فيليب سولرس... مسيرة القطيعة مع الكتابة الكلاسيكية

شخصيته كانت مثيرة للجدل... وأسلوبه تميز بأساليب سرد جديدة ومختلفة

 فيليب سولرس
فيليب سولرس
TT

فيليب سولرس... مسيرة القطيعة مع الكتابة الكلاسيكية

 فيليب سولرس
فيليب سولرس

يعد فيليب سولرس، الذي فارق الحياة يوم السبت 6 مايو (أيار)، نموذجاً فارقاً في الأدب الفرنسي، ومن أهم أقطاب النخبة الفكرية اليسارية في حقبة الستينات والسبعينات. وُصفت أعماله بـ«النخبوية»، وتميزت بأساليب سرد جديدة ومختلفة. حصد كثيراً من الجوائز الأدبية، تاركاً وراءه حصيلة غزيرة من الأعمال تفوق الثلاثين رواية، ومثلها من الأعمال النثرية الأخرى.

في حوار مع مجلة «لكسبرس» الفرنسية قال سولرس، إن أسلوبه في العمل يقترب من الانضباط العسكري، حيث يستيقظ مع الفجر ليكتب، ثم يسترخي قليلاً، ليعود إلى الكتابة، مضيفاً أن طريقته في الحياة هي البحث عن الدرجة القصوى من إدراك العالَم.

ساهم كثيراً في إثراء النقاش السياسي بمداخلاته وكتاباته المُلتزمة، بعضها ترك أثراً بالغاً في الأوساط الثقافية، منها العمود الذي كتبه في صحيفة «لومند» عام 1999 بعنوان «فرنسا المتعفنة»، الذي ندد فيه بتقدم اليمين المتطرف وأفكاره العنصرية الحاقدة.

أول نصوصه الأدبية كان بعنوان «التحدي» نُشر في مجلة «أكرير» أو الكتابة عام 1957، لكنه صادف النجاح في أول عمل أدبي له بعنوان «عزلة غريبة» (لوسوي، 1958) وهو لم يتعدَ العشرين عاماً، وقتها استعار اسم «سولرس» الذي يعني في اللغة اللاتينية العزيزة إلى قلبه «البارع»؛ لأن «فيليب جوايو» متّحدر من عائلته كاثوليكية محافظة من نواحي بوردو جنوب غربي فرنسا كانت ترفض أن يقترن اسمها برواية «فاضحة»، إذ إن سولرس كان يروي فيها قصة علاقته الواقعية بأوجينا، سيدة إسبانية شديدة الجمال، مناضلة في العمل السرّي كانت تعمل في منزل عائلته الغنية، وقع في حبها بقوة «من أوّل نظرة»، وهو في الخامسة عشرة من العمر وهي في الثلاثين، وقد عشق بعضهما بعضاً بـ«سريّة كاملة». استحضر سولرس عشقه الأول بعد سنوات في حوار إذاعي، حيث قال: «طيبتها ما زالت تطاردني... أرى ابتسامتها السموحة في كل مكان...». جمال الأسلوب وعمق التحليل، لا سيما ما يخص الشخصية النسائية في «عزلة غريبة» نال ترحيب النقاد وإعجاب أديبَين معروفين هما لويس أراغون وفرنسوا مورياك اللّذان أخذا الفتى الموهوب تحت جناحيهما وأشرفا على تقديمه للوسط الأدبي، حيث كتب لويس أراغون يقول: «لن نجد كل يوم شاباً يقف ليحدثنا عن النساء بهذه الروعة...».

بعد نجاح روايته، ترك سولرس دراسته في السوربون مدفوعاً بحبه للكتابة «... فلا داعي لانتظار الشهادات التي لا تجدي نفعاً ولا تجلب الموهبة...»، كما كان يقول، ليؤلف روايته الثانية «الحديقة» (لوسوي 1961) بأسلوب متجدّد أكثر حداثة يختلف عن الأسلوب الكلاسيكي الذي كتب به أول مرة، بهذا العمل حاز الكاتب جائزة «مدسيس»، وهو لم يتعدَ الرابعة والعشرين. في ذروة صعود اسم الروائي بين الدوائر الأدبية الباريسية، تّم استدعاؤه لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية في الجزائر، لكنه رفض ذلك متعللاً بالإصابة بمرض انفصام الشخصية، كلفه ذلك الإقامة تحت المراقبة الطبية في ثكنة عسكرية مدة 3 أشهر، قبل أن يتم إعفاؤه وتسريحه بعد تدخل الروائي والوزير أندري مالرو. وكان سولرس من شباب انتفاضة مايو 1986 وأنشأ في تلك الفترة المجلة الأدبية الطليعية «تيل كيل»، ثم «إنفينيتي» عام 1983، وكان معجباً بالتيار الماركسي الماوي، وكتب عن الصين وعن إنجازاتها العظيمة إلى غاية نهاية السبعينات، حين فضّل الابتعاد والتخّلي عن الماركسية ثم العودة إلى تراثه المسيحي، حيث زار البابا جون بول الثاني، وأوصى بدفنه حسب التعاليم الدينية.

تنبع أهمية أعمال سولرس من انطلاقها من الماضي لتتحدث عن الحاضر وتستشرف المستقبل، مركّزاً على عبثية عالمنا المعاصر وعلاقة الرجل بالمرأة. كما كان للنساء حضور كثيف في كثير من أعماله منها «النساء» (غاليمار، 1983) وهي واحدة من أهم رواياته، حيث منحته شهرة كبيرة في السرد الفرنسي، واعتبر بعض النقاد أنها ساهمت في إحداث القطيعة الكاملة مع الكتابات الكلاسيكية، كما لمس فيها بعض النقاد تأثير أسلوب سيلين وحتى فوكنر وبروست. من أهم أعماله الأخرى «الفردوس» (لوسوي، 2001) التي اعترف فيها بتأثير الروائي الآيرلندي جيمس جويس، ورواية «حبّ أميركي» (ميل نوي 2001)، و«المسافرون عبر الزمن» (غاليمار، 2009) و«حرب الذوق» (غاليمار، 1996) و«الرغبة» (غاليمار، 2012).

في 1966 تزوج بالمحلّلة والناقدة البلغارية جوليا كريستيفا، لكنه عاش علاقة حب قوية دامت سنوات طويلة مع الكاتبة دومينيك رولان، وتميزت بتبادل رسائل حب جميلة بلغ عددها 5 آلاف، وصفتها صحيفة «جي دي دي» التي نشرت أجزاء منها بأنها «من أكثر رسائل الحب جمالاً وروعة». لم يكن سورلس يظهر في وسائل الإعلام إلا وسيجارة في يده، وكان يحب تقمص دور الكاتب «المشاغب»، بل وحتى المُستفز بإثارته للجدل في كثير من المواقف.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».