القراءة... التقاء العين بالحروف وتحويل المقروء إلى معنى

بطبيعتها متعة واكتشاف وتعلّم ولا يمكن أن تمثّل عبئاً

القراءة... التقاء العين بالحروف وتحويل المقروء إلى معنى
TT

القراءة... التقاء العين بالحروف وتحويل المقروء إلى معنى

القراءة... التقاء العين بالحروف وتحويل المقروء إلى معنى

للقراءة ترجمات عديدة تراوح بين استيعاب معاني المفردات والمقاطع في المنشورات الورقية والرقمية إلى إدراك ما في النوايا، واستيعاب ما بظهر الغيب. بيد أن الثابت في الحالات جميعها هو الإحاطة بدلالات الشيء، والقدرة على الانتقال من حيز الوعي إلى الخطاب، لتزيل محتوى المقروء. إنه الافتراض الذي حدا بمدونة النقد إلى اعتبار الكتابات النقدية، حول الأعمال الأدبية والفنية، قراءات، بالنظر لما تعكسه من خصوصيات الوعي والاستيعاب أوان نقلها إلى نص مكتوب، ولما أنها كذلك فقد وصفت في سياقات عديدة بـ«مقتربات قرائية»، بالنظر لما تمثله القراءة من تشوف إلى الاقتراب من دلالات الأعمال فقط، وليس امتلاكها على نحو كامل. إنه المعنى المأخوذ من الوضع الفيزيقي للقراءة (حمل الكتاب باليد جلوساً أو وقوفاً أو في وضعية النوم) الذي سرعان ما مثل استعارة مظهرية دالة على القراءة بوصفها «رَوْشَماً ذهنياً» مفارقاً للممارسة بالفعل.

والشيء الأكيد أن القراءة بطبيعتها متعة واكتشاف وتعلّم، ولا يمكن أن تمثّل عبئاً، حتى في الحالات القصوى للكتب الصعبة والمركبة، وقد تتخذ إيقاعاً بطيئاً، ومكتنفاً بالترددات، والمراجعات، والعودة المستمرة إلى البدايات للفهم واستبصار القصد. وفي كل هذا لا يمكن أن تخلو القراءة من حافز الاستمرار المبني على الرغبة في معرفة شيء ما. وفي النهاية يمكن أن نقول شيئاً بصدد المقروء، للتعبير عن النتيجة المحصلة، والكتب المتطرفة في قيمتها، هي التي تجعل القارئ يعلق عليها ويصدر أحكاماً، إنها الكتب نفسها التي تستمر في الحضور عبر الاستشهادات المتفرقة، لهذا لا يمكن أن نفصل القراءة عن ملكة التداول، والترجمات القولية للمعاني المحصلة، في سياقات تخاطبية شتى.

وغير خافٍ أننا حين نتعلم قراءة المفردات نتعلم نطقها أيضاً، ولعل القصد في القراءات الجماعية التي كانت تمثل مرحلة أساسية في التعلم، الانتقال من وضع الفردية الذي تقتضيه المواجهة مع الكتاب، إلى حال المواجهة الجماعية التي تنتج لاحقاً حديثاً مشتركاً عن المعاني، لذلك فالامتناع عن الكلام عن الأعمال الفكرية والإبداعية أشبه ما يكون بالامتناع عن قراءتها، الصمت هو الوجه الآخر لعدم القراءة أو للقراءة الممتنعة، وحين نتحمل ضروباً شتى من العذابات والخيبات والمواجع، في قراءات صعبة، لن يخفف من غلوائها سوى الحديث عنها. لهذا أعتقد أن الصبر على المقروء يجب أن يضاهيه صبر مضاعف على الكلام، وما قد يستتبعه من تأويل، لا سيما حين نعي قاعدة أساسية في عملية القراءة، مفادها أننا نقرأ كتباً من ورق وحبر، ولا نقرأ كيانات بشرية، ومن ثم فإن حديثنا عن كتاب ما هو حديث عن مضمون فكري وعن فقرات وفصول ولغة ومجازات، وعن اسم مطبوع على الغلاف متصل بتجليه الكتابي المفرد، في عمل بذاته دون غيره، ولا يمكن أن يتحول الكلام عنه إلى مجرد اغتياب.

في قراءة رواية «أعمدة الأرض» للإنجليزي كين فوليت، نتمثل نصاً مرعباً، ليس لأنه يدور في عوالم الحرب والعنف الديني بإنجلترا القرن الثاني عشر، ولكن لأن الرواية تمتد في أكثر من ألف صفحة، وتتضمن عشرات الأسماء والتفاصيل، نصاً تتحول فيه القراءة إلى سعي لتجاوز عتبة الخمسمائة صفحة الأولى، والنزول تدريجياً نحو الفصول النهائية. وليس من شك، أن القارئ سيكون أمام امتحان الاستمرار في المطالعة أو التوقف، وحين ينتهي، قد يكون بإمكانه الحديث عن موضوعات عامة في الرواية؛ من قبيل بناء كاتدرائية كمبردج على النمط القوطي الفرنسي، التي شيدت في غمار سجالين ديني وسياسي كبيرين، لكن الأسماء والأمكنة والمشاهد تتوه في السديم، وتتلاشى من الذاكرة الضاجة بالقراءات، فيخيل للقارئ أنه كان بإمكانه الاكتفاء بتلك الفقرة الطويلة التي تتحدث عن غرق السفينة البيضاء الحاملة لوريث العرش البريطاني، المطبوعة على ظهر الغلاف للحديث عن تلك الرواية.

فالحديث عن الكتب (المسمى اقتراباً قرائياً)، موهبة لا صلة لها، بالسلوك القرائي ذاته، ولا بدقته وعمقه، إنه فِقْهٌ متصل بالقدرة على الاختزال وتخيل الروابط، واستخدام الفقرات المقتطفة من صفحات متفرقة، واستدعاء سلسلة من الوشائج الذهنية التي قد تنطلق من الرواية وتنتهي في التاريخ والذهنيات، من هنا قد نجد عدداً من المتحدثين المهرة عن الروايات والكتب مجرد مهنيين محترفين، يتقنون حفظ العناوين والأسماء، مع قدرة بارعة على التنقل بين النصوص، ينطلقون من تجربة طويلة مع القراءة تعلمهم أن مراجعة الكتب كفاءة في استثارة المتلقين، وهكذا قد نتحدث مجازاً عن الصعود والقفز والوقوف التأملي والهرولة في القراءة، ما دمنا نطوي مسافات قد تطول أحياناً أكثر من اللازم. ولا جرم من ثم أنه قد نقف على مراجعين بالغي السوء لكتب قتلوها حفظاً ويسعون دوماً لإثبات استظهارهم لمضامينها من الغلاف إلى الغلاف.

في أحد فصول كتاب «تاريخ القراءة»، يتحدث ألبيرتو مانغويل، عن فعل القراءة على الآخرين، حيث تتحدد بوصفها تلاوة جهيرة، لمتعلم بصير، على مستمعين أميين أو عميان أو مرضى، ويكون القارئ مجرد وسيط بين شيء مطبوع ومتلقين محرومين من القدرة على ممارسة ذلك الفعل الحيوي، ويحكي المؤلف عن طلاب مدرسة كوبية تطوعوا لتنوير عمال مصنع للسيجار عبر تخصيص ساعات يومية للقراءة عليهم في أوقات الاستراحة بمقر عملهم. وفي هذا الفصل، يورد ألبيتو مانغويل رسماً للفنان الفرنسي «ماريليي» يصور رجلاً بزي نبيل أوروبي بصدد قراءة مقاطع من صحيفة بين يديه، على جمهور من الخدم والعمال، قبل أن ينقل الكاتب سلسلة من الصور الأخرى للقراءة العمومية، كان أهمها لوحة لفنان مجهول تشخص فعل القراءة على عمال المصانع، نقلاً عن مجلة «براكتكال ماغازين» الأميركية.

والظاهر أن القصد من إيراد تلك الصور، في المحصلة، التدليل على الوظيفة الاجتماعية للقراءة على الآخرين، حيث مثلت حلاً لمعضلة نقل الإبداع الأدبي والفكري، لشريحة غير المتعلمين، في زمن بناء مشروعي التنوير والنهضة الأوروبيين، فكان القارئ الوسيط فاعلاً جوهرياً في صلب الصراع الحضاري، قبل أن يتحول دوره إلى مهنة لدى شرائح اجتماعية مرفهة، يتلو فيها على الأطفال مقاطع من نصوص شكسبير وآنتول فرنس ودانتي وغوته، فضلاً عن العهدين القديم والجديد.

وفي مقابل هذه الصورة، بالغة الثراء، تتداعى إلى الذهن مئات من صور القراءة الملتبسة، التي يقدم كثير من الأشخاص نفسهم عبرها، دونما تحديد لماهية الفعل داخلها، حيث إنها التقطت كـ«سيلفي» مهيأ للنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، القصد منها الإعلان عن فعل يمثّل في الأحوال العادية اجتهاداً غائباً، ووسيلة شبه مستبعدة (في الوقت الراهن) من سلم اكتساب المعارف والمهارات؛ وفي هذا السياق، يمكن استحضار موجة «سيلفهات» القراءة التي تنتشر عقب كل معرض للكتاب، حيث يتداعى «القراء»، عبر وسائط التواصل، لإعلان اقتنائهم كتاباً ما وانهماكهم في «الاقتراب» منه، وسرعان ما تنتشر صور «وضعيات» حمل الكُتُب، داخل ما يمكن تسميته بطقس «تَمَحُّل» فعل القراءة، يتماشى فيه لون الغلاف أحياناً مع ألوان اللباس وطبيعة الفضاء والضياء، ووضع النظارات على العينين. ولعل ما يلفت الانتباه في صور القراءة المصطنعة تلك، أن الغالب الأعم ممن يحضّرون أنفسهم لالتقاط الصور عبر الهواتف الذكية والألواح التفاعلية المتطورة، لا يقترحون أي كتاب في صيغة رقمية، حيث يمثل الهدف بما هو ترجمة لمظهرية القراءة، أكثر مما هو إدراك ممهد لاقتراب قرائي مكتوب أو شفاهي.

في المحصلة قد تكون القراءة سلوكاً بالفعل أو بالقوة، وقد تمثل بوصفها إدراكاً أو مجرد اقتراب مظهري، إنما الأكيد أنها لا تمثل إلا بوصفها اقتراناً بترجمات شتى للقصد منها، قد تبدأ من لقاء العين بالحروف ولا تنتهي بتحويل المقروء إلى قول مختزل للمعاني الحاصلة أو المفترضة.



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.