سفيان رجب: كتبت روايتي لتكون شهادة ضدّ التعصّب والتطرّف

الكاتب التونسي ركز في عمله الجديد على الأقلية اليهودية بمدينة سوسة

سفيان رجب: كتبت روايتي لتكون شهادة ضدّ التعصّب والتطرّف
TT

سفيان رجب: كتبت روايتي لتكون شهادة ضدّ التعصّب والتطرّف

سفيان رجب: كتبت روايتي لتكون شهادة ضدّ التعصّب والتطرّف

في روايته الجديدة الصادرة مطلع العام الحالي، التي حملت عنوان «اليوم جمعة وغداً خميس»، يتطرق الكاتب التونسي سفيان رجب إلى الأقلية اليهودية التي ما زالت متمسكة بالإقامة في تونس، رغم المصاعب التي تواجهها، خصوصاً بعد أن تصاعدت موجات التعصب والتزمت في تونس خلال السنوات العشر الماضية. وقد ركز سفيان رجب روايته على الأقلية اليهودية التي تعيش في مدينة سوسة، ولم يكتفِ بالتحقيق في أوضاع هذه الأقلية المادية والمعنوية، بل تعمق في قراءة التراث اليهودي، وفي تاريخ اليهود في تونس.

ينتمي سفيان رجب إلى الجيل الجديد من الكتّاب. والمؤلفات التي أصدرها إلى هذه الساعة في مجال الشعر، والقصة القصيرة، والرواية جعلت له حضوراً واضحاً في المشهد الثقافي التونسي.

هنا حوار معه...

> واضح أنّك اخترت أسلوب التحقيق في كتابة روايتك حول الأقلية اليهودية في سوسة. كيف حدث هذا التحقيق؟

- لم أكتفِ بقراءة العهد القديم وبعض الكتب التراثية اليهودية كالتلمود والكابالا وكتب موسى بن ميمون، بل التقيت ببعض اليهود في مدينة سوسة، وتحدّثت معهم، واستمعت إلى هواجسهم، ونظرتهم إلى جيرانهم المسلمين في المدينة. في اللقاءات الأولى عادة ما يكون التوجّس والخوف عقبة في طريق الحوار، لكن بتعدّد اللقاءات يرتفع محرار الثقة بيننا، ويرتفع مقابله محرار الصّدق. كنت محظوظاً بلقائي صانع الحلوى الشّهير في مدينة سوسة باسكال تميم، وتحدّثت إليه أكثر من مرّة، حدّثني عن الأيام السوداء التي عرفتها عائلته في سبعينات القرن العشرين. كان يقول إنّه تونسي حتى النخاع ويرفض مغادرة بلاده، وقد توفّي باسكال منذ 3 سنوات، ودفن بمقبرة اليهود بسوسة. كما عدت إلى كثير من المراجع التي تتحدّث عن تاريخ اليهود في البلدان العربية، وإلى الروايات التي تناولت موضوع الأقليات اليهودية في البلدان العربية.

> لماذا اخترت هذا الموضوع خاصة؟

- كتبت هذه الرواية لتكون شهادة ضدّ التعصّب والتطرّف، ودعوة للمحبّة والتسامح وفهم الآخر. كتبت عن المهمّشين والبسطاء الذين دهستهم جرافة الآيديولوجيا دون رحمة. كتبت عن أبناء وطني المنبوذين لأنهم يحملون كتاباً مختلفاً ومعتقداً مختلفاً. هذا هو السّرّ الوحيد لهذه الرواية. بعد إصدارها، تعرّضت إلى التهجّم من بعض المتعصبين. لكن كلّ هذا لا يشعرني إلا بالقوة والثبات. مهمة الكاتب أن يكون حليف النور والإنسانية، لا أن يتستّر بالظلام، ويكون مضخّم أصوات التعصّب وقوميات الدّم. كلّ القوميات المتطرّفة لا تنتج سوى قوميات متطرفة مضادة لها، هذا ما يجب علينا أن نفهمه من درس التاريخ. أنا مصطفّ مع الإنسان أينما كان، ومهما كان معتقده أو كان لونه...

ولأنقد تاريخنا العربي الرافض للأقليات، تاريخ اللون الواحد والفكر الواحد، تاريخ التعصّب وإلغاء الآخر المختلف. إنّ درجة الوعي الحضاري والرّغبة في التغيّر والثورة على ما يكبّل الفكر تبدأ من خلال نقد الذّات. ومن خلال فهم الآخر المختلف. جزء كبير مما يسمّى بالمثقفين العرب يحكمهم التعصّب، لكنهم لا ينتبهون إلى ذلك، ويبنون خطاباتهم الفكرية والجمالية من خلال عاطفة العامة، إمّا جهلاً أو نفاقاً.

> هل شعرت بأنّ طرد الجاليات اليهوديّة من تونس ومن المجتمعات العربية عموماً، مثّل خسارة لتركيبة مجتمعاتنا، خاصة أنّ تلك الجاليات كانت فاعلة في جميع القطاعات، بما في ذلك القطاع الفنّي والثقافي؟

- الإضافة التي قدّمها اليهود التونسيون لثقافة بلادهم، في القرن العشرين خاصّة، لا ينكرها إلا جاهل أو جاحد، لا أحد من التونسيين المولعين بالموسيقى التونسية الأصيلة ينسى الشيخ العفريت أو حبيبة مسيكة أو راؤول جورنو أو ميمون التونسي أو أشير مزراحي أو لويزة التونسية أو يعقوب بشير أو بنات شمالة أو الخلفاوي...

في الأدب والسينما والفكر، ترك اليهود التوانسة بصمات واضحة، مثل السينمائي ألبير شمامة شيكلي، والأديب ألبير ممي، والمؤرخ بول صبّاغ، والممثل ميشال بوجناح، والكاتب والمناضل اليساري جيلبار نقاش، والأديبة كوليت فلوس... وغيرهم.

كان عدد اليهود التوانسة في خمسينات القرن العشرين يصل إلى 100 ألف نسمة، وكانوا يخلقون تنوّعاً حضارياً وثقافياً في بلادهم، لكن مع الأسف أغلبهم دهستهم ماكينة الآيديولوجيا المرعبة، ففرّوا من بلادهم التي عاش فيها أجدادهم منذ أكثر من 2000 سنة. من المحزن حقّاً أن يضطرّ الإنسان لمغادرة وطنه، لأي سبب كان. لكن عدد اليهود في تونس اليوم لا يتجاوز الألفين، يعيش اليهودي التونسي في بلاده بصفة مواطن ناقص، لا يدخل إلى الخدمة العسكرية، ولا يمكنه المشاركة في مناظرات الشرطة والديوانة والجيش، ولا يمكنه التّرشّح للانتخابات الرئاسية...

> الشعراء والباحثون هم الآخرون انخرطوا في كتابة الرواية، هل نجحوا في ذلك؟

- علاقة الشعراء بالرواية هي علاقة قديمة، حين نقرأ الآن أعمالاً شعرية خالدة مثل الإلياذة والأويسة لهوميروس أو «مسخ الكائنات» لأوفيد، أو الكوميديا الإلهية لدانتي، أو الفردوس المفقود لميلتون، أو الإنياذة لفرجيل... نحتار في تصنيفها، هل هي شعر أم رواية. شخصياً أعتبر أن الشعراء إذا دخلوا الرواية يفتحون داخلها كوى جديدة على عوالم أخرى في السرد، صحيح أنّ السرد هو فضّاح الشعراء كما يقول العرب، وهو امتحانهم القاسي. وقد سقط في ميدانه كثير من الشعراء، لكنّ بعضهم عرفوا كيف يبنون عوالمهم الروائية، وكتبوا روايات فارقة في السرد العربي. أمّا الجامعيون فهذه مسألة أخرى، فثمة المبدعون منهم، وهي صفة نادرة جداً في المشهد الأدبي العربي، عبد الفتاح كيليطو مثلاً. أمّا الأغلبية من المدرّسين النمطيين، فقد كان دخولهم إلى الرواية كدخول التتار إلى بغداد. لا أفهم ما الذي يفعله بعض الجامعيين في الرواية، فهم يستعملون جملاً تقريريّة لا روح فيها، ويكتبون في موضوعات مجترّة منذ بداية المشروعات الأولى في الرواية العربية. وأغلب رواياتهم التي ترجمت إلى لغات أخرى أعطت صورة سيئة جداً للرواية العربية. أرى أنّ الطاقة التي يهدرونها في مشروعاتهم الإبداعية الوهميّة لو وضعوها في النقد الأدبي لساهموا في خلق ثورة في الرواية العربية.

>كيف تقرأ المشهد الثقافي التونسي بعد الثورة؟

- المشهد الأدبي في تونس أضاع البوصلة بعد الثورة، من وجهة الثورة في النصّ إلى وجهة النّص المحتفي بالثورة. ثمة كسل لا ينتج شعراً، وثمّة كدح لا ينتج سوى ثرثرة. جزء كبير من المشهد الأدبي التونسي الآن تتجاذبه الثرثرة والنعاس، ويهندسه إداريون جاهلون بالأدب متحصّنون بمدرّسي الجامعات و«أصحاب الدالات». لا يوجد مشروع واضح للثقافة التونسية، لا توجد مؤسسات موازية فاعلة تخرج بالنشاط الثقافي من المجترّ والنّمطي، ولا توجد مراكز للدراسات الثقافية، كلّ هذه الأسباب لا تخلق سوى مشهد متعفّن، تحرّكه الأشباح واللوبيات «المتمعّشة» من وزارة الثّقافة، ولا يخرج عن دائرة الاستعراض «الواجهة التي تخفي المزبلة»، والمئويّات والأربعينات «كرنفالات تستهلك من الحلويات ما تستهلكه من دموع التّماسيح». وإذا عرفنا أنّ الأدب والفكر هما في هوامش المؤسسة الثقافية الرسمية في تونس، نستنتج المستوى المتدني للمشهد الأدبي. لا توجد ورشات للتدريب على الكتابة، لا توجد جماعات أدبية تثوّر المشهد، لا توجد دور نشر متميزة. لا توجد مجلات وملاحق أدبية، حتى مجلة الحياة الثقافية التي تصدرها وزارة الثقافة توقفت عن النشاط منذ سنة، والحقيقة أنّ توقّفها كان رحمة بنبتة الحلفاء، فالمجلة غارقة في النعاس والجهل منذ سنوات. لا تبقى سوى بعض الأصوات التي تغرّد منفردة، ولن نقول تغرّد خارج السرب، لأنّه لا يوجد سرب من الأساس. أمّا الجوائز الأدبية فقد تحوّلت إلى رشاوٍ وإلى ترضيات لبعض الأسماء المكرّسة في الأدب. نحن نعرف أنّ الجوائز الأدبية في العالم جعلت لاكتشاف النصوص المغامرة، وليس للنصوص التجارية والنصوص التقليدية كما هي الحال في أغلب الجوائز الأدبية في تونس. بعض الجوائز هبطت إلى درجة الفضائح. جزء كبير من المشهد الأدبي التونسي الآن تتجاذبه الثرثرة والنعاس، ويهندسه إداريون جاهلون بالأدب


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!