جميل البارودي... 3 عقود من الدبلوماسية السعودية

أَسَّس المكتب السعودي في نيويورك وأمده بالكفاءات

جميل البارودي (الشرق الأوسط)
جميل البارودي (الشرق الأوسط)
TT

جميل البارودي... 3 عقود من الدبلوماسية السعودية

جميل البارودي (الشرق الأوسط)
جميل البارودي (الشرق الأوسط)

بخطاباته الطويلة التي تمتزج فيها فصاحته بمعلوماته التاريخية، وقف جميل البارودي على منبر الأمم المتحدة ممثلاً للدبلوماسية السعودية لثلاثة عقود، متمتعاً بقوة الحجة وصلابة الشخصية، دون أن تفارقه مسحة المرح والنكتة اللاذعة، وهو ينتقل بالحديث بين كل الملفات وقد ألم بتفاصيلها، وأحاط بمعلوماتها.

كانت منظمة الأمم المتحدة، طيلة ثلاثين عاماً هي المنصة التي قدَّمت شخصية جميل البارودي إلى العالم، وذلك بعد أن أخذ الملك فيصل بن عبد العزيز بيده، وقدّمه إلى هذه المنظمة، ثقةً به وإيماناً بقدراته ومواهبه، ومعرفةً بإخلاصه وتفانيه.

كاتب السير السعودي محمد السيف، يتناول في كتابه «جميل البارودي سيِّد الأُمم المتحدة»، عبر 260 صفحة، مسيرة هذا الدبلوماسي العتيد من مولده في سوق الغرب في جبل لبنان عام 1905 حتى وفاته عام 1979 في نيويورك، مروراً بجذور عائلته ونشأته وتعليمه، ووقوفاً عند أهم محطة في حياته، حينما تعرّف إلى الأمير (الملك) فيصل بن عبد العزيز عام 1939.

البارودي خلال إحدى جلسات المنظمة ( موقع مكتبة الكونغرس)

نشأة في أجواء ثقافية

ونعرف من هذه السيرة أن جميل مراد البارودي فقد والده وعمره 13 عاماً، ودرس في المدرسة العالية، ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت، وتخرَّج فيها عام 1926، متخصصاً في الكيمياء.

ونشأة البارودي في طفولته وفترة شبابه المبكر ما بين بلدة سوق الغرب وبيروت في أجواء ثقافية وأدبية، كان لها الأثر البالغ في تكوينه الفكري.

بعد ذلك، أمضى سنوات هجرته ما بين بريطانيا وفرنسا بين العمل في التجارة ومتابعة ما يدور من أحداث في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً في لبنان، وسوريا، وفلسطين، وهي أحداث ستنقل المنطقة إلى طور آخر من تشكُلها.

في أثناء إقامة البارودي في بريطانيا، بعد سفره إليها، تعرَّف إلى الأمير فيصل بن عبد العزيز، خلال زيارة الأمير بريطانيا، حينما رأسَ وفد بلاده المشارك في مؤتمر الدائرة المستديرة في لندن في شهر فبراير (شباط) من عام 1939.

وكانت المسألة الفلسطينية هي القضية المطروحة للنقاش على أعمال المؤتمر.

وفي زيارة أخرى للأمير فيصل إلى نيويورك التي تعد الأولى له، وكان يحمل رسالة من والده الملك عبد العزيز إلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، توثقت العلاقة مع البارودي، الذي غادر هو الآخر خلال هذه الفترة، بريطانيا واستقر في نيويورك، وسعى في أثناء وجوده هناك لمقابلة الأمير فيصل، وصحبه في عدد من تنقلاته.

كان الأمير فيصل حينذاك قد بلغ السابعة والثلاثين من عمره، في حين كان جميل البارودي قد أتمّ الثامنة والثلاثين، مما يعني أنهما متقاربان في العُمر، وبالتالي تقاربا في الأفكار والآراء، خصوصاً تجاه القضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

وبعد سلسلة من اللقاءات ورحلات السفر، كلَّف الأمير فيصل، البارودي بالبدء بتأسيس المكتب السعودي في نيويورك، وهو المكتب الذي يحتضن الوفد السعودي الدائم لدى هيئة الأمم المتحدة، وقد أَسَّس جميل البارودي المكتب السعودي في نيويورك، وبدأ باستقطاب الكفاءات من ذوي التخصصات في القانون والاقتصاد والسياسة والإدارة، وبدأت فصول قصة دبلوماسيّة، مميزة ومثيرة، امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً ما في ردهات هذه المنظمة الدولية.

قرار تقسيم فلسطين

مع الوقت، بدأت تتضح ملامح شخصية البارودي ومواقفه في المنظمة الدولية، وقد تركت خطاباته ومداخلاته بخطاباته أثراً كبيراً في كل ما استمع إليه، هذه الخطابات التي لامست كل قضايا الساعة، ومن أبرزها القضية الفلسطينية التي كانت ساخنة وقتذاك.

وقد وثَّق الكتاب، تصدي البارودي لقرار تقسيم فلسطين، داعياً في مداخلاته إلى اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، معتبراً أن تقسيم فلسطين عام 1947 هو قرار فُرض على العالم، وقاد الفلسطينيين للبحث عن ملاجئ في البلدان المجاورة، وأن الصهاينة يستغلون الدين لإحكام سيطرتهم على الشرق الأوسط، ولكنهم يجب أن يتعلموا الدروس من التاريخ، حيث لا يمكن الجمع بين الزمني والروحي.

واستدعى من فشل محاولات سابقة لاستخدام الروحي في سبيل الزمني، مشيراً إلى فشل الصليبيين في احتلال الأرض المقدسة.

ودعا البارودي في أحد مواقفه الكثيرة على منبر الأمم المتحدة، إلى إعادة النظر في بعض بنود الميثاق العالمي لحماية حقوق الإنسان، ومن ذلك المادة التي تتصل بحقوق الفرد الاجتماعية.

وعند بحث هذه النقطة تكلَّم مندوب السعودية جميل البارودي، ولفت النظر إلى أن الميثاق على الجملة لا يلائم المبادئ والعادات ومفهوم الحقوق والواجبات التي يَدين بها المجتمع السعودي، وهي مبادئ وعادات تختلف، في بعض الأحوال، اختلافات جوهرية عن المبادئ التي نصَّ عليها الميثاق، والمستمدة من الحضارة الغربية والتراث الغربي.

مع أبناء الملك فيصل

في نهاية الخمسينات، ومطلع الستينات الميلادية، بدأ بعض أبناء الملك فيصل بن عبد العزيز يتوافدون على أميركا للدراسة. وقد عهد الملك فيصل إلى جميل البارودي بمهمة ومسؤولية متابعة دراسة أبنائه، مع إرسال تقرير شهري عن كل واحد منهم، وعن حالته التعليمية.

ورصد الكتاب بعض المواقف التي جمعته مع الأمير خالد الفيصل، والأمير سعود الفيصل، التي كان فيها البارودي دقيقاً في الحد من الإهمال والحث على الجد والاجتهاد.

في 1979، دخل البارودي مستشفى «لينوكس هيلو»، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة. وقد نعاه الدكتور كورت فالدهايم، الأمين العام للأمم المتحدة، قائلاً: «إن الأمم المتحدة قد خسرت واحداً من أقدم أصدقائها وأكثرهم تمتعاً بحب الآخرين، إن ذكاء السفير البارودي وبلاغته ومدخراته الواسعة من المعلومات جعلته منذ وقت طويل علامة مألوفة ومحبوبة في الأمم المتحدة».

وقد وجّه كورت فالدهايم بإنزال عَلَم منظمة الأمم المتحدة إلى نصف السارية تقديراً وتثميناً لجهود جميل البارودي، بعد أن أمضى البارودي نحو ثلاثين عاماً في ردهات المنظمة، منافحاً عن السعودية وصادحاً بصوت الحق من أجل القضايا العادلة.


مقالات ذات صلة

في الحبّ... وفلسفته

كتب إيريس مردوك

في الحبّ... وفلسفته

الحب! ليس بيننا على الأغلب من لم يعِشْه فيما مضى، أو يعيشه اليوم. نراه في كل مكان يُحتفى به على أساس أنه «التجربة الأكثر أهمية في الحياة الإنسانية».

لطفية الدليمي
كتب  جون كاسيدي في محاضرة له

جون كاسيدي يؤرّخ للرأسمالية بلسان منتقديها

في عصر تزداد فيه التساؤلات الجوهرية حول ماهية أزمات النظام الاقتصادي العالمي بفعل تحديات مثل الذكاء الاصطناعي، وتغير المناخ، وازدياد عدم المساواة، والحروب...

ندى حطيط
ثقافة وفنون عيسى مخلوف

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

لعلني لا أجافي الحقيقة في شيء إذا نوهت في بداية هذه المقالة بأن مسارعتي لقراءة إصدار عيسى مخلوف الجديد «باريس التي عشت» لا تعود إلى جاذبية المدينة المعنية

شوقي بزيع
ثقافة وفنون «ابن خلدون»... زيارة جديدة بعيون فرنسية

«ابن خلدون»... زيارة جديدة بعيون فرنسية

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «ابن خلدون – فلسفته الاجتماعية» لعالم الاجتماع الفرنسي جوستون بوتول

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب مؤرخ فرنسي يكتب شهادته عن جحيم غزة

مؤرخ فرنسي يكتب شهادته عن جحيم غزة

في ليلة من ليالي ديسمبر (كانون الأول) 2024، نجح المؤرخ الفرنسي جان بيار فيليو في دخول غزّة عبر منطقة رفح الحدودية، رغم الحصار المشّدد والموانع الأمنية.

أنيسة مخالدي (باريس)

موسيقى البشر إعادة إنتاج لموسيقى الطبيعة؟

موسيقى البشر إعادة إنتاج لموسيقى الطبيعة؟
TT

موسيقى البشر إعادة إنتاج لموسيقى الطبيعة؟

موسيقى البشر إعادة إنتاج لموسيقى الطبيعة؟

في كتابه «الموسيقى والعقل» الصادر أخيراً عن «دار العربي» بالقاهرة، ترجمة أماني مصطفى، يطرح الباحث والملحن الكندي ميشيل روشون تساؤلات تغوص في عمق تلك العلاقة الملتبسة والواعدة بالمفاجآت حول أصل الموسيقى وعلاقتها بالكون وتأثيرها على الحضارة الإنسانية بشكل عام، مشيراً إلى أننا في علاقتنا اليومية بهذا الفن ربما نعدّه سلعة استهلاكية نأخذها في كثير من الأحيان أمراً مسلماً به، ومع ذلك فتقريباً نحن جميعاً مدمنون على هذا المخدر الخفيف المسكر الذي يؤثر علينا بعدة طرق.

ولمحاولة تعريفها ببساطة، يطرح المؤلف فكرة أن الموسيقى التي ينتجها الإنسان عبارة عن سلسلة من الموجات الصوتية المنظمة التي تنتقل في الهواء، لذلك يمكننا أن نطرح على أنفسنا سؤالاً مشروعاً من منظور كوني: هل يمكن للموسيقى أن توجد في مكان آخر غير كوكب الأرض؟ وحتى إذا لم يكن علماء الفيزياء الفلكية قد رصدوا حتى الآن إشارة قادمة من حضارة أخرى خارج كوكب الأرض، فإن كثيرين منهم رصدوا عبر الكون الفسيح تحول الموجات الكهرومغناطيسية إلى موجات تشبه في بنيتها بنية الموسيقى بشكل غريب.

رائدة هذه التقنية امرأة لها قصة مؤثرة هي «واندا دياز ميرسيد» التي وُلدت منذ نحو 40 عاماً لعائلة فقيرة في بورتوريكو، فتاة شابة تحلم بأن تصبح رائدة فضاء وهي شغوفة بفيزياء الفلك ولكنها أصيبت بداء سكري اليافعين الذي هاجم عينيها تدريجياً فأصيبت بالعمى خلال فترة دراستها للفيزياء الفلكية بالجامعة، ولم يعد بإمكانها رؤية النجوم ولا قراءة البيانات التي سجلتها في دفتر ملحوظاتها عند الرصد بالتلسكوب.

كانت في العشرينات من عمرها والغريب أنها لم تشعر بالإحباط، بل على العكس من ذلك لقد استخدمت إعاقتها لإعادة تعريف طريقة دراسة النجوم، وقررت أن تحول نتائج ملحوظاتها عن الموجات الكهرومغناطيسية المنبعثة من النيازك العظمى إلى موجات صوتية، ساعدها في ذلك أنها متخصصة في النيازك العظمى. وما اكتشفته كان مذهلاً على أقل تقدير، حيث لا يوجد عبر الفضاء المترامي مؤلف موسيقي يعمل هناك، ولا يوجد عازف مزود بأدوات لكن الطبيعة نفسها هي التي يبدو أنها تعطي شكلاً لتلك الأمواج بهيكل مشابه لهيكل الموسيقى إلى حد كبير.

وحتى اليوم، لا يزال العلماء يكتشفون المزيد حول هياكل الأنظمة الشمسية والنجوم النابضة والنجوم الثنائية وآلية التناغم، كما أن تحويل البيانات إلى موجات صوتية يؤكد لنا أن الموسيقى التي أتقنها البشر هي إعادة إنتاج لموسيقى الطبيعة.

من ناحية أخرى، قدم علماء الآثار والأنثربولوجيا الفرضية القائلة بأن البشر الأوائل استخدموا الموسيقى أداة ثقافية لتقوية الترابط الاجتماعي وهي قادرة على صنع التاريخ أحياناً. لكن اللافت أن النظرية المركزية التي يحاول علماء الأعصاب تأكيدها من خلال التصوير الوظيفي للدماغ هي نظرية وجود «دماغ موسيقي» داخل دماغنا. والحقيقة أنه لا يوجد عقل موسيقي حقيقي، بل مجموعة من المناطق في الدماغ التي تتفاعل مع الموسيقى وتحلل مكوناتها الهيكلية المختلفة وطبقاتها وتناغمها وإيقاعاتها، بالإضافة إلى العواطف التي تثيرها، والتي ندركها بعد ذلك على أنها شيء واحد.

ويروى المؤلف قصة لقائه مع أخصائية علم النفس العصبي إيزابيل بيريتز قبل 20 عاماً، الذي كان محدداً في رغبته لفهم تأثير الموسيقى على دماغنا من واحدة من الباحثين الرائدين في علم النفس العصبي، التي أنشأت مع زميلها روبرت زاتور من جامعة «ماكجيل» مركز «المختبر الدولي لأبحاث الدماغ والموسيقى والصوت». تفترض إيزابيل أن الموسيقى تمثل سمة أساسية في التنظيم الاجتماعي للبشرية لدرجة أنه يوجد سبب للاعتقاد بأن نظرية الانتقاء الطبيعي، إحدى الآليات الرئيسية لتطور الأنواع، قد تم تطبيقها على الموسيقى لأنها تعزز الترابط الاجتماعي. وهكذا ابتكر الملحنون منذ أقدم العصور مقطوعات للأحداث العظيمة التي توحدنا مثل الموسيقى الدينية والموسيقى العسكرية وموسيقى الغزل والموسيقى الثورية، بالتالي فقد جمع هذا النوع من الفن البشرية حول المراحل الرئيسية من الحياة على الصعيدين الفردي والجماعي.

المؤلف ميشيل روشون من مواليد عام 1959 بمقاطعة كيبيك الكندية، درس علم وظائف الأعضاء في عدد من الجامعات، كما حصل على العديد من الجوائز والترشيحات عن كتاباته في العلاقة بين الفن والعلم.