية تتميّز بطابعها اليوناني الصرف، منها تمثال يمثّل هيراكليس، البطل الإغريقي الذي بلغت شهرته الشرق في القرون الميلادية الأولى.

طول هذا التمثال 25 سنتمتراً، وهو منجز بحرفية عاليّة، ويماثل بأسلوبه المتقن الأنصاب الكلاسيكية الكبيرة. برز هذا الأسلوب في العالم الإغريقي، وبلغ القمة في إقليم أتيكا التاريخي، وانتقل منها إلى روما، غير أنه تراجع في العصر المسيحي بشكل كبير، وذلك بالتزامن مع ظهور جمالية جديدة مغايرة تماماً، سادت على مدى قرون من الزمن، ثم تهاوت في «عصر النهضة» الذي شكّل «ولادة جديدة» للجمالية الإغريقية الكلاسيكية، تلك الجمالية التي تقوم على محاكاة الواقع الملموس وتجسيمه في أدقّ تفاصيله.

في إقليم أتيكا التاريخي، تكوّن النحت الكلاسيكي وسطع، ومعه أضحى الجسد البشري أساس العمل الفنّي ومحوره. المثال هنا هو الجسد الحي السليم من كل عيب، والفنان مدعو إلى إظهار كل جارحة من جوارحه. ابتعد الفنانون عن قاعدة الجماد والثبات التي سادت فنون الشرق القديم، ودخلوا في ميدان الحركة الحية. نحت المثّال الإغريقي الإنسان في صورته المتحركة، مظهراً كل حركة من حركات الجسد المرن، معلناً «أنسنة» الفن، بمعزل عن موضوعه «الديني». هكذا حضر المعبودون على صورة البشر، وبدوا في تماثيلهم في أحلى صورهم وأكثرها حسناً وفتنةً.

يمثّل «هيراكليس الفاو» هذه الجمالية ويختزلها بشكل ساطع. هو ابن زيوس، كبير معبودي الإغريق وسيّدهم، وألكميني، ابنة آلکترويون ملك مدينة موكناي، وزوجة أمفيتيريون، ابن ألكايوس ملك مدينة تيرنس. حسب الرواية المتوارثة، هام زيوس بألكميني، فتجسّد على هيئة زوجها، وعاشرها على مدى ثلاث ليال، فأنجبت منه هيراكليس، ومعنى اسمه «قوّة هيرا»، وهيرا هي أشهر زوجات زيوس، وهي من كبار المعبودين، وقد عُرفت بغيرتها وبأسها، وقد صبّت هذه الغيرة على هرقل، فدفعته إلى قتل أبنائه وهو لا يدري، وعندما استفاق، هاله ما اقترفه، فطلب التكفير عن ذنبه، فحكم عليه بالدخول في خدمة ابن عمه يورسثيوس، ملك أرجوس، وأن يقوم بالواجبات التي يطلبها منه، فطلب منه يورسثيوس أن ينجز 12 عملاً مستحيلاً، أوّلها القضاء على أسد خارق في مدينة نيميا، التي تقع في مقاطعة كورنثيا. انطلق هيراكليس إلى نيميا، وأخذ يبحث في أرجائها، إلى أن وجد ذلك الضرغام، ودخل في عراك مع هذا الوحش الذي لا يخترق جلده سيف ولا سهم، ولا تفلح ضربات الهراوة ضده، وتمكّن من خنقه، ثم سلخ جلده ولبسه.

يمثّل تمثال الفاو هيراكليس واقفاً، مع انحناءة بسيطة من قدمه اليسرى. جسده عار، ومفاصله التشريحية منجزة بحرفية عالية. يمدّ البطل يده اليمنى إلى الأمام، ويحمل بيده اليسرى هراوته ملقياً بها على كتفه، وهي الهراوة التي صنعها بنفسه من شجرة زيتون اقتلعها في جبل الهيليكون، قبل أن يبلغ نيميا، كما روى ثيوقريطس. فوق معصم اليد اليسرى، يتدلّى جلد أسد نيميا. فنّياً، يتبنّى هذا التمثال النموذج المتداول الذي شاع في سائر أقاليم العالم الروماني، حيث يحضر البطل الجبّار حاملاً الهراوة وجلد الأسد. يحني هيراكليس الفاو رأسه انحناءة خفيفة، ويتطلّع نحو اليسار، وتتميّز عيناه بطلاء زجاجي لمّاع يحدّد المقلة البيضاء والبؤبؤ الأسود. شعره جَعْد، وكذلك ذقنه الطويلة التي تحجب رقبته، وهامته متوّجة بإكليل الدالية.

دخل هيراكليس العالم السوري في الحقبة الرومانية، كما تشهد صوره المنقوشة العديدة في تدمر ودورا أوروبوس. ظهر البطل في هذه الصور حاملاً الهراوة وجلد الأسد في قوالب محلّية تميّزت بطابع تحويري «شرقي» يشكّل نقيضاً للطابع الروماني الكلاسيكي. في الجانب العراقي، عظم شأن هيراكليس في مملكة الحضر التي تقع في الجزيرة الفراتية، على بعد 110 كيلومترات من مدينة الموصل في اتجاه الجنوب، وتعدّدت صوره المنقوشة في هذه المملكة بشكل كبير، وغلب عليها الطابع «الشرقي»، كما في تدمر ودورا أوروبوس.

يحتفظ متحف بغداد بتمثال برونزي لهيراكليس يخرج عن هذا السياق، وهو تمثال من الحجم المتوسّط، طوله 85 سنتمتراً، ويتفرّد بأسلوبه الكلاسيكي الذي يماثل أسلوب تمثال الفاو. عُثر على هذا التمثال في سلوقية، المدينة التاريخية التي أسّسها القائد المقدوني سلوقس الأول على ضفة نهر دجلة، وجعل منها عاصمة للإمبراطورية السلوقية. استولى الإيرانيون الفرثيون على هذه المدينة، وأطاحوا المقدونيين، وحملوا لاحقاً هذا التمثال، كما تؤكّد الكتابة المحفورة على أعلى ساقيه، وهي كتابة يونانية على الساق اليمنى، وأرامية وباللغة الفرثية على الساق اليسرى، وتقول بأن الملك فولوغاس الرابع (بَلاش جهارم) حمل هذا التمثال في منتصف القرن الثاني من معبد يعود إلى مثروديطوس، في ميسان، على رأس الخليج.

في شبه الجزيرة العربية، يغيب هيراكليس بشكل كامل، ولا يظهر إلا بشكل استثنائي كما يبدو. يتجلى البطل الإغريقي بشكل مبسّط على نصب جنائزي مرمري محفوظ في متحف مدينة عنق، وهو من نتاج القرن الرابع، مصدره شبوة، عاصمة مملكة حضر موت القديمة. ويشكّل هذا الظهور حالة نادرة، إذ لا نرى ما يماثله في آثار اليمن المتعدّدة. في الأراضي السعودية، ينحصر ظهور هيراكليس في تمثال الفاو، ضمن مجموعة صغيرة من التماثيل البرونزية تعود إلى القرون الميلادية الأولى، وتتميّز بأسلوبها الكلاسيكي الصرف كما أشرنا.

يحضر هيراكليس شبوة في صورة مبسّطة شبه بدائية، ويحضر هيراكليس الفاو في صورة واقعية مجسّمة، ويماثل في حضوره هيراكليس سلوقية الذي يتميّز مثله بعينين زجاجيتين لمّاعتين.